مقدمة

شكّلت النهج والطرائق المنهجية اهتمامًا رئيسًا في ميدان التربية المقارنة منذ نشأته بوصفه ميدانًا علميًا مستقلًا، إذ شهدت كل حقبة تركيزًا مختلفًا، بينما حمل القرن الحادي والعشرون رؤى جديدة، وأدوات متطوّرة، ومنصات موسّعة للتبادل العلمي، منها ما ارتبط بتأثيرات العولمة وتحوّلات دور الدولة، ومنها ما تمثّل في تطور تكنولوجيا المعلومات ووسائل النقل، فضلًا عن الوسائط الجديدة للنشر الأكاديمي مثل الإنترنت والمجلات الإلكترونية.

ترسم هذه المقدمة إطارًا تمهيديًا للكتاب، وتبدأ بمنظورات تاريخية تسلط الضوء على بعض الأعمال في الميدان، مع الإشارة إلى التحولات التي شهدها هذا الميدان عبر الزمن، وتركّز بشكل خاص على إسهامات الأكاديميين باعتبارها محور اهتمام هذا الكتاب، ثم تنتقل إلى ملامح القرن الحادي والعشرين وما يتصل به من ديناميات ناشئة وتحوّلات في محاور التركيز، وتختتم بعرض محتويات الكتاب واستجلاء أبرز سماته وإسهاماته.

بعض المنظورات التاريخية

أكّد (جورج بيرداي) في مستهلّ عمله الراسخ الطريقة المقارن في التعليم (1964، ص 7) أنّ التربية المقارنة انطلقت نحو المرحلة الثالثة من تطوّرها المنهجي، وبيّن أن المرحلة الأولى امتدت على مدار القرن التاسع عشر، وبدأت عام 1817 مع (مارك أنطوان جوليان دي باريس) الذي يُعدّ أول مُربٍّ مقارن فكر بطريقة علمية، واصفًا تلك المرحلة بمرحلة الاستعارة، إذ ركّزت على جمع بيانات وصفية منظّمة، أعقبها إجراء مقارنات بهدف إتاحة أفضل الممارسات المعتمدة في أحد البلدان لنقلها إلى بلدان أخرى.

وصف (بيرداي) المرحلة الثانية من تطوّر التربية المقارنة بأنها امتدت خلال النصف الأول من القرن العشرين، وفرضت إدراج مرحلة تحضيرية تسبق تبنّي أي نظام تعليمي خارجي، وقد أسّسها (السير مايكل سادلر) في المملكة المتحدة، مؤكدًا أن نظم التعليم تتشكّل ضمن سياقات اجتماعية معقّدة، كما يظهر في عمله الصادر عام 1900، ثم تبِعه علماء عديدون أوردهم (بيرداي)، منهم (فريدريش شنايدر) و(فرانز هيلكر) في ألمانيا، و(إسحق كاندل) و(روبرت أوليش) في الولايات المتحدة، و(نيكولاس هانز) و(جوزيف لاوريس) في المملكة المتحدة، و(بيدرو روسيّو) في سويسرا، وقد أولوا جميعًا مزيدًا من الاهتمام للقوى المجتمعية الكامنة خلف الظواهر التربوية. وأطلق (بيرداي) على هذه المرحلة اسم "مرحلة التنبؤ".

وصَف (بيرداي) المرحلة الثالثة بمرحلة التحليل، مبيّنًا أنها ترتكز على "تطوّر النظرية والطرائق، وصياغة واضحة لخطوات الإجراءات المقارنة والوسائل التي تساهم في توسيع الرؤية"، كما بيّن (بيرداي) لاحقًا في كتابه (1964، ص 9) أن هذه المرحلة التاريخية الجديدة تمثّل استمرارًا للخط الفكري لمرحلة التنبؤ، لكنها تفترض أنه "قبل الشروع في التنبؤ أو الاستعارة، لابد من تنظيم هذا الميدان تنظيمًا منهجيًا يُتيح الكشف عن المشهد الكامل للممارسات التعليمية الوطنية"، وقد أسهم كتاب (بيرداي) نفسه إسهامًا كبيرًا في ترسيخ هذا التوجّه التحليلي، ولا يزال يُعدّ من القراءات الأساسية في كثير من المقررات الدراسية المتخصصة في التربية المقارنة، ولا يزال يحمل في طيّاته الكثير ممّا يمكن الاستفادة منه، بل إن أحد المشاركين في هذا الكتاب (مانزون – الفصل الرابع) بدأت عملها بتحليل طريقة (بيرداي) ذات الخطوات الأربع للتحليل المقارن.

