12
تغدو الابتكارات موضوعًا ملازمًا وضروريًا للتربية، إذ يرتكز منطقها الجوهري على أن التحولات التي يشهدها التعليم بمستوياته كافة وأنواعه المختلفة تُعِدّ الأفراد للاندماج في مجتمع المعرفة. وتتمثل السياقات المحيطة بذلك في تفاقم العولمة، وتناقص الأعمار النصفية للمعرفة، إضافة إلى اشتداد حدة التنافسية الاقتصادية التي تستلزم تعاونًا أكبر وطرائق عمل جديدة (هيرشوك وآخرون 2007؛ (سكارداماليا) و(بيريتر) 2010). وحيث يُنظر إلى عملية إنتاج المعرفة ونقلها على أنها في غاية الأهمية، فإن التربية تصبح مطالبة بأهداف مستحدثة وإجراءات متطورة. ويشمل هذا الفهم البلدان المتقدمة اقتصاديًا (مثل: الطاولة المستديرة الأوروبية للصناعيين 1997؛ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 2004)، كما يشمل أيضًا الدول الأقل تطورًا (مثل: اليونسكو 2003؛ (كوزما) 2008).
شهدت سياسات التعليم في مختلف أنحاء العالم تغييرات ارتبطت بعمق بتنامي أهمية تكنولوجيا المعلومات والاتصال وتحوّل طرق النظر إليها. ففي أوائل ثمانينيات القرن الماضي جرى إدخال الحواسيب إلى الصفوف المدرسية لتمكين الطلبة من التعلّم عن هذه التكنولوجيا ضمن المناهج . ثم برز لاحقًا هدف موازٍ يركّز على تحقيق تعلّم أكثر فاعلية بوساطتها، بما في ذلك الوسائط المتعددة والإنترنت والشبكة العالمية. ومع حلول تسعينيات القرن العشرين تحوّلت الأولوية في السياسات التعليمية نحو التعلّم من خلال هذه التكنولوجيا، الأمر الذي استوجب دمجها أداة جوهرية في المناهج بغية إدخال أنشطة تعليمية لم يكن من الممكن تنفيذها في غيابها. ومع نهاية ذلك العقد، بدأ يُنظر إلى دورها التعليمي بوصفه ضرورة لتكوين مهارات جديدة ملائمة للقرن الحادي والعشرين، وقد تجلّى ذلك في خطط وطنية رئيسة للتكنولوجيا في بلدان عدّة مثل (الدانمارك 1997؛ سنغافورة 1997؛ هونغ كونغ 1998؛ فنلندا 2000؛ كوريا 2000؛ سنغافورة 2008؛ وزارة التعليم في الولايات المتحدة 2010).
تسارع نموّ البحوث المقارنة حول الابتكارات التربوية تبعًا لتلك الخلفية. ويشرع هذا الفصل بمراجعة الدراسات التي تناولت التغيير والإصلاح والابتكار التعليمي، ثم يعرض البحوث التي تناولت مقارنة الممارسات التربوية، قبل أن يقدّم ثلاث دراسات مختلفة المناهج: الأولى استخدمت تسجيلات فيديو لحصص دراسية بغية المقارنة بين الممارسات التربوية في ثلاث دول، والثانية اعتمدت مقاربات متعددة لمقارنتها في خمس دول، أما الثالثة فارتكزت على تسجيلات فيديو داخل نظام تعليمي واحد.
يتحوّل التركيز من بحوث الممارسات التربوية إلى ما ارتبط على وجه الخصوص بالابتكارات التربوية، حيث يقدّم القسم التالي ثلاث دراسات إضافية. وقد وقع الاختيار على هذه الدراسات لما تمثّله من تنوّع منهجي، ولما تطرحه من أسئلة بحثية مختلفة، ولما تستهدفه من غايات متعددة، وهي:
* الدراسة الثانية حول تكنولوجيا المعلومات في التعليم (SITES)، والتي تولّت تنفيذها الرابطة الدولية لتقويم التحصيل الدراسي (IEA) في 28 بلدًا؛
* دراسة (SCALE CCR) المعروفة بـ"قابلية التوسعة في الفصول الإبداعية"، التي أجراها معهد الدراسات التكنولوجية الاستشرافية التابع للمركز المشترك للأبحاث في المفوضية الأوروبية (JRC-IPTS)، والتي قارنت بين سبع دراسات عن الابتكارات في أوروبا وآسيا؛
* دراسة (ITL) حول "التعليم والتعلّم المبتكر"، المموّلة من برنامج الشراكة في التعلّم التابع لمايكروسوفت، والمنجزة بالتعاون مع معلمين في سبع دول.
استندت الدراسات المعروضة في هذا الفصل إلى تحليلات متعددة المستويات ترتبط بمكعّب التحليل المقارن (براي وتوماس 1995) الذي جرى عرضه في مقدمة هذا الكتاب. وقد برهنت هذه الدراسات على أهمية المقاربات متعددة المستويات، وأظهرت كذلك إمكان تقنين المفاهيم وجعلها قابلة للقياس. وينتهي الفصل بحوار حول المساهمات المنهجية التي قدّمتها المجموعتان من الدراسات، سواء في مجال بحوث الابتكارات التربوية المقارنة أو في نطاق أوسع يشمل السياسات والممارسات التربوية.
تطرأ تغييرات على المؤسسات لأسباب مختلفة، وقد تكون في بعض الأحيان رد فعل أكثر من كونها موجهة لغرض محدد (ديل وفريدمان 1979). ويُصنَّف الابتكار بوصفه جزءًا خاصًا من هذا التغيير، ويُعرّف بأنه منتج ملموس أو إجراء جديد، مقصود بطبيعته، ويستهدف إحداث فائدة (بارنيت 1953؛ (كينغ) و(أندرسون) 1995). وغالبًا ما تُستخدم كلمة إصلاحات للدلالة على ابتكارات يُشرع فيها من قِبل القيادات العليا للمؤسسات أو من أطراف خارجية (كيزار 2001).
يتأسس فهم الابتكار في هذا السياق العام على اعتباره تغييرًا متعمدًا موجّهًا نحو أهداف بعينها، وقد استُخدمت في هذا المجال تعريفات تشغيلية متباينة. فقد فرّقت البحوث بين تغييرات من الدرجة الأولى، تشمل تعديلات محدودة في بعد أو أكثر من أبعاد المؤسسة، وتغييرات من الدرجة الثانية ذات طبيعة تحويلية تطال رسالة المؤسسة وثقافتها وآليات عملها وبنيتها التنظيمية (غودمان 1982؛ (ليفي) و(ميري) 1986). واتجهت نهج بحثية أخرى إلى دراسة الابتكار باعتباره عملية متتابعة، من خلال تحليل السلوكيات والأحداث الممتدة عبر الزمن. وركّز بعض الدارسين على مراحل تبنّي الابتكار على المستوى الفردي (هول ولوكس 1978؛ (هول) وآخرون 1979)، في حين صاغ آخرون نماذج توضّح آليات انتشار الابتكار داخل المؤسسات (روجرز 1995) وعلى مستوى النظم (ريغلوس وغارفينكل 1994).
توجّهت بحوث التغيير التعليمي حتى عقد التسعينيات نحو الإصلاح أكثر من الابتكار. وقد مثّل تقرير CERI/منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الصادر عام 1999، نتيجة ورشة عمل بعنوان التعليم من أجل الغد، منعطفًا مهمًا في مجال السياسات التعليمية والبحث التربوي. وعلى امتداد القرن العشرين، انصبت إصلاحات النظم التعليمية على تعديل الإجراءات واللوائح والمواصفات الرسمية للمناهج، بينما ظل إدخال تغييرات على ممارسات المعلمين تحديًا أعقد بكثير (كروس 1999). وتحتاج الإصلاحات إلى مشاركة فعلية وانخراط مبدع من المستويات القاعدية كي تؤدي إلى تغييرات حقيقية في طرائق التعليم والتعلّم. كما يظهر توتر بين محاولات الإصلاح على مستوى السياسات العامة والابتكارات المنطلقة من المعلمين أو المدارس، مع أنّ هذين المسارين لا يلزمان أن يكونا في تضاد (هارغريفز 1999).
عرضت المؤلفات التربوية عددًا من الابتكارات التي ارتبطت بتحولات في الممارسات البيداغوجية، إذ تناولت بعض الدراسات ابتكارات تتشابه في الفلسفة التربوية أو الطرائق أو السياقات، وظهرت في كتابات تعالج نظريات التعلّم والبيداغوجيا. غير أنّ الدراسات المقارنة التي سعت إلى تحليل الخصائص البيداغوجية لهذه الابتكارات، مع إدماج مقاربات وفلسفات متباينة، لم تصبح ملموسة إلا مع بدايات الألفية الثالثة.
أوضح (ألكسندر 2000، ص 510) أنّ قلّة البحوث المقارنة في أُصول التعليم تعود إلى عاملين أساسيين؛ أولهما أنّ المقارنة في هذا المجال تتطلّب خبرات ومهارات تتجاوز حدود المعرفة بالدول المعنية وثقافاتها وأنظمتها وسياساتها، وثانيهما أنّ أُصول التعليم نفسها تمثّل ميدانًا واسعًا ومعقّدًا يستحقّ الدراسة المستقلة. ومن هذا المنطلق، تتناول هذه الفقرة ثلاث دراسات مقارنة في أُصول التعليم، تختلف اختلافًا جوهريًا من حيث الحجم والهدف والنموذج البحثي والطريقة، لتبيّن مدى التنوّع القائم في الأدبيات المتخصصة.
تُعَدّ الدراسات المصوَّرة لعملية التدريس في إطار الدراسة الدولية الثالثة للرياضيات والعلوم (TIMSS) من أبرز الأمثلة المعروفة على البحوث المقارنة في أُصول التعليم على مستوى التفاعلات الصفّية، كما ورد في أعمال (ستيجلر وآخرون 1999؛ ستيجلر وهيبرت 1999؛ هيبرت وآخرون 2003). وقد وُصفت هذه الدراسات بأنّها دراسات مصوَّرة لعملية التدريس بوصفها أداة لرصد الممارسات التعليمية، إذ اعتمدت على عينات عشوائية من دروس الرياضيات في الصف الثامن لرصد أساليب تدريس الرياضيات. كما اشتملت على مؤشّرات للأخطاء الإحصائية في المعايير الوصفية، ومستويات الثقة المتعلقة بالافتراضات في المقارنات بين الدول.
قدّمت الدراسة المصوَّرة لعملية التدريس ضمن دراسة (TIMSS 1995) بيانات مستخلصة من 231 درسًا في الرياضيات بالصف الثامن في ألمانيا واليابان والولايات المتحدة. وقد جرى أولًا اختيار عينات وطنية مُمثِّلة من المعلّمين بطريقة عشوائية، ثم اختيار درس واحد عشوائي لكل معلّم ضمن العينة لإنتاج أوصاف على المستوى الوطني وإتاحة المقارنات بين الدروس الفردية. جرى تفريغ جميع الدروس نصيًا، ثم تحليلها وفق عدد من الأبعاد البحثية بواسطة فرق من المحللين الناطقين الأصليين باللغات المعنية، مع اعتماد بيانات موزونة كأساس للتحليل. وتركّزت التحليلات على محتوى الدروس وبنيتها التنظيمية، وعلى الممارسات التعليمية التي استخدمها المعلّمون أثناء الدروس. وقد ناقش كل من (ستيجلر وآخرون 1999) و(هيبرت وآخرون 2003) قضايا التقييس في جمع البيانات النوعية وتخزينها ومعالجتها وتحليلها بهدف الحصول على نتائج إحصائية مماثلة لتلك التي تُستخلص عادة من المسوح. وكان الهدف هو الوصول إلى أوصاف معيارية للممارسات التعليمية على المستوى الوطني.
