11

مقارنة المناهج الدراسية

يدأب عديد من الأطراف المعنيين بالتعليم على إجراء مقارنات شتى للمناهج الدراسية، إذ لا تكاد تخلو جهة من مصلحة أو هدف في هذه العملية، فالحكومات تنشغل بمقارنة مناهجها الوطنية بما هو قائم في الخارج سعيًا وراء استحداث مبادرات إصلاحية جديدة وتعزيزًا لمكانتها التنافسية في المحافل الدولية، والآباء يعكفون على الموازنة بين ما تعرضه المدارس المختلفة من برامج ومقررات حتى يطمئنوا إلى اختيار المؤسسة التي تلبي احتياجات أبنائهم على الوجه الأكمل، والطلاب يتطلعون إلى تنويع خبراتهم حين يتفحصون ما يُتاح لهم من مقررات لاختيار المواد الاختيارية، والأكاديميون يتقصّون بعمق ديناميات بناء المنهج وطرائق تطبيقه قصدًا إلى إثراء المعرفة وتقديم ما يعين صانعي القرار على رسم السياسات، غير أن معظم هؤلاء ـ باستثناء الطلاب عادة ـ يوسّعون دائرة المقارنة لتشمل أيضًا المفاضلة بين المناهج الراهنة وتلك التي كان معمولًا بها في فترات تاريخية مضت.

يوفّر مجال دراسات المناهج أدوات نظرية ومنهجية عديدة تُستخدم في المقارنات بين المناهج، بل يمكن القول إنّ كل بحث في هذا المجال يتضمن بُعدًا مقارنًا بشكل أو بآخر، إذ إنّ الباحث وهو يحلّل ظاهرة معينة يَستحضر ـ ولو ضمنًا ـ نموذجًا آخر يُقابله. فإزاء كل سؤال من قبيل "ما هو؟" يبرز في الخلفية سؤال مقابل هو "ما ليس هو؟". ومن ذلك أنّ دراسة طرائق تقويم المحتوى في سياق محدد يمكن أن تُفهم باعتبارها مقارنة ضمنية مع بدائل أخرى في طرائق التقويم، كما تنشأ مقارنة أخرى بين "ما هو واقع فعلي" و"ما هو مقصود أو مأمول". وعليه فإن دراسة ممارسات المعلمين في تطبيق مقرر معين تستبطن مقارنة بين النتائج الفعلية والمخرجات المرجوّة. ومع ذلك فإن المقارنة الصريحة تكشف بصورة أوضح عن الفوارق وأوجه التشابه، إذ تجعل المألوف غريبًا وتجعل الغريب مألوفًا (انظر سبيندلر وسبيندلر 1982، ص 43؛ براي 2004، ص 250). ومن هنا يتركز اهتمام هذا الفصل على الدراسات القائمة على المقارنات الصريحة للمناهج، سواء بين ثقافات متعددة أو بين مواد دراسية مختلفة.

تتخذ المقارنات بين المناهج أشكالًا متباينة تعود أسبابها إلى عاملين رئيسيين: اختلاف المقاصد التي يسعى إليها أصحاب المصلحة، وتباين التصوّرات الأساسية حول ما يُعدّ في جوهره منهجًا دراسيًا. ورغم أنّ هذا الفصل لا يعتمد أوسع التصوّرات المطروحة للمنهج، فإنّه يقبل بأنّ المنهج بنية معقّدة ومتعددة الأبعاد، يتجسّد في بؤر متنوّعة ويظهر في صيغ متعدّدة. وهذا التعقيد يُثير إشكالية جوهرية تتعلّق بحدود التحليل الشامل والمقارنة الشاملة، غير أنّ هذه الإشكالية لا تُثير قلقًا كبيرًا عند الأطراف الذين ينشدون إجابات مركّزة لأسئلة ضيّقة النطاق، كما هو حال الطلاب عند مقارنتهم بين المقررات الاختيارية. وتظل هذه التعقيدات وما يصاحبها من تنوع سببًا في الحدّ من قدرة الباحثين على الإحاطة بالصورة الكاملة، فلا يجدون بدًا من الاكتفاء بلقطات جزئية، حتى في الدراسات التي تتوسّل بالتحليلات المتعددة المستويات. ومع ذلك فإنّ هذه القيود نفسها تُسهم في إغناء قيمة الرؤى المستخلصة، إذ تُبقي عملية مقارنة المناهج مفتوحة على الدوام، باعتبارها دراسة لكيان متغيّر ومعقّد، وتظل النتائج التي تتمخّض عنها قادرة على مساءلة المعتقدات وإعادة تشكيل التصوّرات التي تصوغها المناهج وتتأثر بها في الوقت ذاته.

يستهل هذا الفصل بتناول التصوّرات المختلفة لمفهوم المنهج كما عُرضت في الأدبيات، ثم يقدّم إطارًا ثلاثي الأبعاد يُعين على نهج المقارنات بين المناهج، وهو إطار يصلح للدراسات التي تعتمد تحليلات متعدّدة المستويات أو تلك التي تقتصر على نطاق أضيق. ويعرض الفصل أيضًا أمثلة من بحوث قارنت بين المناهج، لإبراز ما يكتنف هذا المسعى من تعقيد ولإيضاح بعض السبل الممكنة للتعامل معه.

طبيعة المناهج الدراسية

يعود أصل مصطلح المنهج الدراسي (باللغة الإنجليزية) إلى الكلمة اللاتينية التي كانت تعني المضمار القصير للعدْو، غير أنّ هذه الاستعارة على جاذبيتها لا تقدّم تحديدًا دقيقًا، بل تبقى في جوهرها غامضة. وحتى حين يُطبّق هذا المعنى في مساواة المنهج بـ"مسار" دراسي، فإن ذلك لا يعين كثيرًا على إدراك مقصوده الحقيقي. وقد جرى توظيف المصطلح عبر مساحات واسعة من الممارسات التعليمية: فهو يُطلق على التخصّصات الأكاديمية، وعلى المواد والمقرّرات الدراسية، وعلى التدريس نفسه، وعلى الخبرات التعليمية الرسمية وغير الرسمية، بل وعلى أساليب التقويم أيضًا. وقد قام مارش وويلِس (1995) بتصنيف سبعة تصوّرات رئيسية للمناهج، يشكّل كل واحد منها إطارًا صالحًا للدراسة المقارنة:

* التراث الكلاسيكي: يُحيل هذا المنظور للمنهج إلى مضامين ومقررات عريقة حظيت بمكانة راسخة عبر الزمن، مثل النحو والقراءة والمنطق والبلاغة والرياضيات، إضافة إلى أمهات الكتب التي يُنظر إليها في الغرب باعتبارها حاملة للمعرفة الجوهرية. ومن هذا المنطلق يتسم مفهوم المنهج بالضيق والتقيّد بالثقافة المنتِجة له، كما يغلب عليه الطابع المحافظ والجمود ويفتقر إلى المرونة، الأمر الذي يجعله غير قابل للانتقال إلى سياقات ثقافية أخرى إلا بحدود ضيقة. ولعلّ مثال ذلك ما كان عليه التعليم في الصين الإمبراطورية حين انحصر في عدد محدود من النصوص الأدبية الكلاسيكية المقرّرة. ومن هنا يثور التساؤل حول مَن الذي يملك تحديد المعرفة أو المهارات التي تُعتبر أساسية، وكيف يمكن الوصول إليها وإتقانها.