لم يحظَ التصنيف الزمني الذي طرحه (بيرداي) آنذاك بقبول مطلق في الأوساط الأكاديمية، فبينما قبله بعض الباحثين، شكّك آخرون في منطق الترتيب الزمني للمراحل، ولم يتفقوا على أن مرحلة التنبؤ أزاحت مرحلة الاستعارة، أو أن التحليل حلّ محل التنبؤ في تطوّر التربية المقارنة.

قُدمت ملاحظات مماثلة حول المراحل الخمس لتطوّر ميدان التربية المقارنة في عام 1969، في عمل راسخ في الأدبيات التربوية بعنوان نحو علم للتربية المقارنة لـ(نوا) و(إكشتاين) (1969، ص 3–7)، فقد مثّلت المرحلة الأولى ما عُرف بـ"حكايات الرحّالة"، وفيها قدّم هواةٌ معلومات عن طرائق تربية الأطفال في بلدان أجنبية ضمن أوصاف أوسع للمؤسسات والممارسات السائدة هناك، تلتها المرحلة الثانية التي برزت مع مطلع القرن التاسع عشر وتمثّلت في الاستعارة التربوية، ثم المرحلة الثالثة التي تمحورت حول تقديم أعمال موسوعية عن نظم التعليم في الدول الأجنبية بهدف تعزيز الفهم الدولي، وأشار (نوا) و(إكشتاين) (ص 4) إلى أن مطلع القرن العشرين شهد ظهور مرحلتين إضافيتين، انشغلت كلتاهما بمحاولة تفسير التنوّع الواسع في الظواهر التعليمية والاجتماعية حول العالم، حيث سعت المرحلة الأولى إلى تحديد القوى والعوامل التي تؤثر في تشكيل النظم التعليمية الوطنية، في حين أُطلق على الثانية اسم "مرحلة التفسير بالعلوم الاجتماعية"، وفيها تُستخدم الطرائق الكمية والتجريبية المستندة إلى الاقتصاد والعلوم السياسية وعلم الاجتماع لتوضيح العلاقات بين التعليم والمجتمع.

أجمع كثير من الباحثين على فائدة هذا التصنيف الزمني، لكن القبول بفكرة المراحل المتتابعة التي تحلّ كل واحدة منها محل التي سبقتها لم يكن بنفس القدر. أوضح (نوا) و(إكشتاين) (ص 4) أن هذا التصنيف لا يفترض وجود فواصل زمنية حادّة بين المراحل، وأن كل نمط من أنماط العمل في التربية المقارنة لا يزال قائمًا ويمكن رصده في الأدبيات المعاصرة. ومع ذلك، بدا واضحًا أن الطرح التاريخي للمراحل طغى على هذا التوضيح، إذ منحت طريقتهم في العرض وزنًا أكبر لتعاقب الفترات من التركيز على التداخل بينها. ومن منظور أكثر نضجًا بعد مرور عقود، يتّضح أن الفئات الخمس ما زالت حاضرة بقوة في الأدبيات، بل يرى بعض الباحثين أنها تشكّل مراحل متمايزة في تطوّرهم المهني، ينتقلون فيها من تصورات أولية إلى تحليلات أكثر عمقًا، بينما يظلّ هذا الميدان في مجمله انتقائيًا، ومتباينًا في النهج، ودرجة التعقيد.

شهد ميدان التربية المقارنة، مع صدور هذين الكتابين وما تبعهما من أعمال خلال ستينيات القرن العشرين (مثل: (كينغ) 1964، و(بريستو) و(هولمز) 1968)، انطلاقة مرحلة من الجدل المعمّق حول المنهجية، غير أن هذا الجدل لم يُخض بالوتيرة نفسها في مختلف أنحاء العالم، إذ اتّخذت النقاشات في الدول الناطقة بالإنجليزية مسارًا مغايرًا لما شهدته البيئات الناطقة بالعربية أو الروسية أو الصينية (بن حميدة 1990، جورينسكي 1998، وانغ 1998). وأسهم البحث التربوي في السياق الإنجليزي في توجيه هذا النقاش، ما يضعه في صلب التحوّلات التي شهدها هذا الميدان. وتحوّلت اللغة الإنجليزية منذ تلك المرحلة إلى وسيلة للتواصل الأكاديمي جمعت باحثين من خلفيات لغوية متعدّدة، وازداد حضورها بمرور الوقت حتى أصبحت من أبرز لغات الخطاب العلمي في هذا الميدان. وبرز في هذا السياق عمل مهم باللغة الإنجليزية نجم عن اجتماع نُظّم عام 1971 في معهد اليونسكو للتربية بمدينة (هامبورغ) في ألمانيا، أشرف عليه (تيتسويا كوبايشي)، وهو باحث ياباني مرموق في التربية المقارنة وكان يشغل آنذاك منصب مدير المعهد، وضمّ الاجتماع مشاركين من ألمانيا وفرنسا وإسرائيل وبولندا والسويد وسويسرا، إلى جانب مشاركين من دول ناطقة بالإنجليزية مثل كندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.