انتهجت دراسة "الثقافات الخمس" التي أجراها (ألكسندر 2000) مسارًا مغايرًا بالكامل، إذ اعترض (ألكسندر) على الفكرة القائلة إنّ السمات المميِّزة للممارسات في أُصول التعليم يمكن استنتاجها من عدد محدود من الملاحظات الصفّية عبر تخصّصات مختلفة واعتبارها انعكاسًا لثقافة بأكملها. وقد أُجريت هذه الدراسة خلال الفترة ما بين 1994 و1998 في إنجلترا وفرنسا والهند وروسيا والولايات المتحدة، وهدفت إلى توصيف أوجه التشابه والاختلاف في مناهج التعليم الابتدائي وتحليلها وشرحها، بالاعتماد على فحص البيانات وإجراء المقارنات المتقاطعة على مستوى الأنظمة التعليمية والمدارس والفصول الدراسية.
استند عمل (ألكسندر) إلى قناعة راسخة بأنّ ما يقوم به المعلّمون والتلاميذ داخل الصفوف يعكس في الوقت نفسه قيم المجتمع الأوسع ويُسهم في تشكيلها. ومن هذا المنطلق برزت الفكرة القائلة إنّ الدراسات المقارنة في أُصول التعليم لا ينبغي أن تنحصر في ما يجري داخل الصفوف الدراسية، بل يجب أن تُفهَم باعتبارها ممارسات تتجلى في سياقات المدرسة والمستوى المحلي والوطني. فعلى مستوى النظام التعليمي، تناولت المقارنات التاريخ والسياسات والتشريعات وأساليب الحوكمة والرقابة والمناهج والتقويم والتفتيش في كل بلد، لكونها عناصر يُتوقّع أن تمارس ضغوطًا قويّة باتجاه خلق تشابه في أُصول التعليم داخل كل دولة. وعلى مستوى المدرسة، حدّد (ألكسندر) السمات عبر أربعة أبعاد تنظيمية هي: الفضاء، والزمن المدرسي، والأشخاص، والعلاقات الخارجية، بالإضافة إلى بُعد مفاهيمي يتعلّق بالقيم والوظائف التي يدركها المعلّمون للمدرسة. أمّا على مستوى الصف الدراسي، فقد شملت الخصائص التعليمية بنية الدروس وصيغها، وتنظيم الصف، والمهام والأنشطة، وأساليب التفريق والتقويم، إلى جانب الروتين والقواعد والشعائر، وتنظيم التفاعلات، وضبط التوقيت والإيقاع، والكيفية التي يُدعَم بها التعلّم من خلال الخطاب التعليمي. ويُبرز عمل (ألكسندر) الكيفية التي يمكن أن تنتقل بها دراسات أُصول التعليم بين المستويات المختلفة للسياقات المتداخلة من الصف الدراسي وصولًا إلى النظام التعليمي.
يشكّل التعمّق في دراسة الظواهر التربوية ضمن إطار وطني أو ثقافي محدّد أحد المحاور الرئيسة في بحوث التربية المقارنة. ويُعتبر بحث (لو وآخرون 2000) عن الممارسات الجيدة في استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال في هونغ كونغ نموذجًا لدراسة جمعت بين المقارنة في أُصول التعليم على مستوى الصفوف والمدارس. وكما هو الحال في عمل (ألكسندر 2000)، انطلق هذا البحث من إيمان بأنّ الممارسات التعليمية تتأثّر بصورة مباشرة بعوامل مرتبطة بالمدرسة وبالنظام التعليمي الأوسع، ولا يمكن تفسيرها على نحو دقيق إلا في ضوء تلك العوامل وخصائصها. ومع ذلك، فقد تمايز عن دراسة "الثقافات الخمس" ودراسات الفيديو لـ(TIMSS) التي هدفت إلى رسم سمات عامة للممارسات التعليمية على مستوى الثقافة الكلية، حيث سعى إلى فهم التنوّعات التي ظهرت في أُصول التعليم أثناء فترة تحوّل اتجهت فيها غايات التعليم نحو تعزيز القدرة على التعلّم مدى الحياة، بالتوازي مع توسّع إتاحة تكنولوجيا المعلومات والاتصال داخل الصفوف لدعم التعليم والتعلّم.
أظهرت الدراسة وجود تنوّع كبير في ممارسات أُصول التعليم، وركّزت على تتبّع الروابط الممكنة بين الاختلافات في هذه الممارسات وبين العوامل المدرسية السياقية مثل القيادة والثقافة التنظيمية للمدرسة. ونظرًا إلى أنّ تكنولوجيا المعلومات والاتصال شكّلت محورًا رئيسيًا في الممارسات المدروسة، لم يكن الاختيار العشوائي للدروس وسيلة مناسبة للملاحظة الصفية، فاعتمدت الدراسة بدلاً من ذلك على أسلوب المعاينة القَصْدية، استنادًا إلى السمات الأولية للحالات التي جُمعت بواسطة شبكة من الملمين بأوضاع اعتماد تكنولوجيا المعلومات والاتصال في مدارس هونغ كونغ.
بدأ (لو وآخرون 2000) التحليل على مستوى الصف بتحديد أنماط في أُصول التعليم من خلال ترميز الدروس المصوَّرة وفق ستة محاور رئيسة: أدوار المعلّمين، وأدوار التلاميذ، وأدوار التكنولوجيا، والتفاعلات بين المعلّمين والتلاميذ والتكنولوجيا، والتفاعلات بين التلاميذ، والكفايات التي أظهرها التلاميذ. واعتمد الفريق منهج النظرية المؤسَّسة (ستروس وكوربن 1990)، فاستخلص من تحليل 46 درسًا خمسة أنماط أو مقاربات تعليمية. وحلّلت الدراسة على مستوى المدرسة السمات الفارقة للنماذج المختلفة للتغيير المدرسي، لتبيّن أنّ دمج تكنولوجيا المعلومات والاتصال في الممارسات التعليمية ارتبط بالدور المتصوَّر لها داخل المدرسة، إضافة إلى الرؤية والقيم وثقافة المؤسسة وتاريخها الإصلاحي.
برهنت الدراسات الثلاث السابقة على أنّ اختيار النهج المناسب لمقارنة الممارسات التعليمية يرتبط ارتباطًا مباشرًا بأسئلة البحث ووحدات التحليل وبهدف الدراسة وحجمها. ومع أنّ غالبية البيانات المستخدَمة كانت نوعية، فإن المعالجة التحليلية أمكن أن تتخذ منحًى كميًا ذا طابع وضعي، أو منحًى تفسيريًا. وقد ترمي التحليلات إلى صياغة توصيفات عامة تعتبر نموذجية أو مُمثِّلة، على افتراض استقرار النظام المدروس، أو تكشف في المقابل عن تنوّع يتيح توصيفات تضيء نماذج التغيير والنتائج المصاحبة لها.
ركّز هذا القسم على البحوث المخصّصة لدراسة الابتكارات التربوية، بعد أن تناول القسم السابق البحوث المعنية بالممارسات التعليمية. وقد استعرض ثلاث دراسات بعمق أكبر من سابقه، لأنّ جوهر هذا الفصل يدور حول الابتكارات التربوية. وتزايد الاهتمام بالابتكارات بدافع فهم السمات التي تنشأ من التفاعل المعقّد بين العوامل السياقية المحلية والعوامل الأوسع، بدلًا من النظر إليها كظاهرة تُفسَّر عند مستوى المعلّم وحده. وفي ضوء ذلك، شدّدت الدراسات الثلاث المختارة على أهمية البيانات الممتدة إلى ما يتجاوز الصف الدراسي، لإلقاء الضوء على العوامل السياقية، والسياسات، والاستراتيجيات القائمة على المستويات المدرسية، والإقليمية، والوطنية، والعابرة للحدود، التي تؤثّر في ظهور الابتكارات وضمان استمراريتها وإمكانية توسيع نطاقها. كما جُمعت في دراستين من هذه الدراسات بيانات الحالات على مدى فترات زمنية طويلة.
تتضمّن كل دراسة توصيف العناصر الآتية في المنهجية وتصميم البحث:
سياق البحث والأسئلة المطروحة
تعريف حالات الابتكار وآليات اختيارها
المنهجية المتّبعة في البحث وتصميمه وآليات جمع البيانات
الأساليب التحليلية والنتائج الرئيسة
المساهمات التي قدّمتها الدراسة والقيود التي واجهتها
جاءت الدراسة الثانية لتكنولوجيا المعلومات في التعليم في إطار ثلاثة محاور، خُصِّص المحور الثاني منها، أي (SITES M2)، لمقارنة حالات الممارسات التربوية المبتكرة القائمة على التكنولوجيا (كوزما 2003أ). وسبقتها دراسة (SITES) الأولى في عام 1998، التي شملت مسحًا لمديري المدارس ومنسّقي التكنولوجيا في 26 دولة، وسعت إلى رصد مدى إدماج المدارس لتكنولوجيا المعلومات والاتصال في أنشطة التعليم والتعلّم (بيلغروم وأندرسون 2001). وأظهرت نتائجها اختلافات دولية في مستويات البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصال، وفي طبيعة الأنشطة التعليمية والتعلّمية التي وظّفتها، وفي العقبات التي اعترضت سبيلها. وكشفت استجابات سؤال مفتوح في استبيان المديرين أنّ إدخال هذه التكنولوجيا أسهم في نشوء مناهج دراسية جديدة، وأدوار متحوّلة للمعلّمين، وأنشطة تعلّم منتجة للطلاب.
لم يتحقق أثر تكنولوجيا المعلومات والاتصال الإيجابي بمجرد اعتمادها في الفصول الدراسية، بل استدعى تغييرات عميقة في الممارسات التربوية، لا سيما في أدوار المعلّمين والطلاب (برانسفورد وآخرون 2000). وقد قدّمت دراسة (SITES) مفهوم "النموذج البيداغوجي الناشئ" (بيلغروم وأندرسون 2001) لإبراز أنّ دمج التكنولوجيا في التعليم والتعلّم يقتضي ظهور ممارسات جديدة في التعليم لتحقيق الأهداف المستحدثة. ومن هذا المنطلق، وُضِع مشروع (SITES M2) لدراسة التحوّلات الجوهرية التي أحدثتها التكنولوجيا داخل الصفوف لإعداد الطلاب لمتطلبات المستقبل، واستقصاء الظروف المدرسية التي تدعمها. وركّزت الدراسة كذلك على استكشاف الشروط الضرورية لاستدامة الابتكار التعليمي المدعوم بالتكنولوجيا وقابليته للتوسّع، عبر دراسات حالة أُجريت في دول متعدّدة عبر العالم.