* المعارف الراسخة: يُعرّف هذا التصوّر المنهج بوصفه مجموعة من المواد والمضامين، ويستند في جوهره إلى التخصّصات الأكاديمية التي ترسّخت عبر التاريخ، لتصبح اللبنات التي تنتظم حولها المؤسسات التعليمية. وتُبنى على هذه التخصّصات عملية اختيار المواد التي تُقدّم للطلاب، مثل الفنون والعلوم والدراسات الإنسانية واللغات، إذ يضع كل مجال منها حدودًا واضحة لما يُعدّ معرفة أساسية وما يُعتبر مهارة محورية ينبغي للمتعلمين أن يتقنوها.

* المنفعة الاجتماعية: يُقارب هذا التصوّر المنهج من خلال المواد الدراسية، لكنه يركّز على تلك التي تُعتبر أكثر ارتباطًا بحاجات المجتمع الحديث وأكثر فائدة للحياة العملية فيه. وينطوي هذا المنظور على افتراض قيمي يرى في الحداثة مرتبة أعلى من التقاليد، ويدعو إلى أن يتضمن المنهج المهارات والمعارف التي تم انتقاؤها بعناية، لأنّها ستخدم التلاميذ مباشرة عند انتقالهم إلى الحياة خارج المدرسة.

* التعلّم المخطَّط: يتبنّى هذا المنظور رؤية أوسع للمنهج، إذ لا يقتصر على المواد الدراسية المقرّرة، بل يمتد ليشمل النتائج التعليمية التي يُخطَّط لها صراحةً وتُعدّ المدرسة مسؤولة عن تحقيقها، مثل ترسيخ ملكة التفكير النقدي وتنمية روح التسامح. ويتضمن هذا كذلك الأنشطة الموازية خارج الصفوف والبرامج التعليمية التي تنظمها المدرسة بصورة منهجية. ومع ذلك، فإن هذا التعريف ـ شأنه شأن التصوّرات السابقة ـ ينطوي على إشكالية كبرى تتمثل في افتراض مساواة التعلّم المخطَّط بالتعلّم الفعلي، إذ يستبعد ما قد يكتسبه الطلاب من خبرات غير مقصودة، ويُركّز على النتائج دون الالتفات إلى سيرورات التعلّم ومراحله.

* التعلّم المكتسَب بالخبرة: يتّسع هذا التصوّر للمنهج ليشمل كل ما يعيشه المتعلم من خبرات داخل المؤسسة التعليمية، بغض النظر عن كونها مبرمجة أو عفوية، مرغوبة أو غير مرغوبة. وإلى جانب التعلّم المخطَّط، يتضمن هذا التصوّر ما يُسمّى بالمنهج الخفي، أي منظومة القيم الاجتماعية التي يُعاد إنتاجها وتثبيتها عن قصد أو بغير قصد عبر بناء التعلّم الرسمي وما يرافقه من قنوات تواصل مؤسسية، بما يحمله ذلك من آثار إيجابية أو سلبية في تشكيل وعي المتعلمين.

* التحوّل الذاتي: يقوم هذا المنظور على مقاربة قريبة من التعلّم المعيَش، لكنه يتوسّع ليشمل ما يطرأ على المعلّم من تغيّر أثناء انخراطه في عملية التدريس والتعلّم، بحيث يصبح المعلّم والمتعلّم معًا طرفين يختبران أشكالًا متباينة من التحوّل داخل التجربة التعليمية.

* خبرات الحياة: يُمثّل هذا التصوّر أوسع الرؤى للمنهج، إذ يعدّ جميع ما يمرّ به الفرد من خبرات حياتية جزءًا من المنهج، من غير تمييز بين ما هو تعلّم مخطَّط أو مُعاش داخل المؤسسات التعليمية وبين ما يُكتسَب في السياقات الواقعية خارجها.

تعكس هذه التصوّرات المختلفة للمنهج تنوّعًا في بؤر التركيز؛ إذ ينصرف الأول والثاني إلى محتوى ما يُدرَّس، بينما يركّز الثالث والرابع على أهداف التعليم، أما الثلاثة الأخيرة فتهتم بالعمليات التحوّلية التي يخوضها المشاركون في التجربة التعليمية. ويذهب أحد المنظورات، المرتبط بفكرة التعلّم المعيَش، إلى النظر إلى المنهج بوصفه نصًا. وقد شدّد (بينار) و(رينولدز) (1992، ص 7) على قيمة تصور المناهج باعتبارها نصوصًا ظاهراتية ومفكّكة، تُقدَّم من خلالها التعدّدية الصوتية وتنوّع المنظورات والجوانب المعيَشة للكتب المدرسية والفصول الدراسية. ولأغراض هذا الفصل، فإن التصوّرين الأخيرين (التحوّل الشخصي وخبرات الحياة) يُعدّان فضفاضين وشاملين بدرجة زائدة، ومن ثم يركّز الفصل على المنهج في إطار البيئات التعليمية، بما يشمل التعلّم المخطَّط والتعلّم المجرَّب للتلاميذ. ويُستثنى من هذا المنظور الدراسات التي تركّز على قياس نواتج تعلّم التلاميذ، إذ يُخصَّص لهذا الموضوع نقاش لاحق في هذا الكتاب، وبخاصة في الفصل الرابع عشر.

إنّ التصوّرات المتنوعة للمنهج تُبنى في جوهرها على أيديولوجيات اجتماعية تتأسس على منظومات من الرؤى والقناعات المعيارية بشأن وظيفة المدرسة في المجتمع، وطبيعة المعرفة وطرائق التعلّم، فضلًا عن الأدوار المتوقعة لكلٍّ من المعلّم والمتعلّم. ويمكن تحديد ما لا يقل عن ستة اتجاهات أيديولوجية رئيسية (انظر الجدول )، وقد يتعارض بعضها أو يتنافس مع الآخر في إطار النقاش التربوي:

* العقلانية الأكاديمية: يُعبّر هذا التوجّه عن رؤية تربوية تجعل من التخصّصات الأكاديمية المكرَّسة محورًا رئيسًا للمنهج، معتبرة أنّ مهمة التعليم تكمن في إدخال التلاميذ إلى هذه الحقول مثل الفيزياء والرياضيات، وتزويدهم بالمفاهيم والصرامة الذهنية الملازمة لها. وتقوم هذه الأيديولوجيا على نزعة محافظة تسعى إلى حفظ المعرفة الراسخة ونقلها بوسائل تلقينية تقليدية، وهي تُبرز الفوارق بين مجالات المنهج أكثر مما تسعى إلى مدّ جسور تكاملية فيما بينها. وضمن هذا الإطار يُسند إلى المتعلّم غالبًا دور محدود يقتصر على التلقي، لا المشاركة الفاعلة.

الجدول 11.1: أيديولوجيات المناهج ومكوناتها

الأيدلوجية

المكون

المكون

المكون

المكون

المقصد/ الغرض

المحتوى

طرائق التدريس/ التعلم

التقييم

العقلانية الأكاديمية

لتعزيز القدرات الفكرية والمهارات المعرفية للمتعلمين، ولتعليمهم كيفية التعلم

التركيز على المعرفة، والمهارات والقيم المستمدة من التخصصات الأكاديمية

التركيز على العرض والتعليم الإرشادي، وعلى تعزيز مهارات الاستقصاء

التأكيد على اختبار معرفة المتعلمين ومهاراتهم، وعلى الصرامة الأكاديمية.

