2

البحث العلمي في ميدان التربية المقارنة

أوضح الفصل السابق أنّ ميدان التربية المقارنة يتّسم بطبيعته بالتداخل بين التخصصات، ويأتي هذا الفصل ليتوسّع في مناقشة هذه السمة، مستعرضًا علاقاته بسائر الميادين الأكاديمية.

ينطلق هذا الفصل من كتاب ألّفه (توني بيشر) عام 1989، ثم صدرت له طبعة ثانية عام 2001 بمشاركة (بول تراولر)، بعنوان "القبائل والأقاليم الأكاديمية: الاستقصاء الفكري وثقافة التخصصات". وقد قدّم الإصداران تحليلًا واضحًا لأبعاد الميدان الأكاديمي، بينما توسّعت الطبعة الثانية في هذا التحليل وأضافت إليه تحديثات تأخذ بعين الاعتبار تأثيرات قوية طرأت على حجم التعليم العالي وبنيته. ركّز الكتابان على المملكة المتحدة والولايات المتحدة، غير أن مضامينهما تظل وثيقة الصلة بسياقات أكاديمية أخرى في بلدان متعددة. ورغم أن الدراسات التربوية لم تحظَ سوى بإشارات عابرة، فإن أنماطها واتجاهاتها يمكن مقارنتها بسهولة بما ورد في مجالات أكاديمية أخرى. ويعتمد هذا الفصل اعتمادًا رئيسًا على الطبعة الثانية من الكتاب، إلى جانب عمل لاحق حرّره (تراولر) وآخرون عام 2012، كما يستند كذلك إلى عدد من الأعمال الأكاديمية الأخرى، لا سيما الإطار المفاهيمي الذي طرحه (أوليفيرا) عام 1988.

تعريف القبائل واستكشاف الأقاليم الأكاديمية

تناول (بيشر) و(تراولر) مفهوم "القبائل" في إشارة إلى المجتمعات الأكاديمية التي يتحدّد كيانها من جهة بأعضائها أنفسهم، ومن جهة أخرى بالمؤسسات التي يعملون فيها، والتي تُوزّعهم ضمن أقسام أو مراكز أو وحدات أكاديمية. أما "الأقاليم"، فهي تمثّل المجالات المعرفية التي تتركّز حولها اهتمامات هذه الجماعات، بما في ذلك مناهج البحث، وموضوعات الدراسة، وأساليب التعبير الأكاديمي وفق التوجّه السائد في كل تخصّص.

أشار العنوان الفرعي للكتاب إلى "ثقافة الميادين المعرفية"، وقد عرّفها (بيشر) و(تراولر) في طبعة عام 2001 (ص 23) بوصفها: "منظومات من القيم والمواقف وأنماط السلوك التي تُعدّ مسلَّمات، ويُعاد إنتاجها وتعزيزها من خلال الممارسات المتكرّرة ضمن سياق اجتماعي محدد". وركّز الكتاب في جوهره على "ممارسين في اثني عشر تخصّصًا، يعتمد عملهم على الاشتغال بأفكار قابلة للاستكشاف المتواصل، وتشكّل مضمون التخصصات المعنية".

برز سؤال حول تعريف الميادين المعرفية في هذا السياق، وقد أكّد عدد من الباحثين مثل (فيرلونغ) و(لون) (2011)، و(مانزون) (2011)، و(بريدجز) (2014)، أن تحديد مفهوم الميدان المعرفي الأكاديمي يكتنفه كثير من الغموض والتأويل. كما أشار (بيشر) و(تراولر) إلى النقطة ذاتها في الطبعة الثانية من كتابهما (2001، ص 41)، وقالا:

تتردد تساؤلات في بعض السياقات حول ما إذا كانت الإحصاء قد انفصلت انفصالًا كافيًا عن الرياضيات لتُعدّ تخصصًا معرفيًا مستقلًا. ويتوقف الجواب على مدى اعتراف المؤسسات الأكاديمية الكبرى بهذا الانفصال من خلال هيكلها التنظيمي، من حيث إدراج الإحصاء ضمن أقسام مستقلة، إضافة إلى مدى بروز مجتمع علمي دولي مستقل يتمتع بجمعيات مهنية ومجلات متخصصة.

