مقارنة طرائق التعلم 269
13
انشغل المؤلفون بدراسة أساليب التعلّم في مجتمعات متنوّعة لعقود طويلة، ويستعرض هذا الفصل جانبًا من التحديات المنهجية التي اعترضت عملنا وبعض النتائج التي توصّلنا إليها، كما يوضّح أيّ المقارنات في التعلّم يمكن اعتمادها وما الطرائق التحليلية الملائمة لها.
استندت محاولاتنا البحثية الأولى إلى خبراتنا في العلوم، وخاصة في علم النفس المعرفي، وقد ظلّ البحث عبر الثقافات في علم النفس يثير إشكالًا أساسيًا، إذ يركّز هذا العلم في جوهره على دراسة التباينات الفردية في السلوك، فيكون الفرد هو وحدة التحليل الطبيعية، غير أنّ جمع إجابات الأفراد المنتمين إلى ثقافة واحدة لتكوين درجة تمثّل تلك الثقافة في متغيّر ما قد يؤدّي إلى الوقوع في ما يُعرف بالمغالطة البيئية (فان دي فيفر & ليونغ 1997).
تتضح الإشكالية عند تأمل العلاقة بين معدلات الوفاة الناتجة عن النوبات القلبية والسكتات الدماغية، إذ يشترك السببان في ارتباطهما بالأوعية الدموية وقد ينجمان عن عوامل متقاربة، غير أنّ السكتة الدماغية تصيب الدماغ بينما تستهدف النوبة القلبية القلب، وعلى صعيد الأفراد لا يظهر أي ارتباط بين معدلات الوفاة بهذين السببين، ذلك أنّ الشخص الواحد لا يفارق الحياة بسبب الحالتين معًا، لكن عند النظر على مستوى الدول يتبدّى ارتباط معتبر بينهما، ففي البلدان الغنية عادةً ما ترتفع معدلات الوفيات بكلتا الحالتين مقارنة بالدول الأقل نموًا.
أظهرت تسعينيات القرن العشرين أنّ الأبحاث المخبرية المسيطرة في علم النفس، سواء في ميدان التعلّم اللفظي عند البشر أو في تجارب المتاهة عند الحيوانات، لم تكن ذات صلة حقيقية بالتعلّم في البيئة الصفية (براون 1992). واعتمدت الدراسات التجريبية غالبًا على محاكاة النمط التجريبي للعلوم الطبيعية، عبر ضبط كل المتغيّرات تقريبًا باستثناء عدد قليل من المتغيّرات المستقلة التي جرى تغييرها لقياس أثرها في متغيّر تابع. ومثال ذلك تعديل أنماط التعزيز لمعرفة أثرها في عدد المقاطع غير ذات المعنى التي يستطيع الفرد تذكّرها في وقت محدّد. لكن كثيرًا من هذه الأبحاث انصرف إلى اختبار نظريات معقّدة حول أنماط تعلّم غير جوهرية في ظروف مصطنعة، وبعينات ضيّقة اقتصرت غالبًا على طلاب جامعيون أمريكيون بيض من العرق القوقازي. تطوّر من هذه المعطيات البرنامج البحثي الذي يعرضه هذا الفصل، متجسدًا في اهتمامنا العلمي وخبرتنا التخصصية، حيث ركّز بصورة خاصة على المقارنة بين أنماط تعلّم الطلاب في المجتمعين الصيني والغربي، فاستهلّ الفصل باستعراض الأدبيات الجوهرية المتعلقة بمناهج التعلّم، ثم تابع نحو تحليل المقارنات الخاصة بالارتباطات بين استراتيجيات التعلّم مع إبراز قضايا التكافؤ المفاهيمي، وإجراءات الموثوقية، ودرجة الصلاحية البنائية، لينصرف بعد ذلك إلى ما سُمّي بمفارقة المتعلّم الآسيوي مبينًا طبيعتها وطرق تفسيرها، ويتناول في قسم لاحق تصوّرات التدريس من منظور صيني، ليصل في ختامه إلى عرض الاستنتاجات النهائية.
جاء انخراط المؤلف الأول في دراسة بيئة التعلّم متأثرًا بورقتين محوريتين نُشرتا في سبعينيات القرن الماضي (بيغز 1979؛ مارتون & سالجو 1976)، وهما من بين أكثر الأعمال التي جرى الاستشهاد بها في حقل علم النفس التربوي، إذ شكّلتا منطلقًا لمقاربة جديدة للتعلّم تختلف عن النماذج السائدة آنذاك، فقد أراد (بيغز) و(مارتون) و(سالجـو) أن يدرسوا التعلّم لا بوصفه موضوعًا يُحلّله الباحث من الخارج، بل من داخل تجربة المتعلّم نفسه، بما تحمله من إدراك ومعنى وممارسة، ومن هنا ظهر ما أصبح يُسمّى بالمنظور من الدرجة الثانية (مارتون & بوث 1997)، الذي مثّل خطوة نوعية في إعادة الاعتبار لزاوية نظر المتعلّم داخل الدراسات التربوية.
انتمى هؤلاء الباحثون جميعًا إلى تكوين علمي واحد في مجال علم النفس، غير أنّ نهجهم لموضوع البحث تباينت تباينًا ملحوظًا، إذ أسند (مارتون) و(سالجـو) إلى مجموعة من طلاب الجامعات السويدية مهمة قراءة مقالة أكاديمية ثم الإجابة عن أسئلة حول ما تعلّموه وكيف تعلّموه، وكشفت المقابلات المعمّقة اللاحقة عن وجود نمطين رئيسيين في التعامل مع المهمة، فقد ركّز بعض الطلاب على محاولة حفظ التفاصيل الدقيقة أو المفاهيم الأساسية لضمان الإجابة عن الأسئلة، فانحصرت قراءتهم عند حدود الكلمة أو الجملة، في حين سعى معظم الطلاب الآخرين إلى استيعاب المغزى الكلي للنص، فتمحور اهتمامهم حول الأفكار الكبرى والموضوعات المحورية، وعالجوا النص من زاوية المعنى والرسالة التي ينطوي عليها.
وصف الباحثون هذه النوايا وما يصاحبها من استراتيجيات في القراءة بأنّها تمثل نهجًا سطحيًا ونهجًا عميقًا في التعلّم، وأكّدوا في نتائجهم أنّ الاختلاف بين هذين النهجين لا يقتصر على أسلوب القراءة فحسب، بل يمتد ليُنتج فروقًا نوعية في المخرجات التعليمية ذاتها، إذ أظهر الطلاب الذين اعتمدوا النهج السطحي قصورًا في القدرة على توضيح رسالة المؤلفين، ولم يتجاوزوا استدعاء شذرات حقائق أو أجزاء مفصولة من النص، بينما تميّز الطلاب الذين اتخذوا النهج العميق بقدرتهم على بلورة فهم متكامل وأكثر عمقًا لمقاصد المؤلفين، وغالبًا ما وظّفوا اقتباسات نصيّة من المقالة لتدعيم استنتاجاتهم وتعزيز حججهم.