قامت عملية اختيار حالات الابتكار في كل بلد على التزام بشَرطين. أولهما أن ينهض بها فريق وطني يضم مسؤولين تربويين من موظفي الحكومة ومديري المدارس ومنسّقي تكنولوجيا المعلومات ومعلّمين ذوي خبرة وباحثين جامعيين. وثانيهما أن تستوفي الحالات المختارة أربعة معايير دولية جرى الاتفاق عليها: (1) تقديم أدلة على تغييرات كبيرة في أدوار المعلّمين والطلاب أو في أهداف المناهج وممارسات التقييم أو في المواد التعليمية والبنى التحتية، (2) أن تؤدي التكنولوجيا دورًا جوهريًا في تلك الممارسات، (3) إظهار نتائج إيجابية قابلة للقياس لدى الطلاب، (4) التمتّع بإمكانات الاستدامة وقابلية الانتقال. وإضافة إلى ذلك، توجّب أن تُعترف هذه الحالات مبتكرة وفق معايير وطنية صيغت بما ينسجم مع السياقات الثقافية والتاريخية والتنموية. اعتمد اتحاد الدراسة الدولية مجموعة من المعايير للحكم على الابتكار، تمثّلت في تزويد الطلاب بمهارات المعلومات والإعلام، وتحفيزهم على التعلّم الذاتي المستقل والنشط، وإشراكهم في معالجة مشكلات معقّدة من واقع الحياة بأسلوب تشاركي، وتجاوز الجدران الصفّية في أنماط التعلّم، وتعزيز التعلّم العابر للمواد الدراسية، والتعامل مع اختلافات المتعلمين الفردية، وإتاحة فرص تعلّم فردية تمكّن الطلاب من الوصول إليها ذاتيًا، والتصدّي لقضايا العدالة، والعمل على تعزيز التماسك الاجتماعي وتنمية الفهم المتبادل.
لم تضع معايير اختيار الحالات قيودًا على أصول الابتكارات، فكانت الحالات المختارة قد نتجت إمّا عن مبادرات موجَّهة من الأعلى على المستويين الوطني أو الإقليمي، وإمّا عن ابتكارات انطلقت من الصفوف بمبادرة من المعلّمين. واشتملت الدراسات على كلا الشكلين من الابتكار، حيث وثّقت الفرق الوطنية في 28 دولة ما مجموعه 174 حالة.
استند مشروع (SITES M2) إلى دراسات حالة متعمّقة، أي توصيفات وتحليلات مكثّفة لأنظمة أو وحدات محدودة النطاق، بهدف الوصول إلى فهم معمّق للأوضاع والمعاني المرتبطة بالمشاركين فيها. وتُعدّ دراسات الحالة ملائمة بصورة خاصة عندما ينصبّ الاهتمام البحثي على دراسة العمليات، ووصف السياق وتحليله بدلًا من التركيز على متغيرات منفصلة، وعلى الاكتشاف أكثر من التأكيد (ميريام 1998). ويُفيد هذا المدخل بوجه خاص في كشف التفاعلات بين العوامل الجوهرية المميّزة للظواهر التي يتعذّر فيها فصل المتغيرات عن سياقاتها (يين 2009). وقد صُمِّمت دراسات الحالة في (SITES M2) وحُلِّلت وفق مدخل إجرائي يهدف إلى تجاوز الحالات الفردية وتسليط الضوء على القضايا والعلاقات والأسباب الكامنة للإجابة عن أسئلة البحث (كوزما 2003ب).
اعتمدت بحوث دراسة الحالة في جانب كبير من تحليلها على كتابة تقارير الحالات ذاتها (مايلز وهوبرمان 1994). ونظرًا لقيود اللغة والموارد، شكّلت هذه التقارير المصدر الأساسي الوحيد للتحليلات الدولية في (SITES M2). وقد صِيغ كل تقرير في نسختين: سردية ومصفوفة بيانات. وتُستخدم الصيغة السردية غالبًا في مثل هذه البحوث، حيث تجمع بين الوصف والتحليل، غير أنّ تصميم (SITES M2) أولى الأولوية للوصف. أما المصفوفة فقد بُنيت على نهج "ملء الخانات"، إذ ضمّت إجابات مختصرة عن مجموعة أسئلة منظمة ضمن الإطار المفاهيمي، مدعومة بأدلة على الممارسات الصفّية. وقد نُشرت جميع التقارير البالغ عددها 174 على الموقع الإلكتروني لدراسة (SITES M2: http://sitesm2.org/sitesm2_search).
أضاف هذا القسم إلى التحليلات التي تضمّنها التقرير الدولي لـ(SITES M2) (كوزما 2003أ) وصفًا مختصرًا للتحليلات الوطنية والدولية المعمّقة التي أصدرتها الفرق البحثية في إسرائيل وهونغ كونغ.
ركّز المركز الدولي لـ(SITES M2) بوصفه دراسة حالة إجرائية على تصنيف الابتكارات عبر جميع الحالات الــ174 باستخدام أسلوب التحليل الإحصائي العنقودي. ويُعدّ هذا الأسلوب أداة استكشافية لتحديد مجموعات شبه متجانسة من الحالات أو المتغيرات وفق خصائص محددة (ألديندرفر وبلاشفيلد 1984؛ SPSS 1999). واستعان (كوزما وماكغي 2003) بتحليل (K-means) لتقصّي الأنماط المميّزة في أُصول التعليم، عبر تحليل 38 سمة وُزّعت على أربعة محاور: ممارسات المعلّمين (تسع سمات تشمل الأساليب والأدوار والتعاون)، ممارسات الطلاب (عشر سمات تشمل الأنشطة والأدوار)، ممارسات التكنولوجيا (ثماني سمات توضّح دور التكنولوجيا ووظائفها في الحالات)، وأنواع التكنولوجيا المستخدَمة في المدارس (إحدى عشرة سمة تشمل الأجهزة والبرمجيات). ويُعتبر (K-means) إجراءً تفسيريًا كمّيًا يقوم على عمليات حسابية متكررة بعد تحديد عدد المجموعات المفترضة (N)، لينتج في الختام متوسطات لهذه المجموعات وأعضائها، بحيث يُخفَّض مجموع المسافات المربّعة للحالات عن متوسط مجموعاتها.
قرّر (كوزما وماكغي 2003) تقسيم البيانات إلى ثماني مجموعات، واختارا أبرز السمات في كل مجموعة لتكون عنوانًا لها، مثل توظيف الأدوات، والبحث التعاوني بين الطلاب، وإدارة المعلومات، والتعاون بين المعلّمين. ومع ذلك، ظلّت 31 حالة، أي ما نسبته 18% من المجموع الكلي، من دون توصيف ذي معنى. فضلًا عن ذلك، لم يقدّم هذا التحليل توصيفات معمّقة تتجاوز الوصف السطحي للممارسات التربوية المبتكرة.
اعتمد (لو وآخرون 2003) مقاربة أكثر تروّيًا في تطبيق التحليل العنقودي على بيانات دراسات الحالة ضمن (SITES M2). فلم يدمجوا جميع السمات المرمّزة الخاصة بالممارسات التعليمية في تحليل واحد، بل قسّموا التحليل إلى مجموعتين منفصلتين: مجموعة أدوار المعلّمين (13 سمة)، ومجموعة أدوار الطلاب (17 سمة). وانطلق هذا التوجّه من قناعة بأنّ جوهر الابتكار في أُصول التعليم يكمن في تغيّر الأدوار، وأنّ التغيّر في أحد الطرفين لا يستلزم بالضرورة حدوث تغيّر في الطرف الآخر (لو 2004).
أسفر هذا التحليل عن خمس مجموعات لأدوار المعلّمين: التدريس والعرض والتقييم؛ تزويد الطلاب بموارد تعليمية؛ إدارة المهمات الدراسية؛ توجيه البحث الجماعي التعاوني؛ وتسهيل التعلّم القائم على الاستكشاف. كما نتجت عنه خمس مجموعات لأدوار الطلاب: الاستماع والامتثال للتعليمات؛ تنفيذ مشروعات بسيطة تركّز على إنجاز مهمات تعليمية واضحة المعالم والبحث عن المعلومات وتقديمها؛ المساهمة في تعلّم منتج يتطلّب تصميم وإبداع منتجات إعلامية أو تقارير؛ المشاركة في بحوث عبر الإنترنت مع زملاء في مواقع أخرى؛ والمشاركة في بحوث عامة.
برهنت نتائج هذين التحليلين على أنّ بعض الأدوار، مثل دور المعلّم في التدريس المباشر ودور الطالب في تلقي التعليمات، ظلّت تقليدية في جوهرها. غير أنّها قدّمت في الوقت ذاته دلائل قوية على ظهور أدوار جديدة، مثل تيسير المعلّم للتعلّم الاستكشافي ومشاركة الطلاب في بحوث عبر الإنترنت مع زملاء بعيدين. كما كشفت النتائج أنّه في بعض الحالات، ورغم اقتصار دور المعلّم على وظائف تقليدية كإمداد الطلاب بالموارد، فإنهم منحوا الطلاب فرصًا لتجربة أدوار مبتكرة كإنتاج منتجات إعلامية ومواد تعليمية ملموسة (لو وآخرون 2011).
وضع (ميدوسِر وآخرون 2003) مخطّطًا تحليليًا لمقارنة حجم التحوّل التربوي الذي أحدثه توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصال في عشر حالات ابتكارية وُثّقت في إسرائيل. واستند التحليل إلى فرضية أنّ اعتماد التكنولوجيا يُفضي إلى مسار تصاعدي يبدأ بتعديلات أولية في الروتين المدرسي لتحقيق استيعاب مبدئي لها، ثم يمر بمستوى انتقالي، لينتهي بتحوّلات جذرية في الممارسات التعليمية وعمليات التعلّم. ولتحقيق ذلك، صاغ الباحثون سلّمًا وصفيًا يتألّف من تسعة عناصر، جُمعت في أربعة مجالات ابتكارية هي: تنظيم الزمان والمكان، وأدوار الطلاب، وأدوار المعلّمين، وتأثير التكنولوجيا في المنهج الدراسي. وقُسِّمت مستويات الابتكار إلى ثلاثة: الاستيعاب، والانتقال، والتحوّل، لتوضيح مدى قدرة التكنولوجيا على إحداث ابتعاد تدريجي عن الأنماط التقليدية.
قام (توبيـن وآخرون 2003) بتحليل الحالات العشر المجمّعة من إسرائيل في إطار (SITES M2) باستخدام الأداة المنهجية الموضوعة. وجرت عملية حساب متوسط عام لمستوى الابتكار في كل مدرسة بالاستناد إلى الأبعاد التسعة جميعها. وقد كشف التحليل عن تباينات واسعة بين المدارس في نتائجها، وأظهر أنّ التغييرات لم تتوزع بشكل متكافئ على جميع الأبعاد التسعة، بل تمايزت في شدتها وعمقها من مجال إلى آخر. وهذا يؤكد أنّ المؤشّر الكلّي لمستوى الابتكار قد لا يوفّر فهمًا دقيقًا، لكونه يجمع بين مجالات متباينة يصعب دمجها في قيمة واحدة ذات معنى. كما سجّل التحليل ملاحظة مهمّة، وهي أنّ درجات الابتكار في مختلف الأبعاد جاءت مترابطة على نحو قوي، باستثناء مجال واحد هو أنماط استخدام التكنولوجيا في تواصل المعلّمين وأساليب عملهم، إذ لم يرتبط ارتباطًا ملحوظًا بالتغييرات التي أحدثتها التكنولوجيا في المجالات الأخرى.
رفض (لو وتشاو ويون 2005) الانطلاق من فرضية مسبقة مفادها أنّ الابتكار في أُصول التعليم يرتبط آليًا بمستوى إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال، ولذلك صمّموا مقارنة دولية لابتكارية الممارسات التعليمية عبر دراسات الحالة، بحيث جُعل استخدام التكنولوجيا بعدًا واحدًا من بين ستة أبعاد متمايزة للابتكار. أما الأبعاد الأخرى فقد شملت: أنماط عمل الطلاب، وأدوار المعلّمين وممارساتهم، والأهداف المنهجية، وتعدّد أبعاد نواتج التعلّم الملاحظة، ومدى اتصال الصفوف ببعضها البعض. ولتقييم هذه الأبعاد، ابتكر الباحثون مصفوفة تقويمية توضّح خصائص كل بُعد وتضعها على متدرّج سباعي النقاط وفق مقياس (ليكرت)، يبدأ من أقصى درجات التقليدية وينتهي عند أعلى مستويات الابتكار.