أثمر ذلك اللقاء عن إصدار كتاب بعنوان الطرائق ذات الصلة في التربية المقارنة (إدواردز وآخرون 1973)، وهو عمل لا يكتفي بعرض الجدل المنهجي الذي شهده الميدان في تلك المرحلة، بل يُعد أيضًا من العلامات البارزة في مسار تطوّره. وقد تضمّن هذا الكتاب جملة من المواقف النقدية، من أبرزها ما عبّر عنه (باربر) (1973، ص 57) حين هاجم مفهوم "علم التربية المقارنة" كما قدّمه (نوا) و(إكشتاين)، واعتبره طرحًا مفرطًا في النزعة الوضعية ومقيّدًا بأساليب تحكّمية صارمة، في حين أشار (هولز) (1973، ص 119) إلى أن المتخصصين في هذا الميدان يواجهون ارتباكًا في تحديد هويتهم المعرفية بسبب تعدّد التصنيفات المرتبطة بهم، مثل: "الاستقرائي"، و"حل المشكلات"، و"الكمّي". أما (نونان) (1973، ص 199) فقد جادل لصالح النموذج الإرشادي البديل الذي تمثّله الأعمال الناشئة للرابطة الدولية لتقويم التحصيل الدراسي (IEA).

برز هذا التنوع أيضًا في العدد الخاص الذي أصدرته المجلة الأمريكية مراجعة التربية المقارنة (Comparative Education Review) عام 1977 بعنوان "حال الميدان" (المجلد 21، العددان 2 و3)، والعدد الخاص الموازي من المجلة البريطانية التربية المقارنة (Comparative Education) بعنوان "التربية المقارنة: حالتها الراهنة وآفاقها المستقبلية" (المجلد 13، العدد 2، 1977). ويُحتمل أن يكون محرّرو المجلة البريطانية قد وافقوا على ما ورد في مقدّمة محرري المجلة الأمريكية (كازاميس وشوارتز 1977، ص 151).

هناك شكوك حول طبيعة التربية المقارنة وحدودها وقيمتها العلمية، بدأت تُسمع في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وهي المرحلة التي شهدت بدايات السعي لترسيخها باعتبارها ميدانًا دراسيًا يتمتع بمكانة أكاديمية. حتى ذلك الوقت كان من الممكن التعرف على شخصيات مرجعية يُنظر إليها بصفتها مصدرًا موثوقًا، إلى جانب أعمال مكتوبة عرّفت التربية المقارنة وحدّدت ملامحها ونسّقت موضوعاتها. من أبرز تلك الأسماء (آي. إل. كاندل) من خلال كتابيه التربية المقارنة (1933) والعصر الجديد في التربية (1955)، و(نيكولاس هانز) في كتابه التربية المقارنة: دراسة في العوامل والتقاليد التربوية (1949). أمّا اليوم، فلم يعد ممكنًا الحديث عن جسم داخلي متسق من المعرفة، أو مبادئ وقواعد بحثية متفق عليها بين المهتمين بهذا الميدان، بل نجد أطيافًا متعددة من الفِكَر والنظريات والاتجاهات، لا ترتبط بالضرورة ببعضها البعض.