طوّر الباحثون السويديون لاحقًا منهجًا نوعيًا في البحث أطلقوا عليه اسم الفينومينوجرافيا (مارتون 1981)، وهو منهج يهدف إلى فهم الكيفية التي يدرك بها الطلاب مضمون التعلّم وعمليته، أي "ماذا" يتعلّمون و"كيف" يتعلّمون، وقد استند هذا التوجّه إلى الأساس الفينومينولوجي القائل بأن أفعال الأفراد تنبع من تفسيراتهم الذاتية للموقف أكثر مما تنبع من "الواقع الموضوعي".
عمل (بيغز) في أستراليا و(إنتويسل) في المملكة المتحدة على تطوير أدوات لقياس عمليات التعلّم كلٌ على نحو مستقل، مستلهمَين في ذلك ورقة (مارتون & سالجو 1976) وما تلاها من دراسات فينومينوجرافية، كما تبنّيا المصطلحات المرتبطة بـالنهج السطحي والنهج العميق ومناهج التعلّم، ثم قدّم (بيغز 1987) من خلال استبيان عملية التعلّم (LPQ) واستبيان عملية الدراسة في المرحلة الجامعية (SPQ)، وكذلك (إنتويسل & رامسدن 1983) من خلال استبيان مقاربات الدراسة (ASI)، إضافةً جديدة تمثّلت في النهج الإنجازي، حيث يتبنّى الطلاب الذين يسلكون هذا النهج استراتيجيات متنوّعة لتحقيق أعلى الدرجات، فيجتهدون ويعملون بكفاءة عالية، ويُظهرون وعيًا بمؤشرات الأداء وعلاماته، ويستعملون أي وسيلة تُسهم في النجاح الأكاديمي، سواء بالاعتماد على الحفظ الآلي لمعلومات وفيرة أو باستيعاب المبادئ الجوهرية، طالما أنّ ذلك يزيد من فرصهم في بلوغ التفوق.
اتّبع (واتكنز) نهج (بيغز) و(إنتويسل)، ووفّر أدلّة مبكرة تدعم موثوقية استبياناتهما وصلاحيتها، فبينما انصبّ جانب كبير من أعماله الأولى على دراسة العوامل المؤثرة في تعلّم طلاب الجامعات الأستراليين، أجرى دراسات موازية في إحدى الجامعات الفلبينية، وتمكّن من تأكيد الخصائص السيكومترية للاستبيان لدى الطلاب الفلبينيين، سواء من حيث الصدق البنائي أو الثبات، غير أنّ هذا الإنجاز ترك سؤالًا مفتوحًا حول إمكان مقارنة الدرجات الخام بين الطلاب الأستراليين ونظرائهم الفلبينيين، وهو ما يُعرف في أدبيات علم النفس عبر الثقافات بمشكلة تكافؤ القياس، إذ أوضح (هوي & تريانديس 1985) أنّ استخدام أدوات القياس النفسي في ثقافات مختلفة يستلزم البرهنة على مجموعة من أنماط التكافؤ، يتيح كل منها نوعًا محدّدًا من التفسيرات، وعلى المستوى الأكثر أساسية ينبغي أن تكون المفاهيم المدروسة متماثلة في الثقافتين، حتى يتمكّن الباحثون من استخدام مثل هذه الاستبيانات لإجراء مقارنات بينهما.
بلغ أعلى مراتب التكافؤ ما يُسمّى بـالتكافؤ المتري، ويُراد به أن تكون الدرجة الخام التي يحصل عليها مستجيب من ثقافة معيّنة مساوية رياضيًا للدرجة التي يحصل عليها مستجيب من ثقافة أخرى، فمثلًا إذا أحرز طالب نيبالي 19 درجة في مقياس الاستراتيجيات السطحية من استبيان عملية الدراسة (SPQ)، فإن ذلك يُفهم على أنّه يستخدم هذه الاستراتيجيات بالقدر نفسه الذي يستخدمه طالب أسترالي أحرز الدرجة ذاتها، غير أنّ التوصّل إلى مثل هذا التكافؤ أمر يكاد لا يمكن تحقيقه، إذ إن أنماط الاستجابة تختلف باختلاف الثقافات، فالمستجيبون قد يتفاوتون في استعدادهم للموافقة على صياغات الأسئلة، أو في نزوعهم إلى تقديم إجابات يعتقدون أنّها مقبولة اجتماعيًا، أو في ميلهم إلى اختيار الدرجات القصوى عند التقدير، ومع أنّ هذه التحيّزات تميل إلى التوازن داخل الثقافة الواحدة، فإنها تُربك أي محاولة للمقارنة عبر الثقافات (انظر فان دي فيفر & ليونغ 1997)، فضلًا عن أنّ الاختبارات الإحصائية المستخدَمة في المقارنات بين المتوسطات تفترض الاعتماد على عينات مأخوذة عشوائيًا، وهو افتراض قلّما يتحقق في الصفوف الدراسية الواقعية، هذا إلى جانب أنّ المقارنة بين ثقافات مختلفة تستلزم عينات تعبّر تمثيلًا حقيقيًا عن الطلاب والمعلمين فيها، وهو ما يتعذّر بلوغه في معظم الأحوال، الأمر الذي يفرض توخّي الحذر في تفسير مثل هذه المقارنات.
يتحقق مستوى وسيط من التكافؤ حين تُظهر نتائج الأداة أنّها تتمتع بالثبات والصدق في كل ثقافة على حدة، وبذلك يمكن للباحث أن يقارن معاملات الارتباط بين البنى التي تقيسها الأداة والمتغيّرات الأخرى داخل كل ثقافة، فمثلًا يمكن دراسة معامل الارتباط بين درجات الطلاب على مقياس الاستراتيجيات العميقة في استبيان عملية التعلّم (LPQ) وبين تحصيلهم الأكاديمي، سواء في الفلبين أو في أستراليا، وتسمح هذه المقارنات بإبراز أوجه العلاقة بين مقاربات التعلّم وغيرها من المتغيرات النفسية والتربوية المهمة في ثقافات مختلفة، كما تتيح اختبار صلاحية طائفة من الفرضيات النظرية الغربية عند تطبيقها في بيئات غير غربية، وقد أدّى إسهام المؤلف الأول في هذا الحقل إلى صدور مجموعة من الأوراق البحثية وإطلاق برنامج علمي ممتد عُرف بـالتحليلات الميتا عبر الثقافات (واتكنز 1998؛ 2001).
شكّلت المرحلة الأولى من هذا البرنامج البحثي خطوة تأسيسية أثبتت أنّ المفاهيم المتداوَلة ذات صلة بسياقات ثقافية مختلفة، وأكّدت أنّ الأدوات المستخدمة تتمتع بالثبات والصدق بما يتيح تطبيقها على المستجيبين من هذه الثقافات، وقد استدعى ذلك إيلاء عناية خاصة لمسألة التكافؤ المفاهيمي، وضبط الثبات، والتحقق من صلاحية البنية الداخلية، إضافة إلى عدد من القضايا الأخرى ذات الصلة.