كشف (لو وآخرون 2003) من خلال تطبيق هذه المنهجية على 130 حالة ضمن دراسات (SITES M2) الدولية عن وجود تباينات واسعة في مستويات الابتكار عبر الأبعاد الستة. فقد احتوت بعض الحالات على سمات تقليدية تحاكي الممارسات الصفّية الشائعة، بينما تميّزت حالات أخرى بخصائص ابتكارية فريدة قلّما تُشاهد في الممارسات اليومية داخل الصفوف. ورأى الفريق البحثي أنّ جمع الدرجات الخاصة بالأبعاد الستة في معدل ابتكار إجمالي واحد لا يقدّم قراءة دقيقة، لأنّه يُخفي التمايزات الجوهرية بين الأبعاد. لذلك ابتكروا تمثيلًا بيانيًا يمنح رؤية شمولية لتقديرات الابتكار في كل حالة على حدة، بحيث يُظهر امتداد الابتكار عبر الأبعاد المختلفة ويوضّح الفروق الدقيقة بينها. وأوضحت النتائج أنّ عدد الحالات التي سجّلت مستويات مرتفعة من الابتكار في جميع الأبعاد الستة كان نادرًا للغاية، في حين برزت غالبية الحالات باعتبارها ابتكارية في بعد واحد أو في بعض الأبعاد دون غيرها. وهذا ما يعكس، في الغالب، أنّ الفاعلين التربويين أثناء تجريبهم لطرائق جديدة في التدريس والتعلّم لم يمنحوا الأبعاد الستة جميعها الأهمية ذاتها، بل أولوا عناية خاصة لبعض الجوانب التي بدت أكثر أولوية أو أكثر قابلية للتطبيق ضمن سياقاتهم المؤسسية والوطنية.
أظهر التحليل أنّ بُعد تطوّر تقنيات المعلومات والاتصال قد سجّل أعلى متوسط في درجات الابتكار، إلى جانب تسجيله أقل انحراف معياري. ويعني ذلك أنّه بالرغم من التفاوت الكبير في مستويات توافر تكنولوجيا المعلومات والاتصال عبر العالم كما أوضح (بيلجروم وأندرسون 2001)، فإنّ الحالات التي اختارتها الدول المختلفة باعتبارها مبتكرة بدت أكثر تقاربًا من حيث نوعية ومستوى التقنيات المستخدَمة، مقارنةً بما هو قائم في الأبعاد الأخرى للابتكار. وفي المقابل، كشف التحليل أنّ بُعد الترابط بين الصفوف الدراسية قد سجّل أكبر انحراف معياري، وهو ما يشير إلى أنّ هذا الجانب لا يتوقف أساسًا على توافر الأجهزة أو البرمجيات أو على الاتصال المادي بالشبكات، بل يتأثر بدرجة أكبر بعوامل أخرى مثل الثقافة الصفّية السائدة وأنماط التفاعل التربوي داخل المؤسسات التعليمية، كما أوضح (لو 2008).
كشف (لو) و(تشاو) و(يون) عام 2005 من خلال استخدام درجات الابتكار التربوي أداة لقياس مدى الابتكار عن أوجه التشابه والاختلاف بين الأقاليم الجغرافية. وأظهر التحليل أنّ البُعد المتعلق بتعدّد أبعاد نتائج التعلّم قد سجّل أدنى متوسط للابتكار في معظم المناطق، إذ ظلّ أدنى من الدرجة المتوسطة المحددة عند 4 في جميع الحالات، باستثناء أوروبا الغربية التي تجاوزت هذا الحد. ويدل ذلك على أنّ ممارسات التقييم بقيت الأقل تحوّلًا بين الأبعاد الستة. كما أوضحت النتائج أنّ أوروبا الغربية حققت أعلى المتوسطات في جميع الأبعاد باستثناء بُعد نضج تقنيات المعلومات والاتصال. أمّا في آسيا، فقد بيّنت النتائج أنّ درجاتها جاءت أدنى من 4 في خمسة أبعاد، ولم تتجاوز العتبة المتوسطة إلا في بُعد واحد هو نضج تقنيات المعلومات والاتصال. أوضحت النتائج إمكانية التوسّع في دراسة الفروق الإقليمية والمقارنات الدولية من خلال تحليلات نوعية متعمّقة. وبالاستناد إلى الملاحظة التي بيّنت أنّ الابتكارات الآسيوية جاءت الأدنى في درجة الترابط، بينما ظهرت نظيراتها الأوروبية الغربية الأكثر ترابطًا، قام (لو) و(كانكانرانتا) و(تشاو) عام 2005 بدراسة نوعية إضافية أظهرت تباينات مهمّة في دور تقنيات المعلومات والاتصال في الحالات المبتكرة التي جُمعت من هونغ كونغ وفنلندا. فقد اتّضح أنّ الابتكارات في هونغ كونغ اعتمدت على التقنية أساسًا كأداة للتعلّم والإنتاجية من خلال البحث عبر الإنترنت، ومع أنّ جميع المدارس وفّرت الاتصال بالشبكة، فإن قنوات التواصل بقيت محدودة على البريد الإلكتروني ومنتدى واحد للمناقشة. في المقابل، تبنّت كل الابتكارات الفنلندية بيئات تعليمية عبر الإنترنت كوّنت بنية تحتية محورية للاتصال والمعلومات، وأدّت دورًا أساسيًا في إسناد الأنشطة التعليمية وتعزيز أشكال التعاون والتواصل بين مختلف الفاعلين التربويين في تلك الابتكارات.
أرست دراسة (SITES M2) الأساس باعتبارها أوّل دراسة مقارنة دولية واسعة النطاق خصّصت اهتمامها للابتكارات التربوية. وقد تميّزت هذه الدراسة بريادتها في إدخال أساليب منهجية جديدة إلى مجال بحوث دراسة الحالة، فضلاً عن تقديمها بيانات ثرية تُعدّ مرجعًا مهمًا للباحثين. وعلى الرغم من أنّ نتائجها الأولى انصبّت على الجوانب الوصفية بدرجة أكبر، فإنّها فتحت الباب أمام بحوث تفسيرية لاحقة. ومن أبرز تلك البحوث ما سعى إلى استكشاف العوامل المفسِّرة للتباينات الإقليمية في سمات الابتكار بين الحالات الأوروبية والآسيوية كما قدّمه (لو) و(كانكانرانتا) و(تشاو) عام 2005، إضافة إلى التحليلات التي ركّزت على استدامة الابتكارات التربوية المدعومة بتقنيات المعلومات والاتصال وقابليتها للتوسّع، على نحو ما أبرزه (لو) عام 2008.
أظهرت دراسة (SITES M2) قصورًا ملحوظًا في بنيتها المنهجية، إذ لم تنجح في عكس الطبيعة المتعدّدة المستويات للنظم التعليمية ضمن تصميم بحثي متماسك. ورغم أنّ الإطار المفاهيمي شدّد بوضوح على أنّ "الممارسات التربوية الابتكارية متجذّرة داخل مستويات سياقية متداخلة تؤثر في التغيير وتوسّطه" (كوزما 2003أ، ص 10)، ورغم أنّ البيانات جُمعت على مستويات الصف (الميكرو) والمدرسة (الوسيط) والمستوى الوطني (الماكرو)، فإن التصميم البحثي لم يتيح تحليل العلاقات المتبادلة بين هذه المستويات ولا استجلاء كيفية تفاعلها معًا. وتمثّل الخلل الأول في أنّ جمع البيانات اقتصر داخل كل مدرسة على ممارسة ابتكارية واحدة فقط، وهو ما أفرغ مستوى المدرسة من خصوصيته وجعله مساويًا لمستوى الصف في البيانات المتاحة، فأغلق الباب أمام دراسة التداخل البنيوي بين المستويات. وتمثّل الخلل الثاني في أنّ عملية جمع البيانات اقتصرت على مقابلات نوعية معمّقة وملاحظات صفّية لعدد محدود من الأفراد داخل المدرسة، مع الاعتماد على عيّنة ضيقة من المدارس في كل بلد، الأمر الذي جعل كل مستوى سياقي يُمثَّل بنقطة بيانات أو بضع نقاط لا تكفي لتكوين صورة مركّبة. وقد أدّى هذا القصور إلى طمس الفروق بين المستويات الثلاثة وانهيارها جميعًا في مستوى واحد، ففقدت الدراسة بذلك قدرتها على تحليل ديناميات التفاعل بين البنى التعليمية المختلفة. وقد جاءت دراسة (ITL) اللاحقة لتعالج هذه الإشكالات المنهجية، فاعتمدت تصميمًا أكثر شمولًا، وأتاحت استخلاص نتائج أعمق وأكثر قدرة على تفسير طبيعة الابتكار التربوي واستدامته.
أوضحت دراسة (SITES M2) جانبًا آخر في تصميمها قد يُعدّ قيدًا، يتمثّل في أنّ جميع الحالات عُرّفت انطلاقًا من ممارسة واحدة داخل الصف، على الرغم من أنّ بعضها ارتبط بمبادرات أوسع، سواء على المستوى المحلي أو الوطني أو حتى الدولي. ومع أنّ جمع البيانات أشار إلى تلك الروابط السياقية وضمّن إشارات إلى إسهاماتها، فإنّ غياب البيانات عن الصفوف والمدارس الأخرى المنضوية في الإطار نفسه منع الباحثين من بناء صورة مكتملة للحالة داخل سياق الابتكار الأوسع. وبذلك بقيت الممارسة الابتكارية محصورة في حدود الصف الواحد، دون أن تنعكس بالكامل تفاعلاتها مع السياق الأوسع الذي نشأت فيه. وقد أُفردت في دراسة (SCALE CCR) مناقشة معمّقة لهذه القضية، مبيّنةً المزايا التي يتيحها التعامل مع حالات ابتكار تربوي تُعرّف عند مستويات مختلفة من حيث الحجم والدقّة التحليلية.
برهنت نتائج (SITES M2) أنّ العامل الحاسم في تحقيق أثر بعيد المدى داخل النظم التعليمية لا يتمثّل في مستوى الابتكار ذاته، وإنما في مدى استدامة تلك الابتكارات وقابليتها للتوسّع (كوزما 2003أ). وعلى ضوء عقود من الدراسات حول التغيير التربوي، اتجه العديد من المنظّرين إلى اعتماد منظور إيكولوجي يفسّر التغيير التربوي باعتباره عملية مركّبة وديناميكية تتكشف على مراحل طويلة (هارجريفز 2003؛ كوبورن 2003؛ CERI/OECD 2010؛ لو وآخرون 2011). ويعني ذلك أنّ التغيير ليس حدثًا عابرًا يُنفّذ مرّة واحدة، بل مسار مستمر يحتاج إلى بيئة تعليمية متكاملة تتطور في عناصرها كافة، من البنية التحتية إلى الثقافة السائدة، ومن المناهج الدراسية إلى العوامل المرتبطة بالمدرسة والنظام التعليمي لضمان الاستمرارية والفعالية.