وبعد عقد من إصدار ذلك العدد، صدرت مجموعة متابعة من المقالات التي نُشرت في المجلة الأمريكية مراجعة التربية المقارنة (Comparative Education Review) منذ عدد "حال الميدان" عام 1977، وأشارت تلك المجموعة إلى أنّ الميدان اتسع نطاقه أكثر فأكثر. وقد لاحظ المحرّران (ألتباخ وكَلي 1986، ص 1) ما يلي:

لا توجد منهجية واحدة للدراسة في هذا الميدان، بل باتت سِمته البارزة تنوّع التوجهات البحثية وتعدّدها. ولم تَعُد هناك محاولات لتحديد منهجية موحّدة للتربية المقارنة، كما لا يجادل أيًّا من العلماء المساهمين في الميدان في إمكان تطوير منهج واحد حتى يتحول إلى قانون معتمد.

طرحت (ماسمان 1986) في هذا الكتاب دفاعًا عن المنهج الإثنوغرافي النقدي، وركّز (ثايسن وآخرون 1986) على قصور الدراسات المقارنة في قياس التحصيل الدراسي عبر الدول، في حين ناقش (إبستين 1986) الأيديولوجيا في التربية المقارنة تحت عنوان: "تيارات من اليسار واليمين". أما الفصل الختامي الذي أعدّه المحرّران (كيلي وألتباخ 1986، ص 310) فقد أكّد أن ثمة أربعة أنماط من التحديات بدأت تبرز في وجه التقاليد البحثية الراسخة.

أورد المحرّران (ألْتبخ وكيلي 1986، ص 1) أن البحوث المقارنة بدأت تتناول الفروقات داخل البلد الواحد إلى جانب المقارنات العابرة للحدود، لكن الكتاب لم يقدّم ما يدعم هذا الطرح بأمثلة واضحة، فرغم أن هذا التوجّه اكتسب حضورًا أوسع في التسعينيات وما بعدها، وقد وردت بعض الإشارات إليه في هذا الكتاب، إلا أنه لم يكن من سمات مرحلة الثمانينيات أو الفترات التي سبقتها.

رؤى وتحوّلات في القرن الجديد

نشرت مجلة التربية المقارنة (Comparative Education) الصادرة في المملكة المتحدة عددًا خاصًا في عام 2000 بعنوان "التربية المقارنة في القرن الحادي والعشرين" (المجلد 36، العدد 3)، وتناول تطوّر هذا الميدان منذ عدد عام 1977 المُشار إليه، وافتُتِح ذلك العدد بمقالة كتبها (كروسلي) و(جارفيس) أشارا فيها إلى أن (2000، ص 261):

برزت أهمية الحفاظ على الاستمرارية مع الماضي بوصفها إحدى القضايا المحورية في مقالات ذلك العدد، وتردّدت في كثير من المساهمات قضايا أساسية طُرحت في عام 1977 ولا تزال تحافظ على راهنيتها، ومن أبرزها: الطابع المتعدد التخصصات للميدان وقابليته للتطبيق العملي، وتعقيدات هذا النوع من الدراسات، ومخاطر إساءة توظيف النتائج، وأهمية التحليل النظري والانضباط المنهجي، إضافةً إلى الإمكانات المرتبطة بصياغة السياسات – وهي إمكانات كثيرًا ما أُسيء فهمها أو لم تتحقق فعليًا – فضلًا عن استمرار مركزية مفهومي السياق الثقافي والنقل التربوي للميدان بأكمله.

أشار (كروسلي) و(جارفيس) في الوقت ذاته إلى أن العالم قد شهد تغيّرات جذرية، وبيّنا في الموضع نفسه (2000، ص 261) أن معظم المساهمين في العدد الخاص لعام 2000 نظروا إلى مستقبل التربية المقارنة بنظرة أكثر تفاؤلًا لكنها أكثر تعقيدًا أيضًا مقارنةً بما كان عليه الحال في عام 1977، وأرجعوا ذلك إلى تداخل مجموعة من العوامل، وبشكل خاص إلى:

النمو المتسارع في البحوث المقارنة الدولية وتوسّع نطاق الاهتمام بها، إلى جانب التطورات في تقنيات الاتصال والمعلومات، وتزايد الوعي بالبُعد الثقافي في التعليم، وما فرضته العولمة من تأثير متزايد على جميع أوجه المجتمع والسياسات الاجتماعية في مختلف أنحاء العالم.

وقد أصبحت هذه العوامل أكثر تأثيرًا، ولا يزال هذا المسار مستمرًا حتى العقد الحالي.