ارتبطت مفاهيم التكافؤ المفاهيمي ارتباطًا وثيقًا بمناهج البحث المعروفة بالمنظور الخارجي (etic) والمنظور الداخلي (emic) (بيري 1989)، حيث يسعى المنظور الخارجي إلى إجراء مقارنات بين الثقافات استنادًا إلى فئات يُعتقد أنّها ذات طابع كوني، في حين يعتمد المنظور الداخلي على مفاهيم تنشأ من داخل ثقافة معينة، وقد ارتبط هذا التوجّه تقليديًا بعلم الأنثروبولوجيا ثم لاقى حضورًا متزايدًا في مجال علم النفس الأصلي (كيم & بيري 1993)، وقد حذّر (تريانديس 1972) من مخاطر ما سمّاه بالبحث "شبه الخارجي" (pseudo-etic)، الذي يفرض مفاهيم ثقافة معينة على ثقافة أخرى باعتبارها كونية، من دون إجراء أبحاث سابقة تتحقق من صدقية هذا الافتراض.
أكّد علماء النفس أنّ بوسعهم الكشف عن المشكلات المتعلّقة بـالتكافؤ المفاهيمي من خلال مقارنة توزيع استجابات المستجيبين على الاستبيانات في ثقافات مختلفة (فان دي فيفر & ليونغ 1997)، وقد أوضحوا أنّ طرائق تحليل تحيّز الفقرات التي ينادون بها قادرة بالفعل على إبراز ما يعتري صياغة البنود من إشكالات، غير أنّ هذا النهج أغفل السؤال الجوهري: هل المفاهيم ذاتها متكافئة فعلًا؟
يبدو جليًا أنّ تقويم التكافؤ المفاهيمي للبنى الكامنة وراء أدوات التعلّم مثل استبيان عملية الدراسة (SPQ) لا يتحقّق إلا عبر التحليل النوعي، ومن أبرز النماذج المستخدمة هنا الفينومينوجرافيا، وقد شهدت ثقافات غير غربية عددًا من الدراسات التي تناولت طلابًا في الصين القارية وهونغ كونغ واليابان وماليزيا ونيبال ونيجيريا، إضافة إلى جامعة جنوب المحيط الهادئ.
قدّمت دراسات عدّة شواهد تؤكّد أنّ المفاهيم التي صاغها (بيغز) و(إنتويسل) تحتفظ بجدواها عند تطبيقها على طلاب نيجيريا، إذ كشفت دراسة إثنوغرافية امتدّت إلى 120 ساعة من الملاحظة في مدارس ابتدائية بمدينة لاغوس أنّ التلاميذ جرى تدريبهم على الاعتقاد بأن الحصول على الإجابة الصحيحة بأي وسيلة، حتى بالغش، يمثّل جوهر عملية التعلّم (أوموخوديـون 1989)، ولم يُبدِ المعلّمون ولا التلاميذ اهتمامًا بعمليات فهم المشكلة أو بآليات التوصّل إلى الحل، وهو ما دفع (أوموخوديـون) إلى الاستنتاج بأن النهج السطحي للتعلّم هو الذي جرى تشجيعه، وجاءت أدلة إضافية من دراسة أخرى شملت 250 طالبًا جامعيًا نيجيريًا أُجيب فيها عن سؤال: "ما الاستراتيجيات التي تستخدمها للدراسة؟" (إهينديرو 1990)، وأبان تحليل المحتوى عن ثلاثة موضوعات أساسية: الاجتهاد، وبناء الفهم، وحفظ المادة من دون استيعابها، وهي موضوعات تقابل ما يُعرف بالنهج التحصيلي والنهج العميق والنهج السطحي في التعلّم.
كشفت التحقيقات النوعية في مناهج التعلّم وتصورات الطلاب الصينيين في هونغ كونغ والصين (كيمبر وغاو 1991؛ مارتون وآخرون 1996؛ داهلين وواتكنز 2000) عن دعم جزئي للصدق المفاهيمي لبنيتي النهج العميق والنهج السطحي عند هؤلاء الطلاب، غير أنّ جميع هذه الدراسات خلصت إلى أنّ الطلاب الصينيين يميلون إلى اعتبار الحفظ عنصرًا مرتبطًا بكلا النهجين، في حين يرى الطلاب الغربيون أنّ الحفظ سمة من سمات النهج السطحي، وأظهرت أبحاث أُجريت في نيبال (واتكنز وريغمي 1992، 1995) أنّ النهجين العميق والسطحي احتفظا بصلتهما لدى الطلاب النيباليين الذين شملتهم العينة، غير أنّ مفهوم التعلّم بوصفه بناءً للشخصية ظهر لديهم في مستوى معرفي أدنى مما هو عليه في الدراسات الغربية، وبذلك يتّضح أنّ بنيتي النهج العميق والسطحي في التعلّم صالحتان للتطبيق في ثقافات غير غربية، لكن ينبغي في الوقت نفسه أخذ الخصوصيات الثقافية في الاعتبار.
تستلزم الاستجابات على أي أداة قياس تقويمًا لمستوى الثبات في الثقافة التي تُطبّق فيها، وقد توافر دليل قوي نسبيًا على ثبات الاستجابات في استبيان عملية الدراسة (SPQ) واستبيان عملية التعلّم (LPQ) واستبيان مناهج الدراسة (ASI) عبر مجموعة من الثقافات، إذ حصل (واتكنز 2001) على معاملات ألفا كرونباخ لعينات مستقلة بلغت 14 عينة ضمّت 6500 طالب جامعي من 10 دول، وتجاوزت في معظمها 0.50، ويُنظر عادةً إلى هذا المقدار باعتباره مقبولًا لأداة بحثية مخصّصة للمقارنات بين المجموعات، لكنه يظل أقل من المستوى المطلوب عند اتخاذ قرارات أكاديمية مهمة تتعلق بالطالب الفرد (نانلي 1978)، ولم يكن مفاجئًا أن تكون تقديرات الثبات أعلى قليلًا لدى الطلاب الأستراليين الذين طُوّرت هذه الأدوات في الأصل لأجلهم، بينما جاءت منخفضة بوجه خاص لدى الطلاب النيباليين، حيث قد لا تكون المفاهيم بنفس القدر من الصلة لديهم، إضافة إلى ضعف نسبي في كفاءتهم اللغوية بالإنجليزية.