شهد مطلع القرن إجراء عدد كبير من التجارب واسعة النطاق حول توظيف تقنيات المعلومات والاتصال في دعم التعلّم ضمن سياقات تربوية مختلفة، وبمستويات متفاوتة من التدخل والدعم السياساتي. وأطلق قسم مجتمع المعلومات في المركز المشترك للبحوث التابع للمفوضية الأوروبية (JRC-IPTS) عام 2011 مشروع "توسيع نطاق الفصول الإبداعية في أوروبا" (SCALE CCR) بتكليف من المفوضية الأوروبية. وتوّج هذا المشروع بإصدار تقرير شامل تناول الشروط الكفيلة بضمان الاستدامة وإمكانات التوسّع وتحقيق الأثر على مستوى النظم التعليمية للابتكارات المعتمدة على تقنيات المعلومات والاتصال في مجال التعلّم، وذلك استنادًا إلى مقارنات معمّقة لدراسات حالة مختارة من أوروبا وآسيا (كامبيلس وآخرون 2013). وتستعرض الفقرة التالية الأساليب المنهجية التي اعتمدتها الدراسة.
ركّز الجزء الجوهري من دراسة (SCALE CCR) على تعميق الفهم لأهداف الابتكار التربوي ونتائجه وآثاره، وعلى الطابع البيداغوجي والتقني والتنظيمي للابتكارات التعليمية المعزّزة بتقنيات المعلومات والاتصال. وحلل الباحثون استراتيجيات التنفيذ ونشر الابتكارات الجارية التي كانت قد بلغت بالفعل مستوى ملموسًا من التوسّع أو الأثر. واهتمت الدراسة باستكشاف الشروط التي تمكّن الابتكارات الرقمية في التعليم من بلوغ الاستدامة والتوسّع وإحداث أثر جوهري على مستوى النظم التعليمية، إضافة إلى رصد السياسات والاستراتيجيات الكفيلة بدمج هذه الابتكارات في التيار الرئيس للسياسات التعليمية. وقد انصبّ تركيز البحث على دعم الإصلاحات التربوية من خلال بناء قاعدة معرفية تستند إلى الأدلة وصياغة إطار نظري متماسك.
انتهجت دراسة (SCALE CCR) مسارًا مخالفًا للنهج التقليدي في الدراسات المقارنة التي تعرّف الحالات على أساس أحجام متقاربة. فقد اختار الباحثون سبع حالات ـ ثلاث أوروبية وأربع آسيوية ـ جسّدت تباينًا هائلًا من حيث الحجم والنطاق. وقد امتدّ هذا الطيف من مبادرة محصورة في مدرسة واحدة إلى مشروع دولي يضم أكثر من 200,000 معلّم مسجّل في 33 دولة. وكان هذا التباين في الحجم والتعريف مقصودًا لذاته، إذ أراد الباحثون أن يقدّموا سرديات واقعية حية لمسار الابتكارات التعليمية المدعومة بتقنيات المعلومات والاتصال، بما يمكّن من استكشاف إيكولوجي يواجه التعقيدات والممارسات الفعلية المتولّدة داخل السياقات الوطنية والدولية.
انطلقت دراسة (SITES M2) من معالجة وحدة دراسية محددة ضمن المقرّر الدراسي واعتبارها ابتكارًا تعليميًا، وأقامت حدود الحالة عند مستويين متكاملين هما الصف الذي نُفِّذ فيه الابتكار والمدرسة التي ضمّته، حتى عندما كان الابتكار جزءًا من مبادرات وطنية أو دولية واسعة النطاق. وقد أتاح هذا التحديد وضوحًا في التحليل لكنه ضيّق نطاق الملاحظة ليقتصر على المدرسة والصف. وفي المقابل، وجّهت دراسة (SCALE CCR) اهتمامها إلى بناء نظرية معمّقة تتعلق بمسألة قابلية الابتكارات التعليمية المدعومة بتقنيات المعلومات والاتصال للتوسّع، وأثرها على النظام التعليمي برمته. وتبنّت الدراسة منظورًا يعتبر حجم الابتكار أو طبيعته متغيّرًا رئيسيًا يسمح بتتبّع التداخلات بين التاريخ والسياق والهيكل المؤسسي للأفكار التعليمية المختلفة، وكيفية انعكاسها على فرص التوسّع والاستدامة. ولم تُعرّف الحالة هنا باعتبارها صفًا أو مدرسة، بل وُصفت بأنها مشروع بمعناه الأوسع، يتأسس على موضوع مشترك وبنية منظمة، ويجمع في داخله مختلف المستويات من الأطراف المعنية والتفاعلات المؤثرة في طبيعة الابتكار وفي التحولات التي يمرّ بها. ومن أجل خدمة بناء النظرية، تبنّى الباحثون منهج العيّنة الهادفة، فاختاروا الحالات استنادًا إلى قدرتها على كشف الروابط بين البُنى النظرية المحدّدة مسبقًا وتعميقها وتوسيعها (إيزنهادر وغريبنر 2007).
تمثّلت الحالات الأوروبية الثلاث المختارة في:
بدأت شبكة التوأمة الإلكترونية (eTwinning) عملها عام 2005 بوصفه شبكة تربط المعلّمين عبر بوابة المدارس الأوروبية (European Schoolnet)، ليتيح لهم بيئة إلكترونية آمنة للتعاون في مشروعات صفّية عابرة للحدود وتنمية مهاراتهم المهنية. وبحلول عام 2013 بلغ عدد المعلّمين المسجّلين فيه أكثر من 200,000 معلّم موزّعين على 33 دولة أوروبية. وحظت بدعم خدمة دعم مركزية على المستوى الأوروبي، إلى جانب خدمات دعم وطنية في كل دولة. وقد جرى اختيار هذه المبادرة استنادًا إلى اتساع نطاقها والاعتراف بأثرها الواضح في تعزيز الوعي بين الثقافات داخل المجتمعات المدرسية الأوروبية ووسط المعلّمين.
أطلقت أوروبا مبادرة (1:1 learning in Europe) التي ضمّت 31 مشروعًا موزّعة على 19 دولة، سعيًا إلى تزويد جميع التلاميذ في صفوف دراسية بعينها، أو مدارس مختارة، أو فئات عمرية محددة، بأجهزة حاسوب محمولة شخصية، بهدف إحداث تحوّل تربوي وإرساء أساليب ابتكار في التعليم. وكشفت هذه المبادرة من خلال تنوّع أساليب التطبيق، وتعدّد نماذج التمويل، وتباين استراتيجيات الدمج في التعليم النظامي، عن رؤى غنيّة توضّح كيف أسهمت تلك العوامل في تشكيل مسار المشروعات وفي تحديد قدرتها على التوسّع والاستمرار.
أُنشئت مدرسة (هيليروب) في الدنمارك خلال الفترة 2000–2002 باعتبارها مدرسة عامة مبتكرة، فنجحت في إعادة بناء نهجها التربوي وصياغة مرافقها التعليمية بما يعزّز التنوع والمرونة والإبداع في تعلّم التلاميذ، مع توظيف شامل لإمكانات تقنيات المعلومات والاتصال. واستطاعت المدرسة أن تستوعب أنماطًا واستراتيجيات متعددة للتعلّم، بحيث أتاحت للطلاب مسارات تعليمية متنوّعة تتناسب مع قدراتهم واهتماماتهم. كما أعادت المدرسة تشكيل منظومتها البيئية بأكملها لتضمن استدامتها، مما جعلها مصدر إلهام وأثر ملموس في بيئات مدرسية أخرى داخل الدنمارك وخارجها.
اختيرت أربع حالات آسيوية لإدراجها في الدراسة، وهي:
أُطلق مشروع (CoREF) لتجديد تعليم المستقبل عام 2010 بهدف تحويل التعليم الياباني من نمط يركّز على المعلّم إلى تعلّم يضع الطالب في مركز العملية التعليمية ويستند إلى المنظور البنائي-الاجتماعي. واعتمد المشروع أسلوبًا تربويًا محددًا عُرف باسم "أحجية بناء المعرفة"، وقاده ائتلاف جامعي بدعم من مجالس التعليم المحلية. وقد بلغ المشروع عام 2013 نحو 770 مدرسة، وكان من المتوقّع أن يقدّم توصيات مبنية على الأدلة لسياسات التعليم، بما يشمل المعايير الوطنية وأنظمة تقييم المدارس وتطوير المقررات الدراسية.
بادرت وزارة التعليم في كوريا الجنوبية إلى إطلاق مشروع الكتاب الدراسي الرقمي بوصفه مشروعًا تجريبيًا يرمي إلى تطوير محتويات تعليمية رقمية تتميّز بسهولة النفاذ وسلاسة الاستخدام من جانب المعلّمين والطلاب. واستثمر المشروع الإمكانات التي توفّرها الأجهزة المحمولة وأدوات الشبكات الاجتماعية ليؤمّن للمتعلمين خبرات تعليمية تفاعلية ثرية تتّسم بالأصالة والواقعية. وجاء هذا المشروع في إطار الخطة الوطنية لتقنيات المعلومات والاتصال التي تبنّتها كوريا الجنوبية لإحداث نقلة نوعية في التعليم.
باشرت حكومة هونغ كونغ تنفيذ المشروع التجريبي للتعلّم الإلكتروني في إطار الاستراتيجية الثالثة لتقنيات المعلومات في التعليم، وامتدّ على مدى ثلاث سنوات سعيًا إلى اختبار الأنماط التعليمية الملائمة ورصد تدابير الدعم الضرورية التي تضمن تطوير حلول تعلّم إلكتروني ذات فاعلية حقيقية وقابلة للاستدامة والنقل والتوسّع. وقد تكوّنت المبادرة من 21 مشروعًا اختارها مكتب التعليم، مثّلت طيفًا واسعًا من التخصصات الدراسية وغطّت 61 مدرسة مشاركة.
باشرت حكومة سنغافورة تنفيذ الخطة الثالثة لتقنيات المعلومات والاتصال في التعليم (mp3)، وجعلت منها مبادرة وطنية تستهدف جميع طلاب المدارس دون استثناء. وانطلقت الخطة من رؤية ترمي إلى "إثراء بيئات التعلّم وتحويلها إلى فضاءات قادرة على تزويد الطلاب بالكفاءات الأساسية والقدرات النقدية التي تؤهلهم للنجاح في اقتصاد المعرفة". وقد وصلت هذه المبادرة إلى مرحلة الدمج الكامل في التيار التعليمي العام، مستفيدةً مما أنجزته الخطة الأولى والثانية من أهداف ونتائج، لتبني عليها وتعمّقها.
بيّنت القائمة أنّ الحالات المدروسة اختيرت على نحو يُظهر تباينًا شديدًا؛ فبعضها مثّل نطاقًا محدودًا اقتصر على مدرسة واحدة، بينما اتّسع نطاق بعضها الآخر ليشمل 200,000 معلّم موزّعين على 33 دولة. كما برز التباين في مصدر المبادرة، إذ تراوحت بين مبادرات مدرسية محلية ومبادرات ذات طابع أوروبي شامل، فضلًا عن التفاوت في درجة النضج بين مشاريع في مراحلها التجريبية الأولى ومبادرات وطنية راسخة وصلت إلى مرحلة الدمج الكامل بعد خمسة عشر عامًا من التطوّر. وجاء هذا التنويع منسجمًا مع متطلّبات تصميم دراسات الحالة المخصّصة لبناء النظرية، حيث يُنظر إلى كل حالة باعتبارها تجربة تحليلية قائمة بذاتها، ويُعطى الاهتمام لتطوير المفاهيم وإعداد مقاييس دقيقة وصياغة أطروحات نظرية قابلة للاختبار والتحقق (إيزنهادر وغريبنر 2007، ص 25).