أدّى الانتشار المتسارع للتكنولوجيا إلى تحسين كبير في الوصول إلى المواد العلمية، ورغم استمرار المخاوف من "الفجوة الرقمية"، فقد خفّف ذلك من حدة التحديات التي يواجهها الباحثون في المناطق البعيدة عن المكتبات ومصادر البيانات. كما أشار (ويلسون) (2003، ص 30):

غيّرت مواقع الإنترنت التابعة للمنظمات الدولية والهيئات الإحصائية الوطنية طريقة إنجاز البحوث الأساسية في هذا الميدان تغييرًا جذريًا، وأسهم تطوّر محركات البحث على الشبكة في تعزيز قدراتنا البحثية.

وسّعت التكنولوجيا نطاق تأثير التربية المقارنة، وأتاحت نتائج الباحثين وتحليلاتهم لجمهور أوسع من أي وقت مضى عبر المجلات الإلكترونية والمواقع وسائر الوسائط الرقمية، غير أن الإنترنت فرض تحديات موازية، ومن أبرزها التركيز على اللغة الإنجليزية، مما أسهم في ترسيخ هيمنتها (موهوبي 2005؛ تيتزه وديك 2013).

شهدت مراكز الثقل المعرفي في العالم تحوّلات لافتة، ويُعتبر عادةً أن الجذور الرئيسة لهذا الميدان تكمن في غرب أوروبا، قبل أن تنتقل إلى الولايات المتحدة، ثم إلى مناطق أخرى من العالم حيث غدت مجالًا بحثيًا معترفًا به (مانزون 2011). وقد اتّخذت الأنماط الآسيوية في العصر الراهن منحًى لافتًا، حيث تمتلك اليابان وكوريا جمعيتين وطنيتين للتربية المقارنة منذ ستينيات القرن العشرين، كما ظهرت في السنوات اللاحقة جمعيات ناشئة في الصين القارية، وهونغ كونغ، وتايوان، والفلبين. وبدأت القارة الآسيوية تحظى منذ عام 1995 بجمعية إقليمية تُعنى بالتربية المقارنة (موشيدا 2007)، واتّسم نموّ النشاط في الصين وهونغ كونغ بوضوح لافت (براي وجوي 2007؛ مانزون 2013)، ما أتاح بروز رؤى جديدة تعكس تعدّد التقاليد العلمية وتنوّع الأولويات الاجتماعية.

أشار (كروسلي) و(جارفيس) في العدد الخاص الذي صدر بمناسبة دخول الألفية الجديدة من مجلة التربية المقارنة (Comparative Education) (2000، ص 263) إلى أن الميدان بات يشهد توجهات جديدة تشمل قضايا معرفية حديثة، وإمكانيات أوسع للتحليل متعدد المستويات، بما في ذلك المقارنات العالمية، والدولية، وعلى المستوى المصغر. وقد توسّع (كروسلي) في تناول هذه الرؤية من خلال ورقته البحثية الفردية المنشورة ضمن العدد نفسه (2000، ص 328) حيث أوضح أن:

رغم تزايد الجهود الرامية إلى تعزيز البحوث الميدانية النوعية الدقيقة، والدراسات الإقليمية، ما تزال الدولة القومية الإطار المُهيمن في أغلب الأعمال المنشورة، ولا تزال المقارنات متعددة المستويات تحظى باهتمام محدود ولم تُطرح بصورة صريحة إلا نادرًا.

سلّط (كروسلي) الضوء على ورقة بحثية نشرها كل من (براي) و(توماس) عام 1995، شدّدت على قيمة التحليل متعدد المستويات، وأوصى بمنحها اهتمامًا أكبر. وقد ارتكزت الورقة البحثية على مجسّم مكعّب يوضّح أبعاد المقارنة ومستوياتها. وتشير عدّة فصول من هذا الكتاب صراحةً إلى هذه الورقة البحثية، بل تشكّل في كثير من المواضع محورًا رئيسًا في بنية الكتاب. أما الفصل الختامي، فيُعيد تناول المكعّب ويعيد تقييمه في ضوء إسهامات الكتّاب المشاركين في هذا العمل.