الكفاءة الاجتماعية والاقتصادية

لتلبية احتياجات المجتمع الحالية والمستقبلية من رأس المال البشري

التركيز على المعرفة والمهارات التي تتعلق بالتوظيف المستقبلي

التأكيد على التطبيق وإتقان المهارات

التأكيد على تقييم قدرة المتعلمين على تطبيق المعرفة والمهارات

إعادة البناء الاجتماعي

يعمل المنهج الدراسي كوكيل للإصلاح الاجتماعي، والتغييرات والنقد

التركيز على الاحتياجات الاجتماعية، والقضايا والمثل العليا

التركيز على التفاعل، والعمل الجماعي، ومشاركة المتعلمين في الأنشطة المجتمعية

التركيز على الحاجة إلى إشراك المتعلمين في تقييم أنفسهم

المعتقد

لإدخال المتعلمين في عقيدة دينية أو سياسية معينة

التركيز على المعتقدات والممارسات لأولئك الذين يتبنون عقيدة معينة

التركيز على التعليم الإرشادي، وعلى تعزيز المعتقدات والممارسات اللازمة

التركيز على التزام المتعلمين في الاعتقاد بالنظام والممارسات ذات الصلة

التقدمية

لتزويد المتعلمين بفرص لتعزيز تطويرهم الشخصي والفكري

التركيز على المعرفة ككيان متكامل وشامل وعلى عملية التعلم

التأكيد على نشاط المتعلمين وتعلمهم الذاتي، وعلى المعلم كميسر

التركيز على المقاييس النوعية التي تحاول تحليل عملية التعلم.

التعددية المعرفية

لتوفير مجموعة واسعة من الكفاءات والمواقف

المحتوى المتفاوض عليه وتنوع المدخلات والنتائج

يؤكد على نشاط المتعلمين وتعلمهم الذاتي، وعلى المعلم كميسر

التركيز على المقاييس النوعية التي تحاول أن تلتقط تنوع التعلم.

* الكفاءة الاجتماعية والاقتصادية: يُنظر في هذا التصوّر إلى التعليم من زاوية تنمية الموارد البشرية، بحيث يُصمَّم المنهج انطلاقًا من حاجات المجتمع وتطلعاته، ويُراد منه إعداد مواطنين مسؤولين مزوّدين بالخصائص والمعارف والمهارات التي تمكّنهم من دعم رفاه المجتمع وتعزيز نمو اقتصاده. ويشمل ذلك تدريب المتعلمين على إتقان المعارف والمهارات المرتبطة بالتوظيف في المستقبل، إضافة إلى ترسيخ الاتجاهات والقيم المدنية التي تُعدّ ضرورية للحياة العامة. وتُمارَس عملية التعليم والتعلّم هنا على نحو يُشبه عملية التشكيل أو القولبة، بما يترك مجالًا محدودًا للغاية أمام استقلالية المتعلم أو مبادرته الذاتية.

* إعادة البناء الاجتماعي: يُعبّر هذا المنظور عن توجه تربوي يجعل من التعليم وسيلة للتغيير الاجتماعي والإصلاح، إذ يفترض أنّ المجتمع يحمل في بنيته إشكالات عميقة تتجلى في صور متعددة من اللاعدالة، والظلم الاجتماعي، والفوارق البنيوية. وينطلق هذا التوجّه من جعل هذه القضايا محورًا أساسيًا للمنهج، حيث يُدرّب المتعلمون على الوعي النقدي بها، ثم يُمكَّنون من اتخاذ إجراءات عملية لمواجهتها والسعي لبناء مجتمع أفضل. ويُسند للمتعلمين دور مركزي نشط يتمثل في التحقيق في هذه القضايا واستكشاف حلول ممكنة لها ضمن سياق المنهج نفسه.

* العقائدية: يُجسّد هذا التوجّه رؤية تجعل من المدرسة أداة لترسيخ عقيدة واحدة ونشرها، إذ يَعتبر أنّ غاية التعليم إدخال المتعلمين في منظومة إيمانية أو فكرية راسخة، سواء كانت دينية كالمسيحية أو الإسلام، أو سياسية كالشيوعية أو الفاشية أو القومية. ويُتوقع من المتعلمين أن يتّسموا بالخضوع والسلبيّة وأن يتجنّبوا التفكير النقدي، ويُنظر إلى التعلّم على أنّه ناجح إذا ما أظهروا ولاءً للمعتقدات والممارسات المطروحة. وبطبيعته لا يعترف هذا الاتجاه بحاجة إلى التغيير ولا يُقرّ بقيمة التنوع أو التعدد.

* التوجّه التقدّمي: يُنظر في هذا التصوّر إلى المنهج من خلال موقع المتعلم، بحيث تُعطى الأولوية لحاجاته واهتماماته وما يمتلكه من قدرات، ويُبنى التصميم التعليمي وفق ذلك. ويرتبط هذا الاتجاه غالبًا بالنظريات البنائية في التعلّم، حيث يُشجَّع المتعلمون على البحث والاكتشاف والتطور الذاتي، ويُنظر إليهم بوصفهم بناة نشطين لخبراتهم ومعارفهم، لا مجرد متلقّين سلبيين.

* التعدّدية المعرفية: يُقدّم هذا التصوّر رؤية تجعل من المنهج أداة قادرة على تلبية صور متعددة من الذكاء الإنساني، على نحو ما أوضحه (غاردنر 1985)، إلى جانب استيعاب طيف واسع من الكفاءات والاتجاهات. ويرتبط هذا المنظور في كثير من الأحيان بالاعتراض على الاقتصار على التدريب المهني المحدود، إذ تزداد حاجة المجتمعات إلى مقاربات أوسع مع تراجع القدرة على التنبؤ بمتطلبات رأس المال البشري في سياق يشهد تغيرًا اجتماعيًا متسارعًا وتجديدًا تقنيًا متواصلًا. ويُنظر إلى المتعلمين في هذا الإطار بوصفهم أفرادًا يتعلّمون بطرق متنوّعة، ويطوّرون مهارات متجدّدة تتيح لهم التكيّف مع البيئات المتغيرة بلا انقطاع.

يتّضح أنّ هذه الأيديولوجيات قد تكون بطبيعتها إقصائية في الفكر والممارسة، إذ يمكن للمنهج أن يُبنى انطلاقًا من أيديولوجيا واحدة مهيمنة مثل الفاشية. غير أنّ واقع المجتمعات والمؤسسات التعددية يجعل المناهج نتاجًا لتداخل أيديولوجيات متنوّعة، قد تتعارض فيما بينها بدل أن تكون منسجمة. وتُظهر التجربة أنّ المناهج تميل إلى الحفاظ على صلات مع التقاليد، حتى عند السعي إلى إدخال إصلاحات جذرية، وهو ما يجعل المنهج في كثير من الأحيان بنية معقّدة تتخللها توترات وتناقضات تتأثر بالقوى الأيديولوجية والتاريخية والتربوية (لوك 2008). وفي هذا السياق، تعترف الجمعية الأسترالية لدراسات المناهج (ACSA) بطبيعة المنهج المعقدة، وتضعه ضمن سياقه الاجتماعي والسياسي، مقدّمة إيّاه بوصفه ظاهرة بنائية تفاعلية ذات أبعاد صريحة وأخرى ضمنية يختبرها الأفراد والجماعات على حدّ سواء (ACSA 2005). كما تصفه بأنه بناء اجتماعي وتاريخي يشتمل على مفاهيم التغيير الاجتماعي ودور التعليم في إعادة إنتاج المجتمع وفي دفعه نحو التحوّل.