أُثبتت صلاحية البنية الداخلية أو ما يُعرف بصدق التكوين لكل من استبيان عملية التعلّم (LPQ) واستبيان عملية الدراسة (SPQ) من خلال مقارنة نتائج التحليل العاملي الداخلي للاستجابات على مقاييسهما في ثقافات مختلفة بعضها مع بعض، ومقارنتها بالنموذج النظري المتوقع، وقد أكّد التحليل العاملي التوكيدي لاستجابات استبيان (LPQ)، الذي يتشارك مع (SPQ) النموذج النظري القائم على ثنائية الدافع/الاستراتيجية، في 10 عينات من طلاب المدارس في ست دول مختلفة وجود عاملين أساسيين هما النهج العميق والنهج السطحي (وونغ وآخرون 1996)، كما دعمت مراجعة الدراسات العاملية التي قدّمها (ريتشاردسون 1994) الصلاحية عبر الثقافات لاستبيان (ASI) بوصفه مقياسًا للنهج العميق والسطحي.
اعتمد التحليل البعدي عبر الثقافات أساليب التوليف الكمي في إطار التقليد البعدي (غلاس وآخرون 1981؛ روزنثال ودي ماتيو 2001) لاختبار مدى الصلة الثقافية للمتغيرات التي طرحتها نظرية التعلّم، والتي يُفترض أن تكون مرتبطة بدرجة معنوية بكل من النهج السطحي والنهج العميق والنهج التحصيلي، وأوضح (بيغز 1987) أنّ طريقة تعلّم الطالب تتحدد بعوامل تمهيدية ترتبط بشخصه من جهة وبالبيئة التعليمية من جهة أخرى، وقد جرى في هذا السياق اختبار عدد من العلاقات من منظور مقارن عابر للثقافات:
ارتبطت مناهج التعلّم بالتحصيل الأكاديمي ارتباطًا وثيقًا، إذ يُتوقّع أن تؤثر الطريقة التي يعتمدها الطالب في التعلّم على أدائه الدراسي، وقد توقّع (بيغز 1987) و(شميك 1988) أنّ اتباع النهج السطحي يرتبط سلبًا بالإنجاز الأكاديمي، في حين يرتبط اعتماد النهج العميق والنهج التحصيلي إيجابًا بالدرجات، غير أنّ هذه التنبؤات تقوم على افتراض مفاده أنّ مخرجات التعلّم ذات الجودة الأعلى تُكافَأ في نظام التقييم، وهو ما لا يتحقق في كثير من الأحيان.
أكّدت البحوث أنّ العلاقة بين تصوّر الذات ومكان الضبط من جهة، وبين أساليب التعلّم من جهة أخرى، تُعدّ علاقة جوهرية، حيث يميل الطلاب الذين يثقون بأنفسهم ثقة عالية، ولا سيّما في مجال قدراتهم الأكاديمية، والذين يظهرون استعدادًا لتحمّل مسؤولية أكبر تجاه نتائج تعلّمهم، إلى تبنّي مناهج تعلّم أكثر عمقًا وأكثر تحصيلاً، وهي مناهج تقتضي أن يستند الطالب إلى فهمه الذاتي واستيعابه المباشر لمواد المقرّر، وأن يطوّر استقلاليته الفكرية في معالجة المعرفة، في حين تتراجع درجة اعتماده على المعلم أو على النصوص المقرّرة باعتبارها المصدر الأوحد للفهم (بيغز 1987؛ شميك 1988).
بدأت المرحلة الأولى من أي تحليل بعدي باختيار الدراسات التي ستخضع للتوليف الكمي، ويُطرح في هذه المرحلة قرار جوهري يتمثّل في تحديد ما إذا كان ينبغي الاقتصار على الدراسات التي تستوفي معايير جودة محدَّدة مسبقًا، مع ضرورة الحسم أيضًا في ماهية هذه المعايير التي يُعتدّ بها لاعتماد الدراسة أو استبعادها.
أجرى (واتكنز) تحليلًا بعديًا عبر الثقافات اعتمد فيه على بحث منهجي في قواعد بيانات معروفة على أقراص مدمجة، إضافة إلى عمليات بحث غير رسمية في مجموعة الدوريات الواسعة بمكتبة جامعة هونغ كونغ، كما سعى إلى جمع مواد منشورة وغير منشورة خلال مؤتمرات دولية، ووجّه رسائل ورقية وإلكترونية إلى باحثين بارزين في هذا المجال، وقد شمل التحليل جميع الدراسات التي عرضت معاملات ارتباط بين أحد مناهج التعلّم على الأقل ومقاييس تقدير الذات أو مكان الضبط أو التحصيل الأكاديمي، أو التي أتاحت بياناتها تقدير هذه المعاملات إحصائيًا، وذلك بشرط أن تُظهر الاستجابات على المقاييس مستوى مقبولًا من الاتساق الداخلي (معامل ألفا لا يقل عن 0.50) في الثقافة موضوع الدراسة، وقد أدّت هذه المعايير إلى استبعاد أربع دراسات.
أبرزت التحليلات البعدية تحدّيًا منهجيًا يتمثّل في التحقّق مما إذا كانت المقاييس المستمدّة من أدوات مختلفة تؤدي بالفعل وظيفة قياس المتغيرات عينها، وبالتالي يمكن دمج نتائجها في إطار واحد، وقد بُني هذا التحليل البعدي على افتراض أساسي مفاده أنّ الأدوات المتعددة المصمّمة لقياس عملية التعلّم تعكس في جوهرها نهج الطالب في التعلّم على النحو الذي أكّد عليه واضعو هذه الاختبارات، كما توسّع ليشمل افتراضًا آخر بأنّ مقاييس تقدير الذات ومكان الضبط والتحصيل الأكاديمي، على اختلاف طرائق قياسه بين الاختبارات المدرسية والمعدّل التراكمي واختبارات التحصيل المعيارية، تمثّل في مجموعها المتغير ذاته.
أُنجزت الخطوة التالية في التحليل البعدي من خلال حساب متوسط معاملات الارتباط بعد حصر الدراسات المؤهَّلة واستخلاص الارتباطات الملائمة، وقد تجاوز الهدف من هذا الإجراء مجرّد الحصول على تقدير كلي لقوة العلاقة ليشمل التعرّف على مدى تباين هذه العلاقة بحسب خصائص العينة، إذ كان الأمل أن يتيح التحليل إدراكًا أوضح لطبيعة الارتباطات القائمة بين مناهج التعلّم والمتغيرات الأخرى محل الاهتمام، وذلك عبر فحص الفروق بين العينات الغربية وغير الغربية من جهة، وبين المستويات المدرسية والجامعية من جهة أخرى.
أظهر الجدول متوسط معاملات ارتباط بيرسون التي تبيّن العلاقة بين مناهج التعلّم من جهة، والتحصيل الأكاديمي وتقدير الذات ومكان الضبط الداخلي من جهة أخرى، وقد جرت تحليلات مستقلة لكل من عينات طلاب المدارس وعينات طلاب الجامعات، مع أخذ تنوّع أدوات القياس المعتمدة لهذه المتغيرات في الاعتبار.