شكّل صدور الدليل الدولي في التربية المقارنة (كووين وكازامياس 2009أ) مَعلَمًا مُهمًا آخر في الأدبيات التربوية، وقد جاء هذا العمل في مجلدين ضخمين يضمان ثمانين فصلًا. خصّص المحرّرون الجزء الأول للمواد ذات الطابع التاريخي، وركّزوا في الجزء الثاني على القضايا المستجدة. وأكّدوا في المقدمة التحريرية للدليل (كووين وكازامياس 2009ب، ص 4) أن:

يُبيّن المجلدان أن مفهوم "التربية المقارنة الجيدة" قد تغيّر بمرور الزمن، ويُحلّلان تحوّلات الأجندات الأكاديمية، وتبدّل زوايا التركيز، وتنوّع اللغات المعرفية التي صيغ بها هذا الميدان. كما يطرحان تساؤلات جوهرية عن دوافع هذا التحوّل: لماذا تحدث تلك التحوّلات؟ ولماذا تغيّر التربية المقارنة اهتماماتها المعرفية، وصورتها عن العالم، وطموحاتها في التأثير فيه؟ ويُوضّحان كيف تستجيب التربية المقارنة للتقلّبات السياسية والاقتصادية في الواقع العالمي، فضلًا عن التيارات الفكرية التي تهيمن في أزمنة وأماكن معيّنة.

تضمّن الجزء الثاني من الكتاب قسمًا محوريًا خُصِّص لتحليل ما بعد الاستعمار، وقسمًا آخر تناول الثقافة والمعرفة وأساليب التعليم. اشتمل القسم الأول على فصول تناولت المناهج الدراسية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، بينما تطرّق القسم الثاني إلى الأديان والقيم. أمّا الفصول اللاحقة، فقد تناولت موضوعات مثل رسم خرائط التربية المقارنة، والدراسات بين الثقافات، وأهمية السياق، ووحدة الأفكار في التربية المقارنة. لم تسعَ صفحات المجلّدين لاحتواء الميدان برمّته، وهو ما أشار إليه المحرّران بوضوح في خاتمة العمل (كوين وكازامياس 2009ج، ص 1295):

ليس الهدف من هذا الدليل تجميد ميدان التربية المقارنة أو فرض معايير ثابتة عليه، بل إعادة طرحه وتوسيع أفق التفكير فيه؛ فثمّة رؤى ومناهج جديدة لم يتطرق إليها هذا العمل، لكنها حتمًا ستتبلور لاحقًا.

من بين غايات هذا الكتاب أن يُقدّم للباحثين من الأجيال الجديدة ما يُمكّنهم من توسيع حدود المعرفة واستكشاف مسارات لم تكن مطروحة في السابق.

مكعّب التحليل المقارن (براي وتوماس)

يعرض الشكل النموذج الذي قدّمه (براي) و(توماس) في ورقتهما البحثية المنشورة عام 1995 (ص 475)، بعنوان: "مستويات المقارنة في الدراسات التربوية: رؤى متعددة من أدبيات مختلفة وقيمة التحليل متعدد المستويات". بدأت الورقة بالإشارة إلى أنّ الميادين المختلفة التي تندرج تحت مظلّة الدراسات التربوية الكبرى تُولي اهتمامًا متفاوتًا بالجوانب المنهجية والمفاهيمية، وأنّ مستوى التفاعل والتبادل المعرفي بينها ظلّ محدودًا نسبيًا. فقد هيمنت المقارنات عبر الدول على ميدان التربية المقارنة، بينما لم تُستخدم المقارنات داخل الدولة إلا بدرجة محدودة. وقد ركّزت العديد من التخصّصات التربوية الأخرى على الأبعاد المحليّة، ولم تستفد من الرؤى التي يمكن أن تتيحها الدراسات الدولية المقارنة. وقد نبّهت الورقة البحثية إلى أنّ ميدان التربية المقارنة، رغم هيمنة الطابع العابر للحدود عليه، إلّا أنّ معظم التخصّصات الأخرى كانت تفتقر إلى مثل هذا المنظور. واقترح الكاتبان أن بناء علاقات معرفية أوثق بين هذه التخصّصات من شأنه أن يعود بالنفع على جميعها.

الشكل 0.1: إطار لتحليلات التربية المقارنة

image

المصدر: (براي وتوماس 1995، ص 475)