إنّ التنوّع الكبير في تعريفات المنهج، مقرونًا بغياب الصياغة الموجزة، يُمكن فهمه على أنّه انعكاس لإشكالات التعليم المستمرة، ولتعاظم الأدوار التي باتت المؤسسات التعليمية ومناهجها مطالبة بها في المجتمعات ما بعد الصناعية، حيث تزداد التعددية ويتسع نطاق التوقعات. وينبني على ذلك أنّ أي محاولة لإجراء مقارنة شاملة للمناهج ستُشكّل تحديًا واسع النطاق، يتطلب معالجة متوازية لثلاثة مستويات: ما يُخطَّط له، وما يُتعلَّم بالفعل في إطار هذا التخطيط، وما يُكتسب من معارف وخبرات خارج التخطيط. ومع ذلك، فإنّ الدراسات التي حاولت تناول هذه المهمة قليلة للغاية، حتى بين البحوث التي لجأت إلى التحليلات متعدّدة المستويات.

تُظهر الدراسات المقارنة بين الدول أن تركيزها ينصرف في الغالب إلى المستويين الأولين، كما هو الحال في مجموعة (بنافوت) و(براسلافسكي) (2006) التي اهتمت بالمواد الدراسية، ودراسة (وولمان) (2001) التي تناولت أنظمة تطوير المناهج. كما قام (ألكسندر) (2000) بدراسة مقارنة بين دول، غير أنّ اهتمامه انصبّ على البيداغوجيا المطبَّقة في المدارس وعلاقتها بالثقافات الوطنية. وفي المقابل، تناولت الدراسات التي أجراها (كوغان وآخرون) (2002) في مجال التربية المدنية تحليلًا ومقارنة شاملة لمختلف هذه المستويات، بينما عرضت الدراسات الوطنية التي جمعها (مويلز) و(هارغريفز) (1998) مقارنات تناولت خبرات الطفولة الواسعة إلى جانب كلٍّ من المنهج المخطَّط والبيداغوجيا الممارسة.

النهج المتّبعة في دراسة المقارنات بين المناهج الدراسية

يُبيّن الشكل إطارًا مرجعيًا لبناء البحث المقارن في المناهج، يقوم على ثلاثة أبعاد متشابكة: الغاية والمنظور، وبؤرة التركيز في المنهج، ومظاهره. ويستند هذا الإطار إلى فكرة أنّ أي باحث لا يدخل مجال البحث من فراغ، بل بدافع غاية محدّدة، قد تكون عملية مباشرة مثل المساهمة في صنع السياسات، أو معرفية تسعى إلى بلورة فهم جديد. ومن ثمّ، فإنّ الغاية تحدّد المنظور الذي يتبناه الباحث، وتوجّه طبيعة الأسئلة المطروحة، وهذه الأسئلة بدورها ترسم ميدان التركيز، أي العنصر أو المكوّن الذي يشكّل محور البحث في المنهج. وبناءً على ذلك، يجري جمع البيانات من مظاهر المنهج ذات الصلة، التي قد تكون في صورة وثائق مكتوبة أو ممارسات سلوكية داخل البيئة التعليمية. وسوف يتناول النقاش في الأقسام التالية تحليل كل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة بشكل تفصيلي.

الشكل 11.1: إطار منهجي لمقارنة المناهج

ة

image

الغرض والمنظور

كما سبقت الإشارة، فإنّ أصحاب المصلحة يقومون بإجراء مقارنات للمناهج لأسباب متعدّدة. وقد حدّد (شورت 1991) على سبيل المثال سبعة عشر شكلًا من أشكال البحث في المناهج، جميعها لها تطبيقات مقارنة، ويمكن أن تستفيد من إدراج البعد المقارن:

* بحث تحليلي،

* بحث توسّعي (أي يهدف إلى تحدّي الافتراضات الضمنية والبحث عن بدائل صالحة ومقبولة)،

* بحث افتراضي/تخميني (أي يجمع الأدلة من أجل تقديم تحذيرات أو إرشادات عملية)،

* بحث تاريخي،

* بحث علمي (أي موجّه نحو المناهج الكمية وأساليب القياس) ،

* بحث إثنوغرافي،

* بحث سردي (أي يأخذ طابعًا بيوغرافيًا أو قصصيًا)،

* بحث جمالي (أي يركّز على المناهج الكيفية ونوعية الخبرات)،

* بحث ظاهراتي (أي يدرس تصوّرات أصحاب المصلحة وانعكاساتهم)،

* بحث تأويلي (أي يركّز على استكشاف المعاني الأعمق والخلفيات الدلالية)،

* بحث نظري (أي يسعى إلى صياغة مفاهيم راسخة وصالحة)،

* بحث معياري (أي ينطلق من وضع المبرّرات والأسس المعيارية)،

* بحث نقدي،

* بحث تقويمي،

* بحث تكاملي (أي يسعى إلى استكشاف موضوعات وأفهام أو فرضيات جديدة ناشئة)،

* بحث تداولي/تشاوري (أي يركّز على معالجة مسألة محدّدة والتوصل إلى قرار بشأنها)،

* بحث عملي/إجرائي (أي يسعى إلى مواءمة الأفعال مع الأهداف المرسومة).

تتوزّع هذه الأشكال البحثية على ثلاث منظورات كبرى يمكن اعتمادها إطارًا لتفسير الأدبيات المعنية بمقارنة المناهج، وهي: المنظور التقويمي الذي يهدف إلى الحكم على القيمة والجدوى، والمنظور التأويلي الذي يسعى إلى الكشف عن المعاني وفهم السياقات، والمنظور النقدي الذي يركّز على تحليل مواطن الخلل والسلطة. وسيجري تناول هذه المنظورات مع أمثلة تفصيلية في الصفحات التالية.

المنظور التقويمي

يُتَّبع المنظور التقويمي عندما يكون الغرض الأساسي هو الاستناد إلى الأدلة لاتخاذ قرارات واعية بشأن المنهج، أيًّا كان الشكل الذي يتجلّى فيه. فالحكومة التي تضع جداول تصنيف للمدارس اعتمادًا على نتائج أدائها بهدف توجيه الموارد، والأسرة التي تبحث عن المدرسة الأنسب لأبنائها، والمعلّم الذي يختار المقرّر من بين مجموعة من الكتب الدراسية، والطلاب الذين يرشّحون أحد الأساتذة لنيل جائزة "معلّم العام"، جميعهم ينخرطون في ممارسة مقارنات تقويمية تستند إلى تحليل جانب من جوانب المنهج والحكم عليه.

تُبرز نتائج برنامج التقييم الدولي للطلاب (PISA) دور المنظور التقويمي، إذ تُوظَّف البيانات المستخلصة من اختبارات الأداء للتأثير في السياسات التعليمية وصياغة القرارات المتعلقة بمكوّنات المنهج (انظر: أنديري 2008). وقد أظهرت هذه الدراسات تدني مستويات أداء التلاميذ في المجتمعات الغربية بالمقارنة مع التلاميذ في المجتمعات الآسيوية، وهو ما أدّى إلى دفع الدول الغربية نحو تنفيذ إصلاحات واسعة في المناهج التعليمية، كثير منها كان مستعارًا أو مقتبسًا من خبرات الدول الآسيوية، بهدف معالجة أوجه القصور القائمة (موريس 2012).

لقد أدّى التوجّه المتزايد نحو استعارة أو تعلّم أو توظيف الممارسات المنهجية من أماكن أخرى منذ ظهور الاختبارات الدولية لقياس تحصيل التلاميذ إلى نشوء أجندة إصلاح عالمية موحّدة، حلّت محلّ الارتكان إلى الأيديولوجيا أو التاريخ بوصفها المبرّر العلني لتحديد أو إطلاق أو إضفاء الشرعية على إصلاح المناهج. ولم يقتصر مصدر السياسات "المستعارة" على أنظمة تعليمية أخرى، بل ظهر أيضًا شبكة من الوكالات الوسيطة التي تتولى تفسير السياسات والممارسات التعليمية، وترويج أجندات إصلاحية لصنّاع القرار. وتشمل هذه الشبكة وكالات دولية (مثل البنك الدولي واليونسكو)، وشركات متعددة أو عابرة للحدود (مثل بيرسون)، واستشاريين (مثل المجموعات الاستشارية المكوّنة من أكاديميين وأصحاب مصلحة)، ومراكز تفكير سياسية، مثل (ماكنزي) و(برايس ووترهاوس كوبرز).