نُهج التعلم والتحصيل الدراسي: كشفت التحليلات أنّ متوسط معاملات الارتباط بين أساليب التعلّم والتحصيل الأكاديمي، وفق بيانات 28053 طالبًا من 55 عينة مستقلة في 15 دولة، سجّل –.11 للنهج السطحي، و.16 للنهج العميق، و.18 للنهج التحصيلي، كما اتضح أنّ هذه الارتباطات تميل إلى أن تكون أعلى قليلًا في العينات الغربية، خصوصًا عند مستوى المدارس، وعلى الرغم من أنّ انخفاض قوة العلاقات بين أساليب التعلّم والتحصيل الأكاديمي قد عُدّ مخيّبًا للآمال، فإنّه كان أمرًا متوقعًا، إذ غالبًا ما تكافئ نظم التقييم المدرسية والجامعية أشكال التعلّم السطحي، بينما أظهرت الأدلة أنّ ارتباط النهج العميق بمخرجات التعلّم عالية الجودة أقوى بما لا يقاس (واتكنز وبيغز 1996).
الجدول 13.1: متوسط معاملات الارتباط بين مقاييس مناهج التعلّم والتحصيل الأكاديمي وتقدير الذات ومكان الضبط | ||||
المجموعات | حجم العينة | النهج السطحي | النهج العميق | نهج التحقيق |
الإنجاز الأكاديمي | ||||
الغربي | 11.023 | -0.13 | 0.18 | 0.21 |
غير الغربي | 17.030 | -0.10 | 0.14 | 0.16 |
الإجمالي | 28.053 | -0.11 | 0.16 | 0.18 |
تقدير الذات | ||||
الغربي | 5.478 | -0.03 | 0.33 | 0.30 |
غير الغربي | 3.232 | -0.08 | 0.27 | 0.25 |
الإجمالي | 8.710 | -0.05 | 0.30 | 0.28 |
موضع السيطرة | ||||
الغربي | 4.339 | -0.15 | 0.10 | 0.15 |
غير الغربي | 8.673 | -0.22 | 0.09 | 0.11 |
الإجمالي | 13.012 | -0.20 | 0.09 | 0.12 |
المصدر: مقتبس من واتكينز (2001). | ||||
نهج التعلم وتقدير الذات: بلغ متوسط الارتباطات بناءً على بيانات من 8710 مشاركًا (بما في ذلك 28 عينة مستقلة في 15 دولة) (-0.05) و(0.30) و(0.28) مع النهج السطحية والعميقة والمحققة على التوالي. تجاوز متوسط الارتباطات مع المقاربات العميقة والمحققة 0.25 لجميع العينات الفرعية، ولكنها كانت قوية بشكل خاص (0.33) لطلاب الجامعات الغربية ذوي النهج العميقة.
نهج التعلم وموقع السيطرة الداخلي: كان متوسط العلاقات القائمة على بيانات من 13012 مجيبًا (بما في ذلك 27 عينة داخلية في 11 دولة) (-0.20) و(0.09) و(0.12) مع النهج السطحية والعميقة والمحققة على التوالي. وأظهر مزيد من التحليل أن الارتباطات السلبية مع النهج السطحية كانت أكبر من تلك مع النهج الأخرى لعينات المدارس غير الغربية والغربية.
ومع ذلك كانت الارتباطات مع كل من النهج العميقة والمحققة أعلى بكثير بالنسبة للعينات الغربية على المستوى الجامعي.
أثبت التحليل البعدي عبر الثقافات أنّ معاملات الارتباط بين مناهج التعلّم من جهة، وكل من التحصيل الأكاديمي وتقدير الذات ومكان الضبط من جهة أخرى، جاءت متقاربة إلى حد كبير في المدارس والجامعات سواء في السياق الغربي أم غير الغربي، كما تكرّرت هذه النتيجة على اختلاف أدوات القياس المستخدمة، وقدمت هذه النتائج دليلًا داعمًا على الصلاحية عبر الثقافات للنظريات الغربية في هذا المجال، كما أوحت بأنّ التدخلات التعليمية التي صيغت في الإطار الغربي بغرض الارتقاء بجودة استراتيجيات التعلّم قد تكون صالحة وفعّالة كذلك عند تطبيقها على طلاب من بيئات غير غربية.
أكّدت الدراسات أنّ النهج الكيفية تكشف بصورة أعمق عن طبيعة المقارنات بين أنماط التعلّم في السياقات الثقافية المختلفة، ويبرز ذلك من خلال ما أُطلق عليه "مفارقة المتعلّم الآسيوي"، وهي مفارقة تُبنى على قياس منطقي يتّسم بالبساطة الظاهرية:
يستخدم الطلاب الأسيويون التعلم عن ظهر قلب أكثر من الطلاب الغربيين.
يؤدي التعلم عن ظهر قلب إلى نتائج تعلم ضعيفة.
ووفق هذا الاستدلال، يُفترض أنّ نتائج التعلّم عند الطلاب الآسيويين أقل جودة من نتائج أقرانهم الغربيين.
أظهرت المقارنات الدولية للأداء التعليمي أنّ النتيجة جاءت معاكسة تمامًا لما افترضه القياس السابق، إذ حقق طلاب سنغافورة واليابان وتايوان وهونغ كونغ مستويات أداء تفوقت بانتظام على مستويات طلاب غالبية الدول الأخرى المشاركة في دراسة التوجّهات في الرياضيات والعلوم (TIMSS) وفي برنامج التقييم الدولي للطلاب (PISA) (موليس وآخرون 2008؛ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 2010؛ مارتن وآخرون 2012)، وقد استمر هذا التفوق ثابتًا رغم الإصلاحات المنهجية التي حاولت "تغريب" التعليم، كما أظهرت نتائج هذه الأنظمة التعليمية في دراسة التقدّم في مهارات القراءة الدولية (PIRLS) أداءً يفوق المتوسط الدولي (موليس وآخرون 2012)، الأمر الذي يوضح أنّ الاستنتاج المستخلص من القياس السابق غير صحيح، وأنّ موطن الخطأ لا بد أن يكون في واحدة على الأقل من مقدماته.
استند الادعاء المتعلّق بانتشار التعلّم عن ظهر قلب إلى تقارير الممتحنين والمعلمين الذين تعاملوا مع هؤلاء الطلاب في الدول الآسيوية كما في الدول الغربية، فعلى سبيل المثال، كثيرًا ما يشتكي ممتحنو المواد المختلفة في الامتحانات العامة الرئيسة بهونغ كونغ من إجابات نموذجية متكرّرة يقدّمها المرشحون، تصل أحيانًا إلى مئات الطلاب من المدرسة نفسها وهم يسجّلون الجواب الطويل ذاته، كما لاحظ محاضرون غربيون في الجامعات أنّ الطلاب يفضّلون التعلّم عن ظهر قلب ويُبدون عزوفًا عن مساءلة القراءات أو مناقشة ما يطرحه الأستاذ.