تتضمن الواجهة الأمامية للمكعب سبعة مستويات مكانية تُستخدم في المقارنة، تبدأ من النطاق العالمي (الأقاليم أو القارات)، ثم الدول، فالولايات / المقاطعات، فالأحياء أو المناطق، ثم المدارس، تليها الفصول الدراسية، وأخيرًا الأفراد. أما البُعد الثاني فيتعلق بالفئات السكانية غير المرتبطة بموقع جغرافي، مثل الانتماء العِرقي أو الفئة العمرية أو الدينية أو النوع الاجتماعي وغيرها، إضافة إلى عموم السكان. ويتناول البُعد الثالث جوانب التعليم والمجتمع مثل: المناهج الدراسية، وطرائق التدريس، والتمويل، والهياكل التنظيمية، والتغير السياسي، وسوق العمل. كثير من الدراسات المقارنة الصريحة تجمع بين هذه الأبعاد الثلاثة معًا، ويمكن تمثيلها داخل الخلايا المناظرة في الرسم التخطيطي. فعلى سبيل المثال، تشير الخلية المظللة في الشكل إلى دراسة مقارنة للمناهج الدراسية التي تُطبَّق على مجموعات سكانية في مقاطعتين أو أكثر.

تشير مقالة براي وتوماس إلى نقطة محورية تتمثل في دعوتهما لاعتماد التحليلات متعددة المستويات في الدراسات المقارنة، بهدف الوصول إلى فهم أشمل وأعمق للظواهر التربوية. وقد أشار المؤلفان إلى أن كثيرًا من البحوث بقيت حبيسة مستوى واحد من التحليل، ممّا يحول دون إدراك كيفية تأثّر الأنماط السائدة في المستويات الدنيا من النظم التعليمية بما يجري على المستويات العليا، والعكس صحيح. ورغم أن الباحثين قد يُضطرون في أحيان كثيرة إلى الاقتصار على مستوى واحد من التحليل، نظرًا لقيود ترتبط بالأهداف أو الموارد المتاحة، فقد اقترح براي وتوماس ضرورة أن يكون الباحثون واعين بحدود تركيزهم، ومدركين لتأثير المستويات الأخرى في الظواهر التربوية قيد الدراسة.

لقد حظي الإطار التحليلي الذي قدّمه براي وتوماس باقتباسات واسعة، سواء في المؤلفات المرتبطة صراحة بميدان التربية المقارنة (مثل: أرنوف [2001، 2013]؛ فيليبس وشفايسفورث [2008]؛ واتسون [2012]؛ بروك وألكسيادو [2013]) أو في الأخرى الأوسع نطاقًا (مثل: بالانتين [2001]؛ وينزر ومازوريك [2012]). وقد اعتُبِر هذا الإطار عمومًا ذا فائدة كبيرة، وسعى بعض الباحثين إلى تطويره من خلال توضيح ما كان ضمنيًا فيه. فعلى سبيل المثال، أشار واتسون (1998، ص 23) إلى تصنيف بديل للدول والمجتمعات يعتمد على الدين والخلفية الاستعمارية. وتُجسّد مثل هذه التصنيفات البديلة ضمنيًا في بُعد "الفئات السكانية غير المرتبطة بالموقع الجغرافي" في الإطار، لكن بدلًا من وصفه بأنه "غير مكاني"، قد يكون أدق تسميته "متعدد المواقع" أو "متعدد الأقاليم". ويستند الفصل الختامي من هذا الكتاب إلى الفصول الأخرى في مناقشة السبل التي يمكن من خلالها تطوير هذا الإطار وتعزيزه، بهدف توسيع الفهم النظري في ميدان التربية المقارنة.

سمات الكتاب

رُغم الإشارة سابقًا إلى بعض الجوانب المميزة لهذا الكتاب، إلا أنها تستدعي مزيدًا من التوضيح، بما يُمكّن القارئ من فهم السياق الذي أُعدّ فيه، وتقدير الإسهامات التي يُقدّمها.

وبالعودة إلى النقطة المتعلقة بـتحوّل مراكز الثقل، يُمثّل هذا الكتاب أحد تجليات تصاعد دور الدراسات المقارنة في شرق آسيا؛ إذ إن جميع المشاركين في إعداد فصوله يرتبطون، بشكل أو بآخر، بـمركز أبحاث التربية المقارنة (CERC) التابع لجامعة هونغ كونغ.

تولّى المحررون الثلاثة إدارة المركز في فترات مختلفة، كما أن غالبية المساهمين كانوا من أعضاء الهيئة الأكاديمية في المركز أو من طلابه الباحثين، في حين أن البقية كانوا قد زاروا المركز لفترات متفاوتة. ولهذا، يميل الكتاب جزئيًا إلى المنظور الشرق آسيوي. غير أن جميع المؤلفين عمدوا أيضًا إلى استحضار أمثلة ومواد من مناطق متعددة حول العالم، ما يجعل الكتاب ذا بُعد عالمي في رسائله وارتباطه بالموضوع.