عندما يجري استعارة السياسات من نظام تعليمي إلى آخر، فإن هذه السياسات قد تتعرض للتعديل أو الإغفال في التنفيذ، أو تظلّ مجرّد إشارات رمزية داخل الخطاب السياسي. وتتعدد السيناريوهات في هذا المجال: فقد تنجذب المنظومة (أ) إلى النتائج المرتفعة التي يحققها التلاميذ في المنظومة (ب)، فتعمد إلى استعارة الخطاب الوارد في وثائق السياسة التعليمية لدى (ب) لتبنّيه في خطابها الرسمي، من غير أن تعير اهتمامًا لواقع التطبيق في كلا النظامين، وهو ما يعني أن الاستعارة تتم على مستوى الخطاب فحسب. وفي مقابل ذلك، قد تختار المنظومة (أ) التعمق في دراسة العوامل السياقية التي أسهمت في نجاح المنظومة (ب)، فتستخلص منها ما يتلاءم مع أوضاعها الخاصة، بما يتيح نقل الاستعارة إلى مستوى التنفيذ العملي للسياسات. وتوجد بين هذين الحدّين طيف واسع من أشكال التفاعل بين النظم التعليمية. وفي كل إصلاح منهجي يظهر عادةً قدر من التباين بين ما يُطرح في خطاب السياسة وبين ما يُنفّذ على أرض الواقع، ويزداد هذا التباين حدّة عندما يُستعار نموذج من خارج السياق الثقافي المحلي من دون فحص لمدى صلاحيته وملاءمته (هانترايس 2008).

قدّم (فيليبس) و(أوكس) (2007) نموذجًا تفسيريًا مكوّنًا من أربع مراحل لفهم كيفية استعارة السياسات التعليمية عبر الأنظمة. تبدأ المرحلة الأولى بانجذاب صانعي السياسات إلى فكرة الاستعارة من أنظمة أخرى، يليها اتخاذ قرار رسمي بالاستعارة، ثم تأتي مرحلة التنفيذ الفعلي للسياسة المستعارة، لتصل في النهاية إلى مرحلة التركيب أو التوطين حيث تتفاعل السياسة مع الخصائص والسياقات المحلية القائمة. وفي مقابل ذلك، يقترح (آدمسون 2011) مقاربة بديلة تمنح للسياق المحلي أولوية أكبر؛ إذ يبدأ صانعو القرار بتحديد السمات التي يجدونها جاذبة في السياسة المراد استعارتها، ثم ينسّقون بين هذه السمات المتوافقة وبين مكوّنات السياق المحلي، وبعدها يباشرون التعديلات النظامية الضرورية، وتخصيص الموارد، وصياغة تفاصيل السياسة.

المنظور التفسيري

يشير المنظور التأويلي، المعروف أيضًا بالمنظور التأويلي، إلى محاولة تحليل الظواهر وشرحها. ومن أمثلة المقارنات التي يندرج فيها هذا المنظور: دراسة تاريخ منهج دراسي عبر فترات زمنية مختلفة، أو تحليل الظواهر المنهجية بوصفها نتاجات اجتماعية–ثقافية. ومن أبرز الأمثلة الكلاسيكية دراسة (ألكسندر 2000) حول البيداغوجيا في ثقافات مختلفة، التي يناقَشَت بتفصيل أكبر في الفصل الثاني عشر. فقد قارن (ألكسندر) التعليم الابتدائي في فرنسا وروسيا والهند والولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا. واعتمدت الدراسة أساسًا على ملاحظات صفّية شبه منهجية وُثِّقت بالفيديو والصوت، ودُعّمت بالمقابلات والوثائق والسياسات التعليمية والصور الفوتوغرافية والمذكرات. وقد تناولت المقارنة جوانب مثل: توفير التعليم من قبل الدولة، والتنظيم المادي واللوجستي للمدارس، وعلاقات المدرسة بالمجتمع، والبيداغوجيا (من حيث بنية الدرس وتنظيمه وطبيعة أنشطة التعلّم، والإجراءات الروتينية، وأنماط التفاعل والخطاب التعليمي). وقد أفرزت الدراسة دلالات مهمة لصانعي السياسات، وركّز (ألكسندر) بوجه خاص على قضايا تتعلق ببلده، إنجلترا. غير أنّ الغاية الأساسية للدراسة كانت تحسين الفهم لمقاربات التدريس وكيف تعكس ثقافات المجتمعات المعنية.

تتمثل إحدى المعضلات الرئيسة أمام الباحثين الذين ينهجون المنظور التفسيري في الطبيعة الذاتية للتفسير (أندرايده 2009). فالمقارنات التي تتناول المناهج باعتبارها خبرات معيشة تستند إلى إقامة حجج يكون معيارها الإقناع لا الإثبات القطعي (غوبا ولينكولن 1994)، انطلاقًا من أنّ الواقع بطبيعته معقّد ومتعدد الأوجه ومحاط بالالتباس. وعلى الباحث أن يسعى إلى إقامة حجّة تتجاوز ما يُعرف بـ "الشك المعقول" وفق التعبير القانوني الإنجليزي. ولضمان المصداقية، إضافة إلى إمكان النقل والاعتمادية وقابلية التثبّت، يُستحسن أن يعتمد الباحث في تصميمه المنهجي آليات دقيقة، منها التثليث المنهجي، والوصف الكثيف، والارتباط الطويل المدى بموضوع الدراسة، ووجود مسار توثيقي يُمكّن من مراجعة خطوات البحث (كراثوول 2009).

المنظور النقدي

يتطلّب المنظور النقدي مساءلة المناهج في ضوء إطار نظري محدَّد مسبقًا، مثل المنظور ما بعد الاستعمار أو المنظور النسوي أو منظور العدالة الاجتماعية. ويُعَدّ هذا التوجّه مناسبًا للباحثين الذين يهتمون بقضايا المساواة والإنصاف أو بإعادة البناء الاجتماعي. والغاية من هذا النمط من الدراسات هي الكشف عن السمات التي تشتمل عليها المناهج، سواء أُدرجت فيها عمدًا أو ظهرت على نحو عَرَضي، والتي قد تُصنَّف بوصفها محمودة أو سلبية. وتكمن قيمة اعتماد المقارنة في دراسة المناهج من زاوية المنظور النقدي في قدرتها على إبراز تلك السمات بوضوح وجلاء، وإظهارها في صورة أكثر حدّة تسمح بتفكيكها وتحليلها.

ضمن إطار المنهاج الدراسي، تُعَدّ الكتب المدرسية مجالًا بارزًا يتركّز عليه الاهتمام. وقد أكّد (آبل وكريستيان-سميث 1991، ص 1–2) أنّ الكتب المدرسية تكشف عن:

تُظهر الكتب المدرسية أنّها حصيلة عمليات سياسية واقتصادية وثقافية وما نتج عنها من معارك وتسويات، وهي من إنتاج مؤلفين ومصممين يرتبطون بمصالح واقعية، وتخضع لقيود السوق والموارد والسلطة عند نشرها. أما معاني النصوص وطرق توظيفها، فهي مجال تنازع بين جماعات مختلفة التوجهات، كما تُناقَش وتُعاد صياغتها في تفاعل المعلمين مع طلابهم.