اعتبر (جون بيغز 1996) أنّ هذه الملاحظات ليست إلا انعكاسًا لما وصفه بـ "سوء الفهم الغربي لثقافة التعلّم الكونفوشيوسي" (ص 45)، مشيرًا إلى أنّها تتناقض مع الأدلة الميدانية التي قدّمتها الدراسات النوعية. وقد دلّت الدراسة المصوّرة التابعة لـ TIMSS، التي أجرت تحليلًا تفصيليًا لدروس الرياضيات لطلاب الصف الثامن في الولايات المتحدة وألمانيا واليابان، على أنّ التعليم في اليابان لم يُبنَ على التعلّم عن ظهر قلب كما قد يُتصوَّر، بل نُظّم وفق تسلسل تعليمي يبدأ بمراجعة موجزة للدرس السابق، ثم بتكليف الطلاب بحل مسائل ذات مستوى عالٍ من الصعوبة، يعالجونها على نحو فردي قبل الانتقال إلى التعاون في مجموعات صغيرة، لينتقلوا بعد ذلك إلى عرض الحلول ومناقشتها أمام الصف، بينما يقدّم المعلّم تلخيصًا ختاميًا يركّز على أهم النقاط. وقد عكست هذه الدروس غنى في المحتوى الرياضي وثراء في الأنشطة التي تستدعي التفكير النقدي والابتكار، على الرغم من اشتمالها أحيانًا على محاضرات قصيرة أو مهام استظهار. وأكّد (ستـيغلر وهيبرت 1999) أنّ هذا التنوّع في الأساليب غالبًا ما يتعايش داخل الدرس الواحد، في حين أبرزت دراسة أُجريت في شنغهاي وهونغ كونغ وجمهورية التشيك حول تدريس نظرية فيثاغورس أنّ المعلّم في شنغهاي قدّم أصعب التحديات وأسند إلى الطلاب مهمة صياغة فرضيات بالاستناد إلى الرسوم والحسابات، فضلًا عن الانخراط في بناء براهين رياضية متنوّعة للنظرية، وقد انعكس ذلك في مشاركتهم الفاعلة من خلال إعداد الرسوم وشرح تصوّراتهم (هوانغ وليونغ 2002، ص 276)، مع رصد ممارسات متقاربة في هونغ كونغ (فان آلست 2010).
أوضح (وونغ 2004) أنّ المتعلّمين الصينيين يميلون أولًا إلى حفظ المعلومات الجديدة ثم إلى فهمها وتطبيقها، وبعد ذلك فقط إلى نقدها وتعديلها. وأظهرت دراسات (لي 2009) حول تصوّرات الطلاب الجامعيين الأمريكيين والصينيين عن التعلّم أنّ المتعلّمين الصينيين يتميزون بجملة من السمات الإيجابية أهمها الالتزام بالتعلّم، والعطش إلى المعرفة، واحترام المعلّمين والمعرفة، والتواضع. وقد عرّفت هذه الدراسات غاية التعلّم بأنّها "السعي إلى التوسّع في المعرفة وتعميقها، وربطها بالتطبيقات العملية في الحياة، وتحقيق وحدة بين المعرفة والأخلاق الشخصية" (لي 2009، ص 61). ولم يُقصد بالاحترام أن يقبل الطلاب أقوال المعلّم قبولًا أعمى، بل أن يتعاملوا معه بصدق وتقدير، فيما يعني التواضع أنّ الطلاب بعد اكتسابهم المعرفة يحافظون على يقظة ضد الشعور بالرضا عن الذات ليستمروا في مسيرة تحسينها. وفي دراسة قارنت التفاعل بين الأقران في حصص العلوم لطلاب المرحلة المتوسطة في أستراليا وتايوان، وجد (والاس وتشو 2001) أنّ الطلاب التايوانيين عبّروا في المقابلات عن نظرهم إلى زملائهم باعتبارهم مصادر مساعدة للتعلّم، بينما بدا أنّ الطلاب الأستراليين "أكثر اهتمامًا بالعلاقات في ذاتها" (ص 704). كما لاحظ الباحثان أنّ الطلاب في الصفوف التايوانية عندما عملوا في مجموعات ظلّوا متمركزين حول المهمة التعليمية، ومالت أجسادهم نحو بعضهم لتكثيف التواصل البصري، وهو ما يعكس حالة من الانخراط المعرفي. وأخيرًا، أظهرت الدراسات المقارنة باستخدام استمارات (LPQ) و (SPQ) أنّ الطلاب الأستراليين أفادوا بأنّهم يستخدمون استراتيجيات التعلّم عن ظهر قلب أكثر من أقرانهم الآسيويين في هونغ كونغ وماليزيا ونيبال (كيمبر وغاو 1991؛ واتكنز وآخرون 1991).
دلّت النتائج المستخلصة على نقض التصوّرات الغربية المسبقة عن سلوكيات التعلّم لدى الطلاب الآسيويين، وهي التصوّرات التي مثّلت الركيزة الأولى للقياس المنطقي المطروح، وأثبتت أنّها لا تتوافق مع الوقائع التجريبية. غير أنّ الإشكال ما زال قائمًا فيما إذا كانت المعتقدات المستندة إلى الإرث الكونفوشيوسي ستبقى متماسكة في مواجهة الانفتاح المستمر على القيم الغربية. وقد خلص (تشان) و(راو) 2009 في إعادة نظرهم في فكرة "المتعلّم الآسيوي" إلى أنّ الوصف الأدق لا يتمثل في افتراض وجود هوية آسيوية ثابتة في التعلّم، بل في الحديث عن سياقات محددة تمنح القيم الكونفوشيوسية دورًا مركزيًا، مع الاعتراف بأنّ هذه السياقات نفسها آخذة في التغيّر استجابةً للضغوط والتطورات التي تفرضها العولمة.