اعتادت دراسات الحالة أن تبدأ بجمع البيانات بعد أن يكتمل تصميم البحث بصورة نهائية. إلا أنّ هذه الدراسة اختارت مسارًا مغايرًا، إذ لم تتضمّن جمع بيانات أولية بشكل مباشر. وبدلًا من ذلك، عهدت بمهمة إعداد "تقرير الحالة" الخاص بكل واحدة من الحالات السبع إلى باحثين أفراد أو فرق بحثية ممن يمتلكون خبرة واسعة وإمكانية الاطّلاع على التقارير البحثية والوصول إلى الأشخاص الرئيسيين المرتبطين بالحالة. وقد زُوّد هؤلاء الباحثون بنموذج موحّد لإعداد التقرير، بما يتيح إدراج كل حالة ضمن إطار مفاهيمي مشترك. ويقوم هذا الإطار على خمسة أبعاد، جرى تعريف كل منها عبر توصيف طرفين متقابلين ونقطة وسطية على متصل مستمر، وذلك لتحديد موقع الابتكار التعليمي الذي يتضمّن تغييرات في الممارسات التربوية:
طبيعة الابتكار (يتدرّج من تغييرات بسيطة إلى تغييرات جذرية وصولًا إلى تغييرات هدّامة)،
مرحلة التنفيذ (من مشروع تجريبي أولي إلى مرحلة توسّع ثم إلى دمج في التعليم النظامي)،
مستوى النفاذ (من المستوى المحلي إلى المستوى الإقليمي/الوطني وصولًا إلى المستوى العابر للحدود)،
مجال الأثر (يمتد من العمليات التعليمية إلى الخدمات التعليمية وصولًا إلى البنية التنظيمية للمؤسسة)،
الفئة المستهدفة (تبدأ من فرد واحد ثم مجموعة صغيرة من الفاعلين وصولًا إلى طيف واسع من المشاركين).
وُضعت هذه الأبعاد الخمسة بحيث لا تقتصر على إظهار أوجه التباين بين الابتكارات التربوية المتعددة، بل تشمل أيضًا الجوانب المتحركة للتغيير كما تتجسّد في المسارات الزمنية لكل ابتكار. وقد بيّن الشكل الكيفية التي جرى من خلالها إسقاط الحالات السبع على هذا الإطار المفاهيمي، لتوضيح موقع كل حالة ومقدار تغيّرها.
الشكل 12.1: تمثيل الحالات السبع للابتكار على الإطار المفاهيمي الذي وضعه (كامبيلِس وآخرون) لتصنيف الابتكارات ورصد مساراتها
المصدر: كامبليس وآخرون (2013)، ص 6.
توصل مشروع (SCALE CCR) إلى تحديد مجموعة من الشروط التي تجعل الابتكارات قادرة على إحداث أثر واضح في نتائج التعلّم، مستندًا في ذلك إلى ملاحظات أُعيدت عبر الحالات السبع المدروسة، وقد توافقت هذه النتائج مع ما أثبتته الأدبيات البحثية السابقة. وتعرض هذه الفقرة شرحًا للكيفية التي جرى من خلالها استخلاص ملاحظتين رئيسيتين، انبثقتا عن تحليل العلاقات القائمة بين البُنى المفاهيمية التي تباينت عبر نطاق واسع من الأبعاد والسياقات.
طرحت الدراسة سؤالًا جوهريًا: هل يؤثر نوع التقنية المختارة في مستوى الابتكار التربوي؟ وقد جاءت إحدى الملاحظات لتبيّن العلاقة الوثيقة بين درجة تعقيد التقنية المستعملة والدور الذي تنهض به داخل سياق الابتكار. وتبيّن أنّ التقنيات، سواء اقتصرت على أداة واحدة أو تعدّدت، كثيرًا ما جاءت إمّا كإضافة هامشية إلى المشروع أو كمبرّر أساسي لوجوده. ومع ذلك، فإن إحداث تغيير تربوي عميق يتطلّب أن تتحوّل التقنية إلى بنية تحتية رقمية متكاملة، تشمل الأجهزة والشبكات والوسائط، وتندمج مع بيئة التعلّم عبر الإنترنت ومواردها التعليمية.
افترض الباحثون أنّ الابتكار يمكن أن يتولّد إمّا عبر مبادرات تنطلق من القاعدة إلى القمة أو من خلال قرارات تأتي من القمة إلى القاعدة، بل وغالبًا ما يتداخل النمطان في المبادرة الواحدة. غير أنّ نجاح أي ابتكار، بصرف النظر عن حجمه أو مصدره أو طبيعة الوكالة فيه، يستلزم وجود قاعدة مشتركة من التوافق يقبلها جميع الأطراف المشاركين. وفي بعض الحالات، تكون هذه العتبة متدنية للغاية، كما في استخدام بوابة (eTwinning) أداةً للتواصل بين الصفوف الأوروبية، أو في إدخال أجهزة التعلّم الفردي 1:1 إلى بيئات التعليم. بينما ترتفع هذه العتبة في حالات أخرى أكثر تعقيدًا، مثل اعتماد نموذج بيداغوجي مشترك في مبادرة (CoREF)، أو تبنّي رؤية مدرسية متحوّلة كليًا في فضاءاتها ومناهجها وتنظيمها الزمني، على نحو ما هو قائم في مدرسة (Hellerup). ومن خلال هذا الإطار المفاهيمي، ربطت الدراسة بين مستوى عتبة المشاركة وبين نطاق الابتكار أو مستواه في سلم النفاذ، لتخلص إلى أنّ الابتكارات الأوسع نطاقًا غالبًا ما تتطلّب عتبة مشاركة أقل من نظيراتها المحدودة.
تكشف هذه الدراسة عن طاقة منهجية كبيرة في استخدام حالات متفاوتة من حيث الحجم والنطاق من أجل الوصول إلى فهم متدرج المستويات للظواهر التعليمية حين تكون موضع البحث ظواهر معقدة تتشابك فيها التفاعلات الهرمية وتتشابك معها ردود الأفعال المتبادلة. وفي هذا الإطار تُعرّف الحالات بوصفها كيانات دينامية ذات حدود متغيرة ومرنة، تتحرك وتتبدل مع مرور الزمن بدل أن تبقى ثابتة جامدة. وقد استفادت الدراسة من المعرفة العميقة التي يمتلكها الباحثون المكلّفون بكل حالة، ومن شبكات علاقاتهم المباشرة مع تلك المبادرات، لإنتاج تقارير مبنية على تحليل ثانوي لمصادر غنية ومتنوعة من الدراسات المطوّلة، وضمن إطار قوالب منهجية معدة سلفًا. وقد سمح هذا النهج بتوسيع نطاق البحث جغرافيًا وعلى مستوى أعداد المشاركين، فضلًا عن إطالة المدى الزمني للرصد بما يتجاوز الحدود المألوفة في البحوث المقارنة التقليدية.
الشكل 12.2: تمثيل مستوى المشاركة المطلوب للتوافق الاستراتيجي في مقابل مستوى الوصول ضمن دراسة (SCALE CCR)
المصدر: كامبليس وآخرون (2013)، ص 128.
وظّفت الدراسة ما جرى جمعه من الأدلة عبر الحالات لاستخلاص توصيات موجّهة لصانعي القرار في ميدان التعليم، بغية تعميم الابتكارات التعليمية المدعومة بتقنيات المعلومات والاتصال وتوسيع نطاقها على المستويات النظامية الواسعة (بريتشكو وآخرون 2013). وأبانت التحليلات النهائية عن درجة من الصلاحية الإيكولوجية بالنظر إلى أخذها في الحسبان للطابع المتغيّر والمتطور لهذه الابتكارات، غير أنّها كشفت أيضًا عن تحديات منهجية أساسية تتعلق بكيفية وضع الضوابط والمعايير الدقيقة للحكم على هذه الصلاحية.
كشف الشكل عن اتجاه سلبي واضح بين حجم الابتكار ومستوى الاصطفاف الاستراتيجي، غير أنّ الصورة لم تخلُ من استثناءات مهمّة. فمشروع التعليم الإلكتروني التجريبي في هونغ كونغ والخطة الثالثة لتقنيات المعلومات في التعليم في سنغافورة انطلقا في الحقبة نفسها، لكنّ النتائج اختلفت بصورة لافتة؛ إذ تمكّنت سنغافورة من بلوغ نطاق أشمل ورفع درجة الاصطفاف الاستراتيجي إلى مستويات أعلى بكثير. ويُعزى الغموض في تفسير هذا التباين إلى غياب بيانات وافية عن التطور الطبيعي التدريجي لهذه الابتكارات، ممّا جعل الأشكال و تكتفي بعرض لقطات ساكنة لا تكشف الخلفيات الكامنة وراء الفروق. لذلك قد يقتضي الوصول إلى إدراك أدق للفوارق السياقية والاستراتيجية التي صنعت هذه المسارات المتباينة مزيدًا من الابتكار المنهجي في الدراسات المقارنة للابتكارات التربوية.
نفّذت مؤسسة (SRI International) بدعم من شركة مايكروسوفت® ما بين عامي 2010 و2011 دراسة دولية واسعة حملت عنوان "البحوث حول التعليم والتعلّم الابتكاري (ITL)" (شير وآخرون 2011). وجاءت هذه الدراسة في إطار مفاهيمي ذي منظور إيكولوجي يركّز على فهم البنية الكاملة للنظام التعليمي بوصفه شبكة من العناصر المتداخلة والمتأثرة بالسياقات المحيطة. وسعت الدراسة إلى الكشف عن أشكال الدعم المؤسسي والمهني التي تعزّز الممارسات التدريسية المبتكرة عبر الاستخدام الفاعل لتقنيات المعلومات والاتصال، كما درست الأثر الذي تخلّفه هذه الممارسات على مخرجات التعلّم لدى الطلبة. وقد شملت الدراسة سبع دول تمثل طيفًا واسعًا من التنوع الجغرافي والثقافي والاجتماعي-الاقتصادي: أستراليا، وإنجلترا، وفنلندا، وإندونيسيا، والمكسيك، وروسيا، والسنغال. ولم يكن المقصد من المقارنة تصنيف الدول في مراتب أو ترتيبها على نحو تنافسي، بل السعي إلى استجلاء أوجه التشابه في العلاقات الجوهرية بين الشروط المتفاعلة داخل كل منظومة تعليمية، بما يكشف عن كيفية انعكاسها على الممارسات التربوية المبتكرة وعلى النتائج التعليمية للطلبة.
عالجت دراسة (ITL) ثلاث قضايا بحثية محورية (شير وآخرون 2010)، يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
استقصاء مدى الارتباط بين الممارسات التدريسية المبتكرة وبين النتائج التعليمية التي تُعِد الطلاب لاكتساب مهارات القرن الحادي والعشرين.
تحديد الشروط والعوامل القائمة على مستوى المدرسة التي تؤثر في تيسير تطبيق الممارسات التدريسية المبتكرة أو عرقلتها.
بحث طبيعة البرامج والدعوم الوطنية والإقليمية التي تعزّز فرص نشوء الممارسات التدريسية المبتكرة واستمرارها.
وظّفت الدراسة نتائجها في بلورة المرحلة التالية من البحث، حيث جرى التركيز على آليات تعزيز الممارسات التدريسية وتطويرها. وكما حدث في دراسة (SITES M2)، تولى فريق بحثي عالمي عملية الإشراف العام على الدراسة (ITL)، متكفّلًا بتصميم الإطار البحثي الكلي، وإنجاز التحليلات، وإعداد التقارير الدولية. وفي المقابل، اضطلعت فرق بحثية محلية في كل بلد بمهام التكييف مع السياقات الوطنية، وضمان ملاءمة الأدوات البحثية، وتنفيذ عمليات جمع البيانات بصورة مباشرة.