قام (سليتر وغرانت 1991) بدراسة تحليلية لتمثلات العِرق والطبقة الاجتماعية والنوع الاجتماعي والإعاقة في سبعة وأربعين كتابًا مدرسيًا تغطي مجالات الدراسات الاجتماعية والقراءة وفنون اللغة والعلوم والرياضيات في الولايات المتحدة. وقد طوّرا إطارًا يتألف من ستة محاور للتحليل: تحليل الصور، وتحليل المختارات النصية، وتحليل الشخصيات التي يُفترَض دراستها، وتحليل اللغة، وتحليل البنية السردية، فضلًا عن محور عام للفئات المتفرقة. واعتمدا في ذلك على أسلوبي العدّ الكمي والتحليل الخطابي لرصد الكيفية التي تُعالج بها الكتب المدرسية قضايا المجموعات العِرقية والأنواع الاجتماعية والطبقات المختلفة وذوي الإعاقة. وأظهرت النتائج افتقار هذه الكتب إلى التنوّع، واتجاهها نحو انحياز مشترك يمنح الأفضلية للبيض والذكور، في مقابل تهميش الأمريكيين من أصول ملوّنة، والنساء، والفئات الفقيرة، وذوي الإعاقة. واعتبر الباحثان أنّ الكتب المدرسية، بما تمثّله من أدوات للضبط الاجتماعي، يتوجّب أن تُجسّد التنوّع وتعكس إنجازات مختلف المجموعات واهتماماتها.

ينطوي المنظور النقدي على قدر من المجازفة، ويعتمد على إقرار الباحث منذ البداية بتموضع أيديولوجي يمثّل مصالح محددة (فولي وفالينزويلا 2005). ومن هنا ينشأ توتر بين سعي الباحث إلى إحداث تغيير اجتماعي، وهو سعي يستلزم في كثير من الأحيان تبنّي مواقف سياسية مثيرة للجدل، وبين رغبته في الحفاظ على أمنه الأكاديمي واستقراره المهني (بيلي 2010). كما أنّ ضعف الأدلة أو هشاشة التنظير قد يهددان أي مقاربة بحثية، غير أنّ هذا الضعف يتجلّى بوضوح أشد في البحوث النقدية.

الجدول 11.2: مظاهر المناهج وطرائق البحث النموذجية

جوانب المنهج

المظاهر النموذجية

طرائق البحث النموذجية

أمثلة

الأيدلوجية

الكتب، الأوراق الأكاديمية، وثائق السياسات والمناهج الدراسية

تحليل الخطاب

ميلي (2011)

المخططة/ المقصودة

وثائق السياسات والمناهج، النشرات، المواد التعليمية، خطط الدروس، مواد التقييم، محاضر الاجتماعات، الإشعارات

تحليل الخطاب والمقابلات

غروسمان، لي وكينيدي (2008)

مفعلة أو منفذة

عمل المعلم والطالب (مثل استخدام الوقت والموارد)، أدوار المعلمين والطلاب، اهتمام الطلاب ومشاركتهم، التفاعل في الفصل الدراسي (مثل أنماط الاستجواب، استخدام العمل الجماعي)، التفاعل المدرسي، مخرجات الطلاب

ملاحظات الدرس، سجل المعلم، المقابلات، الإثنوغرافيا، سجلات النشاط

ألكسندر (2000)

ذوي الخبرة

تغيير في موقف و/أو سلوك الطالب، تغيير في موقف و/أو سلوك المعلم، العمليات المعرفية للطالب

استبيانات، مقابلات، سرديات ذاتية، تأملات، اختبارات نفسية مقياسية

مضمنة في كوغان وآخرون. (2002) ومويلز وهارغريفز (1998)

محاور التركيز في المناهج الدراسية ومظاهرها

نظرًا لكون المناهج قد تتسم بالسيولة وتمتد لتشمل خبرات مخططة وغير مخططة على السواء، يصبح من الضروري في إطار البحث المقارن تحديد محاور دقيقة يمكن الارتكاز عليها. ومن أبرز هذه المحاور:

الأيديولوجيات والبنى الثقافية السائدة في المجتمع التي تترك بصمتها على صياغة المناهج الدراسية.

نظم تطوير المناهج وآليات التخطيط، من حيث العمليات التي تُبنى عليها والنتائج التي تتمخض عنها

تطبيق المناهج ميدانيًا، أي الكيفية التي تُقدَّم بها خبرات التعليم والتعلّم

الخبرات التي يعيشها المتعلم، وتشمل ما هو مقصود وما هو غير مقصود، من قيم ورسائل وأحداث

تتخذ كلٌّ من هذه العناصر المرتبطة بالمنهج صورًا متجسّدة وأخرى غير ملموسة، ويُبيَّن جانب منها في الجدول يُضاف إلى الأبعاد الأربعة السابقة بعدٌ آخر يُعرَف بـ المنهج الصفري (بوسنر 2004)، ويُقصد به ما يُحذَف من المنهج، عن وعي أو من غير قصد. وتُعدّ التجليات المادية في هذا السياق أكثر يسراً أمام الباحثين، إذ يمكن مثلًا الحصول على الوثائق السياسية من جهات حكومية أو مؤسسات تعليمية أو من المؤلفين أنفسهم أو عبر الإنترنت. وبالمثل، فإنّ المواد التعليمية المستعملة في بيئات معينة غالبًا ما يسهل جمعها. أما خبرات التعليم والتعلّم فتظل أكثر تعقيدًا في الوصول والتحليل؛ فالمسألة لا تتعلق فقط بالتحديات اللوجستية المرتبطة بدخول الفصول أو المواقع التعليمية، بل تتصل كذلك بطبيعة هذه الخبرات التي تفتقر إلى التجسد المادي الواضح، ولا تظهر للباحث إلا من خلال مؤشرات ذاتية وغير مباشرة، مثل ردود الأفعال السلوكية أو التأملات التي تلي الحصة الدراسية.

طرائق البحث في مقارنة المناهج

على غرار سائر المجالات البحثية، تتنوّع الطرائق الممكنة في مقارنة المناهج بين الكيفية والكمية. ويُبنى اختيار المنهجية على المنظور المتَّبع (سواء كان تقويميًا أو تأويليًا أو نقديًا)، وعلى محور تركيز المنهج، وكذلك مظاهر المنهج المتاحة. وغالبًا ما تُوظَّف أساليب مختلطة لالتقاط ثراء المناهج في سياقاتها الواقعية. فمثلًا، اعتمدت دراسة (ألكسندر 2000) على مقاربة إثنوغرافية واسعة النطاق، ودمجتها مع تحليل تفصيلي لعناصر بعينها في البيداغوجيا، من أجل تكوين صورة متعددة الأبعاد للأنشطة الصفية. بينما تركز بعض الدراسات الأخرى على تفاصيل دقيقة، مثل بحث نقدي يرصد الفروق بين عدد الأسئلة التي يطرحها المعلمون على الطلاب الذكور وتلك الموجهة إلى الطالبات. وفي مثل هذا السياق، قد تكون أداة الملاحظة الكمية هي الوسيلة الرئيسة لجمع البيانات، مع إرفاق بعض المؤشرات الإثنوغرافية أو الفينومينولوجية، خصوصًا إذا كان المنظور البحثي يتبنّى الطابع التأويلي.

انطلاقًا من المنظورات الثلاثة العامة المشار إليها سابقًا، وهي المنظور التقويمي والتفسيري والنقدي، نجد أنّ البحوث المقارنة في مجال المناهج قد استعانت بأساليب منهجية متنوّعة. وقد أُدرجت الأمثلة الواردة في هذا الفصل بغرض إيضاح آليات البحث أثناء التطبيق العملي، ولتسليط الضوء على جملة من التحديات والقضايا التي يتوجّب على الباحثين معالجتها.