أوضحت دراسات (لي 2009) أنّ السمات التي تشمل الالتزام العميق بالتعلّم والرغبة المتواصلة في طلب المعرفة تمثّل عوامل مؤثرة في تفسير النتائج الإيجابية التي يحققها المتعلّمون في شرق آسيا في المقارنات الدولية للتحصيل. ومع ذلك، يبقى واقع الحال أنّ المتعلّمين الآسيويين يمارسون الحفظ، الأمر الذي يقتضي تبنّي فهم ثقافي الحساسية للعلاقة بين الحفظ والفهم بغية معالجة المفارقة. ففي حين اعتمد التعليم الغربي في الماضي على التعلّم عن ظهر قلب، إلا أنّ المربين الغربيين في يومنا هذا يرفضون هذا النمط، غير أنّهم أخفقوا في التمييز بين التعلّم عن ظهر قلب، أي الحفظ "من غير تفكير أو فهم" كما يعرّفه قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية، وبين التعلّم التكراري الذي يقوم على الحفظ مع تعزيز التذكّر المستقبلي مقرونًا بالفهم. ومن المؤكد أنّ الحفظ من غير فهم يقود إلى نتائج تعلّم محدودة، غير أنّ كثيرًا من المعلمين الغربيين يفترضون خطأً أنّ الطلاب الصينيين عندما يحفظون فإنهم يمارسون التعلّم عن ظهر قلب على حساب الفهم. في الواقع، يُظهر الطلاب الصينيون أنّهم كثيرًا ما يلجؤون إلى التعلّم التكراري، فيجمعون بين التثبيت في الذاكرة وتعزيز الفهم. وقد كشفت المقابلات المعمّقة مع المعلمين والطلاب في هونغ كونغ والصين أنّ المعلمين والطلاب المتميزين لا يرون الحفظ والفهم عمليتين منفصلتين، بل عمليتين متكاملتين، وأنّ تحصيلًا عالي الجودة يستدعي بالضرورة تفاعل العمليتين معًا (مارتون وآخرون 1996؛ مارتون وآخرون 1997). وبهذا يقدَّم التفسير لما يُعرف بمفارقة المتعلّم الآسيوي: فالمتعلمون في الثقافات ذات الإرث الكونفوشيوسي يُرصدون وهم يكثرون من الحفظ، غير أنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّهم يمارسون التعلّم عن ظهر قلب كما افترض أساتذتهم الغربيون، بل على العكس، يُظهر كثير منهم أنّهم يطوّرون الفهم من خلال عملية الحفظ نفسها، وهو ما يفسّر تفوّقهم الأكاديمي.
أجرى (داهلين وواتكنز 2000) دراسة ميدانية للتحقّق من هذه الفرضية بصورة تجريبية، واعتمدا في ذلك على مقابلات معمّقة مع طلاب من المدارس الدولية والمدارس الثانوية العامة. وأظهرت نتائج الدراسة أنّ الطلاب في الصين استخدموا التكرار لغرضين مختلفين، بخلاف نظرائهم الغربيين. فمن جهة ارتبط التكرار لديهم بإحداث "انطباع عميق" يقود إلى الحفظ والاستظهار، ومن جهة أخرى استُخدم كوسيلة لتعميق الفهم وتطويره من خلال البحث عن معانٍ جديدة. أما الطلاب الغربيون فقد اقتصروا في الغالب على توظيف التكرار للتحقّق من أنّهم استذكروا المعلومة بالفعل. وجاءت هذه النتيجة متسقة مع فارق ثقافي آخر رصده (داهلين وواتكنز 2000)، إذ نظر الطلاب الغربيون إلى الفهم باعتباره عملية تحدث فجأة نتيجة لمحة إدراك، بينما اعتبره الطلاب الصينيون مسارًا ممتدًا يتطلّب جهدًا ذهنيًا متواصلًا وصبرًا طويل الأمد.
ركّز (واتكنز وبِغز 1996) في أبحاثهما السابقة على الطلاب الصينيين، لكنهما أدركا في الوقت نفسه أنّ المعلّمين الصينيين لا بد أن يكونوا قد أسهموا بفاعلية في تحقيق نتائج تعليمية تتفوّق كثيرًا على نظيراتها في المدارس الغربية. واتّضح سريعًا أنّ العلاقة بين المعلّم والطالب تمثّل ركيزة أساسية لفهم دور المعلّم في الفصول الصينية. ووفقًا للتقاليد الصينية، تناظر العلاقة بين المعلّم وطلابه علاقة الوالدين بأبنائهم. وهنا يقتصر بعض المراقبين الغربيين على رؤية جانب واحد من المشهد. ومن ذلك ما أشار إليه (غينسبرغ 1992، ص 6) بأنّ المحاضر في الصين يُنظر إليه باعتباره شخصية مرجعية، "شيخًا محترمًا ينقل المعرفة إلى تابع أصغر سنًا"، وهو توصيف يحمل قدرًا من الصواب. غير أنّ الطريقة المعتادة للتدريس لا تقوم ببساطة على نقل معرفة عليا، بل تعتمد بدرجة كبيرة على التفاعل داخل سياق اجتماعي يتسم بالقبول المتبادل.
عرضت (هو 2001) اختلافًا ثقافيًا مهمًا في التصورات المرتبطة بما يُعَدّ تدريسًا جيدًا. فقد استعانت بمسح ميداني لمقارنة آراء المعلّمين في المدارس الثانوية في أستراليا وهونغ كونغ، وأظهرت نتائجها أنّ المعلّمين الأستراليين نظروا إلى دورهم باعتباره محصورًا بالأساس في نطاق التعليم داخل قاعة الصف، في حين اعتبر المعلّمون في هونغ كونغ أنّ دورهم يمتد أيضًا إلى معالجة المشكلات الأسرية للطلاب وسلوكياتهم خارج أسوار المدرسة.
أكدت بحوث لاحقة التصوّر الشائع في الثقافة الصينية بأنّ المعلّمين لا بد أن يتحلّوا بخصال أخلاقية رفيعة، وأن يحرصوا في الوقت نفسه على تنمية البعد الأخلاقي لدى طلابهم (قاو وواتكنز 2001). وقد سعت تلك الدراسة بصورة أساسية إلى وضع نموذج للتصوّرات المرتبطة بالتدريس يناسب معلّمي الفيزياء في المدارس الثانوية بمقاطعة غوانغدونغ الصينية. وبعد سلسلة طويلة من المقابلات المتعمقة، والملاحظات الصفية، واستطلاع تجريبي كمي، توصّل (قاو وواتكنز) إلى بناء نموذج يضم خمسة تصوّرات أساسية هي: نقل المعرفة، والإعداد للامتحانات، وتنمية القدرات، وتعزيز الاتجاهات، وإرشاد السلوك. وقد جرى تجميع التصوّرين الأولين ضمن توجه أعلى سُمّي "التشكيل"، وهو يتقاطع إلى حد بعيد مع بُعد "النقل" الذي حدّدته دراسات غربية سابقة (مثل كيمبر وغاو 1994). أمّا التصوّرات الثلاثة الأخرى فتمّ دمجها ضمن توجه أعلى أطلق عليه "الرعاية" أو "التهذيب"، وهو لا يقتصر على تعزيز الفهم لدى الطلاب وتحقيق نتائج تعليمية أرقى كما في بُعد "التيسير" عند (كيمبر وغاو)، بل يتسع ليشمل أيضًا الأبعاد الوجدانية مثل غرس حب العلم، والجوانب الأخلاقية غير الأيديولوجية التي تبرز في تنمية إحساس الطالب بمسؤولياته تجاه أسرته ومجتمعه بأسره.