رأى الباحثون أنّ دراسة الحالة تمثّل الأداة المنهجية الأقدر على منح البحث المؤسَّس على منظور إيكولوجي قاعدة صلبة لفهم الظاهرة بصورة شمولية ومعمّقة، لما تنطوي عليه من إمكانات في ربط الممارسات بالسياقات المحيطة بها. وبما أنّ الهدف تمحور حول استجلاء طبيعة الممارسات التدريسية المبتكرة، لجأ الفريق إلى اعتماد أسلوب العيّنة الهادفة عند اختيار المدارس. وعلى غرار ما جرى في دراسة (SITES M2)، شكّلت كل دولة لجنة ترشيح محلية تضم ثلاثة إلى أربعة أعضاء لديهم القدرة على تمييز المدارس الأكثر إبداعًا، وقاموا بانتقاء 12 مدرسة مبتكرة إلى جانب 12 مدرسة للمقارنة. وحدّدت صفة "الابتكار" في المدارس وفق معايير دقيقة، تمثلت في تبنّي ممارسات تدريسية مبتكرة مرتكزة إلى ثلاثة عناصر أساسية: أولها اعتماد البيداغوجيا التي تتمحور حول الطالب وتضعه في قلب العملية التعليمية، وثانيها مدّ فضاء التعلّم ليشمل أنشطة تتجاوز حدود الصف التقليدي، وثالثها إدماج تقنيات المعلومات والاتصال في عمليتَي التعليم والتعلّم بشكل جوهري وفاعل (غالاغر وآخرون 2011).
اعتمدت دراسة (ITL) منهج دراسة الحالة المقارنة الأداتية الذي يقوم على مستويين من المقارنة. في المستوى الأول، عُقدت مقارنات بين المدارس داخل كل بلد على حدة، بهدف استجلاء الأسئلة البحثية الثلاثة ذات الطابع الوصفي والمتصلة بالممارسات التدريسية المبتكرة. وفي المستوى الثاني، وُضعت نتائج الدول السبع في مواجهة تحليلية مقارنة، ليتبيّن من خلالها العلاقات التي تكتسب دلالة إحصائية ومعرفية على مستوى مجموعة البيانات ككل، مع التأكد من أن هذه العلاقات حاضرة بوضوح فيما لا يقل عن ثلاث دول.
اعتمدت الدراسة على جمع أربع فئات رئيسية من البيانات: أولها الاستبيانات التي استهدفت المعلمين وقادة المدارس لرصد اتجاهاتهم وممارساتهم، وثانيها المشاهدات الصفية المباشرة لتوثيق ما يجري داخل الفصول الدراسية، وثالثها المقابلات مع قادة المدارس والمعلمين إلى جانب مجموعات التركيز الطلابية، ورابعها تحليل أنشطة التعلّم وأعمال الطلاب (LASW) باعتباره مؤشرًا ملموسًا على الممارسة التعليمية ومخرجاتها. وأسفرت هذه الأنواع الأربعة عن مجموعة واسعة من المؤشرات المرتبطة بالتدريس المبتكر. وقد اعتُبر (LASW) الأداة الأساسية والأكثر موضوعية لقياس كلٍّ من ممارسات المعلّمين وإنجازات الطلاب (غالاغر وآخرون 2011). ويُذكر أنّ إدخال هذه الأداة إلى نطاق المقارنات الدولية الكبرى للابتكار البيداغوجي شكّل إضافة جديدة نسبيًا، مما استدعى عرض تفاصيلها في هذه الدراسة.
رأى الباحثون أنّ النشاط التعليمي يمثّل المهمة التي يعهد بها المعلّم إلى طلابه سواء في بيئة الصف أو في خارجه، بوصفها جزءًا لا يتجزأ من العملية التعليمية الهادفة إلى إكساب المتعلّمين خبرات متنوّعة. وتُترجم هذه الأنشطة في صورة أعمال طلابية، أي نتاجات معرفية وعملية يبدعها المتعلمون أثناء التنفيذ، مثل المقالات الأكاديمية، والعروض الشفوية والمرئية، وأوراق العمل، إلى جانب إنتاجات أكثر ابتكارًا في مجال الوسائط المتعددة مثل البودكاست ومقاطع الفيديو. وفي إطار (LASW)، جُمعت عينات من هذه الأنشطة والنتاجات باعتبارها أدلة مباشرة على طبيعة الممارسات التدريسية ونتائج التعلّم، بحيث تعكس بصدق ما يجري في الصفوف الدراسية الواقعية. وقد تأسس هذا النهج المنهجي على إرث بحثي سابق تناول مسألة أصالة العمل المدرسي وعمقه الفكري (بريك وآخرون 2000)، ومعايير الصرامة والملاءمة التربوية (ميتشل وآخرون 2005)، إضافة إلى مقاربات حديثة ركّزت على الفرص التعليمية التي يتيحها القرن الحادي والعشرون (شير وآخرون 2009).
أجرت الدراسة في سنتها الأولى ضمن مشروع (ITL) عملية جمع تفصيلية لعَيّنات من الأنشطة التعليمية وأعمال الطلاب، استُمدّت من ثمانية معلّمين مختصين في الإنسانيات أو العلوم، يدرّسون لطلاب تتراوح أعمارهم بين 11 و14 سنة في ست مدارس منتقاة من بين 12 مدرسة مبتكرة في كل بلد مشارك. وقد طُلب من كل معلّم تقديم ما بين أربع وست عينات لأنشطة تعليمية مثّلت في نظره أفضل ما أتيح لطلابه من فرص تعلم عبر فترات زمنية متباينة خلال العام الدراسي. ويُلاحظ أنّ معيار "الأفضل" لم يُحدّد خارجيًا من قبل الباحثين، بل تُرك لممارسات المعلّمين وقناعاتهم التربوية، الأمر الذي جعل هذه العيّنات تعكس بجلاء تصوّرات المعلّمين الشخصية عن جوهر التدريس عالي الجودة ومقوماته.
كلّفت الدراسة المعلّمين المشاركين، إلى جانب ما قدموه من عينات للأنشطة التعليمية، بتسليم ستة نماذج من أعمال الطلاب تعود إلى أربعة أنشطة تعليمية من مجموعتهم. وجرت عملية الاختيار بطريقة عشوائية نفّذها فريق البحث المحلي، لضمان أن تعكس العينات واقع ممارسات الصف دون تحيّز. وقد اضطلع الشريك البحثي المحلي غالبًا بمهمة السحب العشوائي لهذه العينات، اعتمادًا على قوائم أسماء الطلاب في الصف المرتبط بالمهمة التعليمية. وخضع كل نشاط تعليمي من هذه الأنشطة الأربع أولًا لعملية ترميز دقيقة لقياس مستوى ما أتاحه من فرص لبناء المهارات لدى الطلاب، قبل الانتقال إلى أعمال الطلاب المرتبطة به. وعند هذه المرحلة، جرى ترميز عينات أعمال الطلاب الستّ لرصد الكيفية التي أظهر بها المتعلمون بالفعل المهارات المستهدفة، وبأي قدر تمكنوا من تجسيدها في منتجاتهم الكتابية أو التطبيقية.
ركّز الباحثون في هذا الموضع على تحليل بيانات (LASW) فقط، نظرًا لتشابه إجراءات تحليل بيانات الاستبيانات والمقابلات مع ما جرى اعتماده في دراستي (SITES M1) و(SITES M2). وقد تولّى معلمون محليون جرى اختيارهم بعناية وتدريبهم تدريبًا منفصلًا من قِبل الفرق البحثية الوطنية مهمة ترميز العينات (غالاغر وآخرون 2011). وخضع كل نشاط تعليمي (LA) لعملية ترميز مفصّلة شملت خمسة أبعاد أساسية هي: التعاون بين المتعلمين، وبناء المعرفة، واستخدام تقنيات المعلومات والاتصال في التعلّم، وحل المشكلات الواقعية مقرونًا بالابتكار، وأخيرًا التنظيم الذاتي. وبهذه الأبعاد الخمسة سعى الباحثون إلى قياس مدى اتاحة المعلّمين فرصًا حقيقية للطلاب لتطوير مهارات القرن الحادي والعشرين. وفي المقابل، جرى ترميز أعمال الطلاب (SW) استنادًا إلى أربعة أبعاد موازية، لكن مع استبعاد التعاون، واستبدال التنظيم الذاتي بمهارة الاتصال المتقدم، بغية الكشف عن مدى انعكاس المهارات المستهدفة في إنتاجات الطلاب. واعتمد الباحثون في عملية الترميز مقياسًا رباعي الدرجات، كما أجروا فحصًا لموثوقية الترميز بين المقيمين على 20% من العينات.
باشر الباحثون سلسلة من التحليلات الإحصائية المتقدمة على بيانات (LASW) المرمّزة، وغطّت هذه السلسلة أربعة محاور رئيسية. أولًا، جرى إعداد إحصاءات وصفية دقيقة للدرجات الموزونة بهدف توصيف الأنماط العامة للأداء. ثانيًا، حُسب معامل الارتباط داخل الصفوف (Intraclass Correlation Coefficient) لدرجات أعمال الطلاب (SW) من أجل تحديد مستوى الاتساق بين الحالات المختلفة. ثالثًا، استُخدم تحليل الانحدار الرتبي لتفسير العلاقة بين درجات الأنشطة التعليمية (LA) وأعمال الطلاب (SW)، وذلك بعد وزن النتائج وتصحيحها إحصائيًا لأخطاء المعيار. رابعًا، نُفّذ تحليل انحدار خطي بُني على المتوسطات الموزونة المجمّعة، سواء عبر أبعاد الأنشطة التعليمية أو عبر أبعاد أعمال الطلاب، بما مكّن من رصد العلاقات الكلية بين الطرفين. وإضافة إلى ذلك، وظّف الباحثون بيانات (LASW) المرتبطة بالمعلمين في نماذج انحدار رتبي إضافية، قصد فحص العلاقة بين نتائج (LASW) ودرجات المعلمين التي استُقيت من بيانات الاستبيانات، وهو ما أتاح رؤية أكثر شمولية حول تفاعل الممارسات التدريسية مع مواقف المعلّمين واتجاهاتهم.
أفاد (شير وآخرون 2011) بعدد من النتائج المهمة:
أ. ارتبطت الممارسات التدريسية المبتكرة إيجابيًا مع تنمية مهارات القرن الحادي والعشرين، وقد تبيّن أنّ تصميم الأنشطة التعليمية هو العامل الأكثر تأثيرًا في تحقيق هذه النتائج.
ب. ظهرت الممارسات التدريسية المبتكرة بوضوح أكبر عندما أُتيح للمعلمين التعاون فيما بينهم، وحينما استفادوا من أساليب تنمية مهنية معمّقة وتطبيقية، وكذلك في البيئات المدرسية التي عزّزت ثقافة الابتكار على نطاق واسع.
ج. دلّت النتائج على أنّ المعلمين هم الأكثر استخدامًا لتقنيات المعلومات والاتصال في عملياتهم التدريسية، في حين ظلّ استخدام الطلاب لها في ممارسات التعلّم أقل حضورًا.
د. وُجدت الممارسات التدريسية المبتكرة في جميع الدول المشاركة، لكنها كانت في الغالب محاولات فردية متفرقة يقودها معلمون متحفّزون، ولم تكن مرتبطة على نحو متماسك ببقية مكوّنات المنظومة التعليمية مثل تقييم الطلاب أو تقويم أداء المعلمين. كما لوحظت فروق واسعة داخل المدرسة الواحدة في أنماط التدريس، في حين ندر وجود ممارسات ابتكارية متماسكة على مستوى المدرسة بأكملها.