دراسة ذات طابع تقويمي

يُعدّ من الأمثلة البارزة على هذا النمط من الدراسات تقويم نماذج التعليم الثلاثي اللغة في المدارس الابتدائية بالمناطق التي تقطنها الأقليات العِرقية في الصين (آدمسون وفنغ ويي 2013). وقد انصب هدف الدراسة على الكشف عن العوامل التي تسهم في تشكيل تلك النماذج وإدامتها، إلى جانب تقويم مواطن القوة والقصور في قدرتها على ترسيخ التعدد اللغوي لدى التلاميذ، من خلال إتقان لغتهم الأم إلى جانب الصينية والإنجليزية. وشمل التقويم مراحل التخطيط والتطبيق والخبرة التعليمية التي توفّرها تلك النماذج، مع تركيز أساسي على تصميم المنهج الدراسي.

اختيرت عينة ممثّلة تضم تسع مدارس من كل منطقة من مناطق الأقليات العِرقية التي شملها المشروع. وقد تضمنت الدراسة المفصّلة لكل مدرسة ما يلي:

إجراء مقابلات جماعية مركزة مع قيادات المجتمع المحلي والمسؤولين التعليميين.

مقابلات مع مديري المدارس والمعلمين والطلاب والخريجين السابقين وأولياء الأمور لرصد وجهات نظر متنوعة.

تحليل وثائق السياسات والمناهج الدراسية والجداول والموارد التعليمية والمواد ذات الصلة بالمنهج.

ملاحظة مباشرة للحصص الدراسية والأنشطة التعليمية.

استبيانات تقيس اتجاهات الطلاب والمعلمين وقادة المدارس تجاه التعليم الثلاثي اللغة.

تدوين ملاحظات ميدانية، تشمل مثلًا ملاحظة مباني المدرسة وزخارف الجدران، واللغات المستخدمة خارج قاعات الدراسة، وأنماط توظيف اللغة في المجتمع المحيط.

استند الباحثون في توجيه الدراسة إلى صياغة أسئلة بحثية منسجمة، وذلك عبر تكييف الأبعاد الأربعة الأساسية في صنع السياسات التي عرضها (إلمور وسايكس 1992)، وتشمل: طبيعة السياسة، ومصادرها أو أصولها، والأشكال العملية التي تترتب عليها، والآثار المترتبة عنها، كما هو موضَّح في الشكل .

الشكل 11.2: تقييم نماذج التعليم ثلاثي اللغات في الصين

image

سعت الدراسة إلى دمج البُعدين الأولين، مركزةً على التحقق مما إذا كانت النماذج المطبقة تعكس فعليًا الأهداف الكلية لسياسة التعليم الثلاثي اللغات، وإن تحقق ذلك، فهل صيغت بطريقة قابلة للتنفيذ ضمن ما يفرضه الزمن والموارد من قيود. وجرت معالجة بُعد أشكال الفعل بوصفه متضمِّنًا لآليات تنفيذ المنهاج وطرق إدارته معًا. أما بُعد الأثر، فقد انقسم إلى محورين: النتائج المترتبة على نموذج التعليم الثلاثي، وفرص استمراره على المدى البعيد. وأتاح المنظور المقارن الشامل إبراز جوانب الفاعلية، وكشف المشكلات المشتركة بين أكثر من سياق.

قد يوحي الإطار التقييمي في مظهره الخارجي بوجود نهج منطقي يتسم بالخطية والوضوح في عمليات وضع سياسات المناهج وتنفيذها. لكن واقع الحال يؤكد أنّ معظم عمليات السياسة معقدة، متداخلة، وغير منتظمة. ولذلك يهدف الإطار إلى تقويم درجة الاتساق في التسويات والاتفاقات التي تمت خلال مراحل التصميم والتنفيذ وضمان ديمومة النتائج الإيجابية، بدلًا من فرض نسق خطي جامد على سير العملية.

دراسات تفسيرية

قدّم (تونغ وآخرون 2000) مثالًا بارزًا على الدراسات التفسيرية من خلال مشروع بحثي تناول تخطيط وتنفيذ وخوض تجربة التعلّم القائم على المهام في مادّتين مختلفتين من مناهج مدارس هونغ كونغ، هما اللغة الصينية واللغة الإنجليزية، محاولًا الوقوف على الأسباب الكامنة وراء تلك الممارسات. وانطوت الدراسة على مقارنة بين المادتين في ضوء ثلاثة مظاهر، أُقيمت من خلالها مقارنة أفقية تربط بينهما، وأخرى عمودية تبحث في خصوصية كل مادة. وهذه المظاهر شملت وثائق السياسات التعليمية، والكتب المدرسية المنشورة تجاريًا، والدروس المقدمة داخل الصفوف.

اعتمد الباحثون في تحليلهم لوصف المهام في وثائق السياسات على إطار مفاهيمي صيغ استنادًا إلى متصل يتدرج من التركيز على القواعد النحوية الجزئية إلى التركيز على اللغة الواقعية المستعملة في سياقاتها، وهو إطار استُمد من مراجعة الأدبيات المتعلقة بتعريفات التعلّم القائم على المهام في ميدان تعليم اللغات. وقد استُخدم الإطار ذاته لتحليل المهام المنشورة في مجموعات متنوّعة من الكتب المدرسية والموارد التعليمية في المادتين موضوع الدراسة. ولرصد تجليات هذا النمط من التعلّم في الممارسة الصفية، اعتمد الباحثون على الملاحظات المباشرة داخل الفصول الدراسية، حيث سجّلوا بصورة منتظمة ما يتعلّق بطبيعة الأنشطة التعليمية وأهدافها، والأدوار التي اضطلع بها كل من المعلّمين والمتعلمين، وأنماط التفاعل التي دارت بينهم. كما استُكملت هذه البيانات بمقابلات شبه منظّمة أجريت مع الناشرين ومؤلفي الكتب المدرسية والمعلمين، واشتملت على أسئلة تناولت تصورات المشاركين عن مفهوم التعلّم القائم على المهام، والآليات التي اتّبعوها في إعداد الموارد أو تنظيم الدروس، والمبادئ التي وجّهت عملهم، إضافة إلى ما اكتسبوه من خبرات خلال العملية.

الشكل 11.3: قراءات تفسيرية للتعلّم القائم على المهام ابتداءً من نوايا السياسات وانتهاءً بمرحلة التنفيذ

image

المصدر: تونغ وآخرون. (2000، ص 167).

بيّنت الدراسة أنّ المهام خضعت لتفسيرات متباينة، سواء بين المادتين أو بين التجليات المختلفة داخل كل منهما (الشكل ). وقد استند هذا التباين إلى خلفيات بيداغوجية شديدة التباين؛ فاللغة الصينية بُنيت على نظام رمزي يقوم على الحروف الصورية، بينما تقوم الإنجليزية على الأبجدية الصوتية، وهو اختلاف يعكس في الوقت ذاته الدورين الاجتماعيين للغتين داخل هونغ كونغ: الصينية لغة الأم الغالبة، والإنجليزية لغة رسمية وأداة للتواصل الدولي والتجارة. وأدّى هذا الاختلاف في التقاليد إلى تعدّدٍ في مقاربات التعلّم القائم على المهام في النصوص الرسمية وفي الممارسة الصفية. ومع ذلك، فإن مؤلفي الكتب المدرسية والناشرين كانوا محكومين بواقع السوق وضغوطه التجارية، مما جعلهم يميلون إلى تلبية تطلعات المعلمين ومتطلباتهم، لكونهم الطرف الأبرز في عملية اختيار الكتب والموارد التعليمية في كل مدرسة. وهكذا تشابكت العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتربوية لتفرز فسيفساء من التفسيرات المتباينة لما يُقدَّم بوصفه تعريفًا رسميًا للتعلّم القائم على المهام.