تكمن السمة الثانية في التنوع بين الفصول التحليلية المحايدة وتلك الشخصية. فقد سعى بعض المؤلفين إلى عرض وجهات نظرهم بطريقة موضوعية ومحايدة، في حين اختار آخرون الكتابة من منظور ذاتي، بل وسير ذاتية أحيانًا. ويمكن القول إن كلا الأسلوبين يُسهم بطريقة مثمرة، لا سيّما في ميدان مثل التربية المقارنة، حيث تكون تجارب المحللين ومنظوراتهم ذات دلالة كبيرة. ويأتي هذا النهج امتدادًا لتقليدٍ درج فيه الباحثون على سرد تجاربهم المهنية، وكيف أثّرت ظروفهم الشخصية في تشكيل تفكيرهم لاحقًا حول هذا الميدان (مثل بوستلثويت 1999؛ جونز 2002؛ هايهو 2004؛ كليس 2008؛ سلطانة 2009). ويوضح هذا الأسلوب كيف يمكن للبحث الأكاديمي أن يتطور داخل المسارات المهنية لأفراد بعينهم، ويُشير إلى أن الخيارات المنهجية التي يتبناها الباحثون تتأثر بظروفهم الشخصية إلى جانب المعايير الأكاديمية.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام رئيسة، يبدأ أولها بمجموعة من الفصول التي تتناول طبيعة الميدان وتناقش أبعاده المفاهيمية. يستعرض الفصل الأول الأغراض الرئيسة لإجراء البحوث في التربية المقارنة، مشيرًا إلى تنوّع الرؤى التي يتبناها المعنيون بهذا النوع من البحوث. أما الفصل الثاني، فيسلط الضوء على الصلات بين التربية المقارنة ومجالات بحثية أخرى، سواء في إطار الدراسات التربوية الواسعة أو في ميادين علمية متداخلة. ويقارن الفصل الثالث بين المقاربات الكمية والنوعية، مُبرزًا مزايا كلٍّ منهما وحدوده، من خلال التركيز على دراسات محو الأمية بوصفها نموذجًا تطبيقيًا.

يتناول القسم الثاني وحدات تحليلية بعينها، ويُعدّ الأطول في الكتاب، بل ويشكّل جوهره الأساسي. تتوفّر في هذا الميدان أمثلة وفيرة لدراسات مقارنة لكل واحدة من هذه الوحدات التحليلية، غير أنّه من النادر أن يعكف الأكاديميون بجدية على فحص مواطن القوة والقصور في مقارباتهم. تُبرز الفصول المختلفة جوانب متعددة لتناول موضوعاتها كلٌّ على حدة، فيما تتكامل هذه الفصول معًا لتُشكّل لوحة فسيفسائية تعبّر عن جزء كبير من الميدان بأسره. وقد تناول أحد عشر فصلًا طيفًا واسعًا من وحدات المقارنة، بدءًا بالمواقع الجغرافية وانتهاءً بالإنجازات التعليمية.

يعالج القسم الختامي الرؤية العامة للميدان، فيرصد جوانب من التنوع المستمر، إلى جانب الاتجاهات والقضايا التي أضحت أكثر وضوحًا. وتُناقش الفصول الختامية بعض الدروس المستفادة من مقارنة المقاربات والطرائق في بحوث التربية المقارنة.

شكّل إعداد الطبعة الأولى من هذا الكتاب جهدًا جماعيًا واسع النطاق تطلّب قدرًا كبيرًا من التنسيق، وهو ما تكرر في إعداد الطبعة الثانية. وقد استفادت التحديثات والتحسينات التحليلية من مساهمات الطلاب والباحثين من مختلف أنحاء العالم. قُدّمت معظم فصول الكتاب في مؤتمرات وندوات علمية نظمتها (CERC) في جامعة هونغ كونغ. ويأمل المحررون والمساهمون أن يجد القرّاء في هذا الكتاب ما يثير اهتمامهم ويحفّزهم، تمامًا كما كانت الحال أثناء إعداده. وفي الوقت نفسه، كما اعتُبرت الطبعة الأولى محطةً في المسار المتواصل لتطوّر هذا الميدان، ينظر المحررون إلى الطبعة الثانية على أنها امتداد طبيعي لهذا المسار. ولا شك أن الميدان لا يزال زاخرًا بأبعاد عديدة ينبغي استكشافها وتطويرها.