أظهرت نتائج دراسة (جين وكورتازي 1998) التي شملت طلابًا في المدارس الثانوية البريطانية والصينية، واعتمدت على كلٍّ من الاستبانة والملاحظة الصفّية، أنّ هناك اختلافًا بيّنًا في فهم مفهوم "المعلّم الجيد". فقد وصف الطلاب البريطانيون المعلّم الجيد بأنه من ينجح في إثارة اهتمام طلابه، ويشرح بوضوح، ويستعمل طرائق تعليمية ناجعة، ويخطّط لأنشطة متعددة ومتنوعة. وتُعدّ هذه السمات انعكاسًا مباشرًا لمضامين المقررات الغربية في إعداد المعلّمين. في المقابل، أكّد الطلاب الصينيون أنّ المعلّم الجيد هو من يتمتع بمعرفة معمّقة، ويستطيع الإجابة عن تساؤلات الطلاب، ويشكّل قدوة أخلاقية يُقتدى بها. أما فيما يخص علاقة المعلّم بالطلاب، فقد فضّل البريطانيون أن يكون المعلّم صبورًا ومتعاطفًا مع من يتعثرون في متابعة الدرس، في حين نظر الصينيون إلى العلاقة مع المعلّم المثالي باعتبارها علاقة ودية وحميمة تمتد إلى خارج نطاق الفصل الدراسي.
أبرزت الدراسات أنّ النظر إلى المعلّم الصيني على أنّه شخص ودود ودافئ يجد أساسه في مفهوم "رن" (仁) عند كونفوشيوس (جين وكورتازي 1998؛ قاو وواتكنز 2001)، وهو مفهوم يُشير إلى "الإنسانية المفعمة بالرحمة" أو "المحبّة". ويذهب (جين وكورتازي 1998) إلى أنّ التعليم في الصين القارية يستند في جوهره إلى المبادئ الكونفوشية، حتى وإن لم يدرِ المعلّمون والطلاب بذلك إدراكًا واعيًا. ومن بين هذه المبادئ أنّ المجتمع يمنح التعليم مكانة مرموقة، وأنّ التعلّم يقتضي التأمل والممارسة العملية، وأنّ الجدّ قادر على سدّ النقص في الاستعداد الطبيعي، وأنّ المعلّم يُجسّد القدوة في العلم والأخلاق، وأنّ التعلّم يُفهم على أنّه واجب أخلاقي والتزام تجاه الأسرة (انظر أيضًا لي 1996؛ لي 2001).
أظهرت دراسة أخرى في هذا المجال كيف يمكن الجمع بين الطرائق الكمية والكيفية لتوفير فهم أعمق لطبيعة تصوّر "المعلّم الجيد" في سياقات ثقافية مختلفة (واتكنز وتشانغ 2006). وقد شملت العينة 128 طالبًا، معظمهم من الطلاب الصينيين، إلا أنّ بعضهم كان يدرس في مدارس ثانوية صينية اعتيادية في هونغ كونغ، بينما التحق آخرون بمدارس ثانوية دولية أمريكية في هونغ كونغ. وفي الحالة الثانية كان معظم المعلّمين أمريكيين، وكان المنهاج أمريكيًا ولغة التدريس الإنجليزية. واستنادًا إلى منهجية بحثية طوّرها (بيشويزن وآخرون 2001)، طُلب من الطلاب في البداية كتابة مقالات قصيرة بعنوان "المعلّم الجيد". جرى تحليل هذه المقالات تحليلاً موضوعيًا لاستخراج البُنى المفاهيمية المستعملة فيها، ثم أُعيد ترميز كل مقال بدرجتي "0" أو "1" وفقًا لمدى تضمّنه لهذه البُنى. وبعد ذلك استُخدمت تقنية التحجيم المزدوج لتحديد الأبعاد الرئيسة لتصوّر المعلّم الجيد. وقد تبيّن بوضوح بُعدان أساسيان: الأول يتعلّق بسمات مثل الوفاء بالوعود، تحمّل المسؤولية، والتحلي بالصدق؛ والثاني يتعلّق بامتلاك معرفة معمّقة، وتنظيم مواقف تعليمية متنوعة، وإتاحة قدر من الحرية للطلاب. وبالانسجام مع نتائج دراسات سابقة، سجّل طلاب المدارس الدولية درجات أعلى بكثير في البُعد الثاني، وأدنى في البُعد الأول. ومن ثمّ يتضح أنّ مجرد التعرّض إلى سياق تعليمي غربي كان كافيًا ليجعل هؤلاء الطلاب الصينيين ينظرون إلى التدريس من زاوية أقرب إلى المنظور الغربي.
عرض هذا الفصل جملة من القضايا المنهجية المرتبطة بمقارنة التعلّم عبر الثقافات، وذلك من خلال استعراض جانب من أعمالنا وأعمال زملائنا في هذا المجال. وقد اتّضح أنّ معظم المؤلفات التي تناولت هذا الموضوع اعتمدت على مناهج ونظريات علم النفس. وقد بيّنا كيف أنّ انتقال علماء النفس التربوي من حدود المختبر إلى استخدام مناهج بحثية من الدرجة الثانية، تستند إلى منظور الطلاب والمعلّمين أنفسهم، قد أتاح لهم تحقيق تقدّم ملموس في فهم عمليات التعلّم في الصفوف الدراسية الغربية. غير أنّ معظم هذه البحوث ظلّ يتخذ من الطالب الفرد أو المعلّم الفرد وحدةً للتحليل، وهو ما يجعل هذه المناهج، شأنها شأن علم النفس بوجه عام، أقل ملاءمة لإجراء المقارنات عبر الثقافات.
نعتقد أنّ مشروعية مقارنات المتوسطات المستخلصة من الأدوات المصمّمة لقياس مختلف البنى النفسية المتصلة بالتعلّم يجب أن تكون محل تساؤل، بسبب ما يعتريها من مشاكل تتعلق بالمكافأة المترية وطبيعة العينات المستخدمة. ومع ذلك، فإنّ التحدي المتمثل في اختبار مدى مناسبة معظم النظريات والبرامج التدريبية في بيئات ثقافية مختلفة يمكن تجاوزه من خلال الاعتماد على مقارنة معاملات الارتباط بين الثقافات (انظر الجدول )، أو على مقارنة المتوسطات داخل كل ثقافة على حدة. وهذا النوع من التحليل يتطلب اختبارات أقل صرامة لسلامة المفاهيم، ويكتفي بالتحقق من ثبات الأداة البحثية وصدقها لدى المشاركين في كل ثقافة موضع الدراسة.
كما أوضحنا أنّ تبنّي نهج كيفي، أو الجمع بين الطرائق الكمية والكيفية، يتيح مجالًا أوسع لفهم معنى المفاهيم المحورية مثل التعلّم داخل الثقافات المختلفة وعبرها، وهو ما يتيح بدوره اختبار مدى صلاحية هذه المفاهيم على مستوى التماثل المفهومي. ومن وجهة نظرنا، فإنّ هذا النمط من البحث المعمّق يُعد شرطًا لا غنى عنه لضمان مقارنة صحيحة لعمليات التعلّم بين الثقافات. وقد يكون أيضًا السبيل الأكثر فاعلية لتأسيس برامج تدريبية تُصمَّم خصيصًا لتحسين جودة نواتج التعلّم في سياقات ثقافية متعددة.