أوضحت النتائج التفسيرية للدراسة أنّ لها بُعدًا تقويميًا أيضًا، حيث كشفت المشكلات التي تواجه مخططي المناهج في سعيهم إلى تحقيق الاتساق والانسجام خلال مسار الإصلاح من مستوى النوايا إلى مستوى التنفيذ العملي. وأظهرت هذه النتائج ضرورة أخذ الأبعاد التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيداغوجية في الاعتبار عند صياغة المناهج. كما أكدت أن أي محاولة لتصميم منهج "مثالي" اعتمادًا على نظرية مجردة من سياقها الواقعي لا تسفر إلا عن منهج "افتراضي" سرعان ما ينكشف وهمه عندما تفشل المخرجات المتوقعة في التحقق.

الدراسات النقدية

أجرى (هيكلينغ-هادسون) و(أهلكويست) سنة 2003 دراسة نقدية تناولت الخطابات المرتبطة بالعرقية في المناهج الدراسية المقدَّمة للأطفال الأصليين ضمن أربع مدارس ابتدائية، اثنتان منها في أستراليا واثنتان في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد ركّز الجانب النقدي في هذه الدراسة على إثارة تساؤلات جوهرية حول الجهة التي تحدّد المناهج والجهات التي تخدمها، وذلك في إطار السعي إلى إصلاح هذا الخلل ومعالجته (هيكلينغ-هادسون و أهلكويست 2003، ص 65).

ركز الباحثون على تساؤلين أساسيين: كيف يمكن للتعليم المدرسي أن يعين الأطفال المنتمين إلى الجماعات الملوّنة على تنمية هويات سليمة بعيدة عن التشويه الذي تفرضه الهوية الاستعمارية ذات الطابع الأوروبي-المركزي، وكيف يمكن للمعلّمين أن يكتسبوا القدرة على تحدي المناهج التي تقوم على الاستيعاب القسري، وأن يوجّهوا تعليمهم نحو إبراز التواريخ والعلوم والفنون المتعددة التي أنجزتها شعوب ملوّنة في مختلف أنحاء العالم.

قام الباحثون بتحديد مدرسة في أستراليا وأخرى في الولايات المتحدة تَجسّد مناهجها ممارسات وصفوها بالضعيفة، إلى جانب مدرسة أخرى في كل بلد تمثّل ممارسات إيجابية، وهو ما أتاح لهم إجراء مقارنات دولية بين البلدين وأخرى داخلية ضمن كل بلد. وخلال الزيارات الميدانية لهذه المدارس، تابع الباحثون الحصص الدراسية مباشرة، وأجروا مقابلات مع الطاقم التعليمي والتلاميذ، كما سجّلوا ملاحظات حول المكتبات والملصقات الجدارية وسائر العناصر المعبّرة عن المناهج. وقد كشف تحليل المدارس التي صُنّفت بضعف الممارسات أنّ المناهج فيها متأصلة في الثقافة البيضاء؛ حيث لوحظ في المدرسة الأسترالية أن الأطفال الأصليين يشاركون في تزيين أشجار عيد الميلاد ويُشجَّعون على قراءة الحكايات الأوروبية، بينما كانت جدران الصفوف مزيّنة بشخصيات ديزني. وفي المدرسة الأمريكية ظهرت الممرات مزيّنة بصور تمثل تاريخ البيض، فيما ركّزت دروس القراءة والكتابة على متطلبات الاختبارات الرسمية. ورأى الباحثون أنّ مثل هذه المدارس تكرّس نموذجًا أوروبيًا صناعيًا في التعليم يُخضع المتعلمين لنظام صارم ويهمل اهتماماتهم وخلفياتهم الثقافية (هيكلينغ-هادسون و أهلكويست 2003، ص 80). وعلى النقيض من ذلك، أظهرت مدرسة في كل من البلدين توجّهًا مناهضًا للمركزية الأوروبية، من خلال موارد مكتبية وملصقات تحتفي بالثقافة الأصلية، ومناهج دراسية تنطلق من خبرات الطلاب الحياتية، إضافة إلى تميّزها بدعم مجتمعي واسع ومشاركة فاعلة من الأسر والمجتمع.

الاستنتاجات

سعى هذا الفصل إلى إرشاد الباحث الذي يشرع في بحث مقارن للمناهج، من خلال كشف المزالق التي قد تعترضه، وتوضيح الاتجاهات التي يمكن أن يسلكها. وقد طرح ثلاث قضايا مترابطة ينبغي أخذها في الاعتبار عند القيام بالمهمة: تحديد الهدف والمنظور الذي تنطلق منه الدراسة، وانتقاء نقاط تركيز مناسبة داخل المناهج، والتعرف على التجليات المرتبطة بها.

يتسم المنهج بكونه مفهومًا مركّبًا ومتعدد الجوانب وذا طبيعة متغيرة، إذ يشمل نطاقًا واسعًا من الأطراف الفاعلة والرؤى والعمليات والتجليات، الأمر الذي يجعل من الصعب الإحاطة بجميع مكوّناته ضمن مشروع واحد بصورة شاملة. وغالبًا ما تُجرى بعض المقارنات بدوافع نفعية بحتة، فتقتصر على الإجابة عن أسئلة محدودة التركيز دون أن تسعى إلى الشمول. ومع ذلك، فإن معالجة قضايا أكثر اتساعًا تقتضي التنبيه إلى حدود النطاق والحرص على تقديم التحذيرات الكفيلة بمنع التعميم غير الدقيق للنتائج. فنتائج دراسة تفسيرية مقارنة لعمليات تخطيط المناهج، على سبيل المثال، لا يمكن إسقاطها تلقائيًا على ممارسات التنفيذ في الفصول الدراسية، إذ تدخل عوامل وضغوط أخرى على الخط، وهو ما تجلّى بوضوح في مثال التعلّم القائم على المهام في مادتي اللغة الصينية واللغة الإنجليزية بهونغ كونغ. وتتعاظم التحديات أيضًا بفعل تنوّع السياقات الزمنية والمكانية، إذ يصبح إصدار تعميمات واسعة حول المناهج ضربًا من المجازفة ما لم تُراعَ هذه السياقات بصورة دقيقة. ولهذا فإن المقارنات الدولية حول الاتجاهات العامة في المناهج المدرسية لا تكتسب معناها الحقيقي إلا إذا كانت تفسيرات المواد متماثلة نسبيًا في السياقات المختلفة؛ فقد تحمل مادة "التاريخ" الاسم نفسه في دولتين، بينما يختلف محتواها اختلافًا جوهريًا يجعل المقارنة عديمة الفائدة.

أظهرت الطبيعة المتغيرة للمناهج، الناتجة عن التفاعلات الإنسانية التي تحدث في نقاطها المحورية من تخطيط وتنفيذ وخبرة، فضلًا عن وتيرة الإصلاحات المتكررة، أنّ أي مقارنة للمناهج ستظل عملية مفتوحة غير مكتملة. ومع ذلك، فإن قيمة هذه المقارنات لا تزول، إذ إن توظيفها بحذر وتمحيص يمكّن من نقل الممارسات التربوية الناجحة، ويعزّز القدرة على اتخاذ قرارات مبنية على معرفة، ويوسّع دائرة الفهم لطبيعة التفاعلات التي تربط التعليم بسياقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.