قدّمت دراسة (ITL) أدلة واضحة على وجود روابط وثيقة بين الممارسات التدريسية المبتكرة وبين تطوير الطلاب للمهارات التي ستفيدهم في حياتهم المستقبلية ومسارات عملهم. ومن خلال البنية المتداخلة في اختيار المعلّمين من مجموعة مدارس في كل دولة مشاركة، كشفت الدراسة عن أوجه تشابه قوية في الوضع الإيكولوجي المرتبط باستخدام تقنيات المعلومات والاتصال والابتكار التربوي. ولولا اعتماد هذا التصميم القائم على دراسة الحالات المتداخلة لما كان ممكنًا التوصّل إلى النتيجة الواردة في النقطة (d) أعلاه، ولا إدراك أنّ الملاحظات الأربع الرئيسة ظهرت متسقة عبر الدول السبع رغم تباين خلفياتها.
وقد واجهت دراسة (ITL) بدورها جوانب قصور كان لها أثر مباشر على صلابة نتائجها. فقد اتضح أنّ نطاق جمع البيانات ظل محدودًا، ولم تُنفَّذ خطة أخذ العينات وفق الانضباط المنهجي المطلوب، وهو ما انعكس سلبًا على إمكانية تعميم الاستنتاجات داخل حدود كل دولة، كما قلّل من جدوى المقارنات العابرة للبلدان. وبهذا، ظلّت النتائج قاصرة على توضيح اتجاهات عامة دون أن ترتقي إلى مستوى الأدلة القابلة للتعميم الدولي (غالاغر وآخرون 2011).
يظهر الاختلاف الجوهري بين المقارنة في مجال الابتكارات التعليمية والمقارنة في مجال أصول التعليم عند النظر إلى طبيعة ما يُراد استجلاؤه؛ فالمقارنة في الابتكارات تنصرف إلى متابعة التغيّرات البيداغوجية المتسارعة داخل الصفوف، حيث تتفاعل ممارسات التعليم مع القوى والسياقات الكبرى المحيطة بها، بينما تركز المقارنة في أصول التعليم على المظاهر الأكثر استقرارًا وتمثيلًا، بغية الكشف عن الخصائص العامة للممارسات التعليمية وربطها بالأبعاد الاجتماعية والثقافية والتاريخية والاقتصادية. ومن ثمّ، فإن المقارنة في أصول التعليم تُمارَس بوصفها الهدف المباشر، في حين أن المقارنة في مجال الابتكارات التعليمية تُستَخدم كأداة إجرائية ووسيلة تحليلية تستهدف تطوير نظريات أكثر عمقًا ونماذج عملية أوفر قدرة على تفسير التغيير وضمان استدامته وتوسّع أثره عبر المستويات المختلفة للنظم التعليمية.
أدّى الانتقال من مقارنة أُصول التعليم إلى مقارنة الابتكارات التعليمية إلى إثارة إشكالات منهجية ذات صلة بمجالات أخرى من بحوث التربية المقارنة. وتشمل هذه الإشكالات الغاية من المقارنة، وكيفية التعامل مع السياق، وأسلوب إجراء الدراسات المقارنة للظواهر التعليمية الديناميكية التي تنغرس في أنظمة متداخلة هرميًا.
جاءت الدراسة المصوّرة ضمن التقييم الدولي للرياضيات والعلوم (TIMSS) بهدف تفسير الفروق في تحصيل الطلبة في الرياضيات بين الولايات المتحدة وألمانيا واليابان، وهي ثلاث دول متقدمة اقتصاديًا لكنها تحتل مواقع متباينة على جدول الأداء في TIMSS. وقد بيّنت النتيجة المحورية أنّ الفروق القائمة بين هذه الدول تفوق بدرجة كبيرة الفروق الداخلية داخل كل دولة، الأمر الذي دفع (ستيغلر وآخرون 1999) إلى اعتبار أنّ تعليم الرياضيات في كل بلد يمكن صياغته في صورة «سيناريو» أو نصّ مهيكل، على نحو مشابه لتمثيل أداء الطلبة عبر المتوسطات الحسابية والانحرافات المعيارية لدرجاتهم. ويُعَدّ هذا الاستنتاج لافتًا وربما صادمًا في آن واحد، غير أنّ قيمته العلمية وإمكان توظيفه تظلّ عرضة للانتقاد. ويبرز التناقض هنا بوضوح مع دراسة (ITL) التي أثبتت وجود تنوّعات واسعة في أساليب التدريس حتى داخل المدرسة الواحدة، إلى جانب ما أظهرته من تشابهات في الروابط بين الممارسات التعليمية والعوامل السياقية، على الرغم من الفوارق الكبيرة بين الدول في المناهج والسياقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
حين تمرّ النظم التعليمية بمراحل تغيّر مضطربة لم تبلغ بعد نقطة التحوّل الفاصلة، تصبح الأدوات الإحصائية الهادفة إلى قياس النزعة المركزية أدوات غير دقيقة ولا تمتلك الحساسية الكافية لرصد التحوّلات. وقد أكّد تقرير (SITES 2006) هذه الحقيقة حين أوضح أنّ الممارسات التدريسية لدى المعلّمين ما زالت تقليدية على نطاق واسع، وأنّ الابتكارات التربوية التي ظهرت في حالات (SITES M2) المجمّعة عام 2000 بقيت محدودة الحضور ونادرة التحقّق (لو وآخرون 2008). ومثل هذه الديناميكيات لا يمكن لرصْدٍ بحثي يقوم على «لقطة» واحدة ـ كما هو الحال في الدراسة المصوّرة للـ(TIMSS) ـ أن يكشفها إلا إذا تكرّر الرصد بصورة دورية ومنتظمة.
خلافًا للدراسة المصوّرة ضمن (TIMSS) التي اكتفت بالتركيز على ممارسات الصف المباشرة، تميّزت الدراسات الخمس الأخرى التي عُرضت في هذا الفصل باهتمامها العميق بالمعطيات السياقية، وإن تباينت تصوّراتها ومداخلها المنهجية لدراسة هذا السياق. ففي أبحاث (ألكسندر 2000) و(لو وآخرون 2000)، اعتُبر السياق منظومة متشابكة من العوامل المؤسسية والثقافية والاقتصادية، تشمل رؤية المدرسة وقيادتها والعوامل البنيوية المحيطة بها. وقد اعتمد الباحثون على تحليلات نوعية معمّقة اتّسمت بالطابع التكراري وصولًا إلى بناء أنماط تصنيفية توضّح الممارسات التربوية والظروف السياقية المؤثرة فيها. وانتهوا إلى صياغة «خرائط سياقية» استُخدمت لتدعيم الوصف النوعي للممارسة التعليمية وإغنائه بتفاصيل تكشف التفاعل بين السياق والبيداغوجيا.
خطت دراسة (SITES M2) خطوة أبعد حين صاغت نموذجًا مفاهيميًا واضح المعالم للبنية الهرمية المتداخلة للعوامل السياقية على المستويين الكلي (الماكرو) والوسيط (الميسو)، مبيّنةً كيف تنعكس هذه العوامل على خصائص الابتكارات التربوية في المستوى الجزئي (الميكرو). ومع ذلك، فإنّ التصميم المنهجي للدراسة لم يوفّر الشروط اللازمة لاستخلاص نموذج إيكولوجي متكامل للابتكارات التربوية، إذ لم يتجاوز حجم البيانات المتاحة عند كل مستوى نقطة واحدة أو عددًا محدودًا جدًا من النقاط، مما جعل تمثيل التفاعلات بين المستويات أمرًا غير ممكن.
قدّمت دراسة (ITL) تصميمًا بحثيًا متقدّمًا يُعدّ الأكثر تطورًا بين الدراسات، بما مكّنها من رصد التعقيد الهرمي للبيانات عبر المستويات المتعددة للنظام التعليمي. وبفضل ذلك، استطاعت أن تكشف عن ملاحظات ثرية تتعلق بالعلاقات التي تربط بين خصائص الابتكارات التعليمية والعوامل السياقية في كل مستوى من مستويات التحليل داخل كل بلد مشارك.
اتّسمت دراسة (SCALE CCR) بقدر من الابتكار المنهجي في طريقة تعريفها للحالة البحثية، إذ ضمّت طيفًا واسعًا من الوحدات التي اختلفت في حجمها ومستوى تفصيلها، وأجرت المقارنات بالاعتماد على أبعاد تحليلية تتجاوز مجرد الوصف. وقد أتاح لها ذلك أن تقدّم تصميمًا بديلًا يمكن من خلاله تناول الابتكارات التربوية باعتبارها ظواهر مركّبة تتوزع على مستويات متعددة من النظام التعليمي.
شهدت كلٌّ من دراستي (SCALE CCR) و(ITL) محاولات أولية لتجسيد الطبيعة الديناميكية للابتكارات التربوية، غير أنّها اتخذت مسارات مختلفة. فقد أتاح تحليل مجموعة متنوّعة من «المشروعات» التي تختلف في مستوى التفاصيل وفي تاريخها التطوّري تصميم نماذج إحصائية ترصد الكيفية التي تتقدّم بها هذه المشروعات بمرور الوقت، سواء من حيث درجة الابتكار ـ المعبَّر عنها بمستوى المشاركة المطلوب للتوافق الاستراتيجي ـ أو من حيث مدى التأثير الذي يبلغه الابتكار. غير أنّ هذه النماذج بقيت إلى حدّ كبير ساكنة، ولم تُوفّر تفسيرًا معمّقًا للآليات أو الشروط التي تمكّن المشروعات ووحداتها الفرعية من التطوّر والتحوّل عبر هذين البُعدين.
امتدّ مشروع (ITL) عبر فترة زمنية بلغت ثلاث سنوات، اتّسم كل منها بوظيفة منهجية متميزة. فقد خُصِّص العام الأول باعتباره مرحلة تجريبية أولية جرى من خلالها اختبار التصميم البحثي وأدوات القياس، وإدخال التعديلات اللازمة عليها لضمان صلابتها. أما العام الثاني فقد مثّل المرحلة التي جرى فيها جمع البيانات وتحليلها بصورة أساسية، وهو ما يشكّل مادة العرض في هذا الفصل. بينما اتخذ العام الثالث مسارًا مختلفًا عن النمط المعتاد للتقييمات الطولية، إذ تحوّل إلى دراسة تطبيقية تستهدف بناء تدخّلات عملية وتنفيذها ورصد التغيّرات المترتبة عليها. وقد أتاح هذا الترتيب الفريد إمكان التوغّل في استكشاف الديناميكيات العميقة للتفاعلات والعلاقات المتشابكة بين المستويات المتعددة داخل المنظومة التعليمية، بما يكشف عن الكيفية التي تُولد بها الابتكارات التربوية وتتطور ضمن بيئة معقّدة وثرية بالترابطات.
تحقّق في هذا المجال البحثي الفرعي قدر كبير من التقدّم، سواء فيما يتعلّق بتصميم البحوث أو بتطوير أدوات القياس، وكان أبرز ما أُنجز فيه هو ترسيخ مناهج دراسة الحالة باعتبارها وسيلة قادرة على بناء نماذج إيكولوجية متعدّدة المستويات توضّح مسارات التغيّر. ومع تصاعد الاهتمام عالميًا بالدراسات المقارنة في مجال الابتكارات التربوية، بوصفها أداة لتوجيه السياسات التعليمية على المستويات المحلية والوطنية والدولية، يصبح من المتوقع أن تتعزز الإنجازات المنهجية في هذا الميدان، ولا سيما باتجاه صياغة نماذج ديناميكية للتغيّر تستوعب السياق في موقعه الطبيعي داخل بنيات هرمية متداخلة، تتسم بعلاقات متشابكة وتفاعلات متبادلة التأثير.