ذكر (بيشر) و(تراولر) في الصفحة 41 أن كل من له علاقة أو اهتمام بالشؤون الأكاديمية يتمكن بسهولة من إدراك مفهوم التخصص، والمشاركة بثقة في النقاشات التي تدور حول الحالات الملتبسة أو الواقعة على الحدود بين التخصصات.

ضمن هذه المعايير، تتمتع مجموعات الميادين المعرفية المختلفة بسمات مختلفة. يعرض الجدول تصنيفًا رباعي الفئات، قائمًا على مصفوفة تجمع بين الثنائي: جامد/مرن، وبحت/تطبيقي. ورغم أن الحدود بين الفئات ليست صارمة، فإن التصنيف يبقى ذا فائدة. يدرج الجدول تخصص التعليم ضمن الفئة التطبيقية المرنة، ويصفه بأنه وظيفي، نفعي، و"يهتم بدعم ممارسة [شبه] مهنية". وهذا على النقيض من التخصصات البحتة الجامدة، مثل العلوم، التي توصف بأنها تراكمية، تحليلية، وتركّز على المبادئ العامة، والقياس، والتبسيط.

الجدول 2.1: مجموعات الميادين المعرفية وطبيعة المعرفة

الجدول 2.1: مجموعات الميادين المعرفية وطبيعة المعرفة

مجموعات الميادين المعرفية

طبيعة المعرفة

العلوم البحتة (مثل الفيزياء): "جامدة بحتة"

تراكمية؛ جزئية (شبيهة بالبلّورات أو الأشجار)؛ تهتم بالعموميات، والقياس، والتبسيط؛ موضوعية، ومحايدة قيميًا؛ معايير واضحة للتحقق من المعرفة وتقادمها؛ معايير واضحة للتحقّق من المعرفة واستبعاد ما يُصبح متجاوزًا؛ إجماع حول الأسئلة الجوهرية المطروحة حاليًا ومستقبلًا؛ تؤدي إلى الاكتشاف أو التفسير.

العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية (مثل التاريخ والأنثروبولوجيا): "البحتة المرنة"

تكرارية؛ شمولية (عضوية أو متدفقة كالنهر)؛ تهتم بالجزئيات، والكيفيات، والتعقيد؛ ذات طابع شخصي ومحملة بالقيم؛ جدل حول ما يُعد متجاوزًا؛ غياب التوافق حول الأسئلة الجوهرية؛ تؤدي إلى الفهم والتقدير.

العلوم الدقيقة التطبيقية (مثل الهندسة الميكانيكية والطب السريري): "تطبيقية إلى درجة كبيرة"

غائية؛ عملية (اكتساب المعرفة التطبيقية من خلال المعرفة الدقيقة)؛ تركّز على السيطرة على البيئة المادية؛ تستخدم أساليب استكشافية؛ تجمع بين المعالجات الكمية والنوعية؛ معايير الحكم وظيفية وغائية؛ تؤدي إلى إنتاج أدوات أو تقنيات.

العلوم الاجتماعية التطبيقية (مثل التربية، القانون، الإدارة الاجتماعية): "تطبيقية مرنة"

وظيفية؛ نفعية (اكتساب المعرفة التطبيقية من خلال المعرفة المرنة)؛ تهدف إلى تحسين الممارسة المهنية أو شبه المهنية؛ تعتمد على دراسات الحالة والأحكام القانونية على نطاق واسع؛ تؤدي إلى بروتوكولات وإجراءات.

المصدر: (بيشر وتراولر، 2001، ص 36)

المصدر: (بيشر وتراولر، 2001، ص 36)

ميّز (بيشر وتراولر) أيضًا بين محاور التركيز في الميادين المعرفية من خلال تقديم تشبيه بين نمطي الحياة الحضرية والريفية (ص 106):

قد يُقارن الباحثون الميادين التي يتركّز فيها عدد كبير من الأكاديميين حول مشكلات محددة بالمجتمعات الحضرية، بينما تُشبه التخصصات التي يعمل فيها عدد أقل من الأكاديميين على قضايا متفرقة بالمناطق الريفية. ففي الحالة الأولى، تسود كثافة بشرية عالية، وحركة بحثية نشطة قد تبلغ حد الاندفاع أحيانًا، إلى جانب تفاعل جماعي مكثف، وتنافس حاد على الموارد والمساحات العلمية، وانتشار سريع للمعلومات عبر شبكات تبادل معرفية نشطة. أما الحالة الثانية، ورغم ما قد تتخللها من لحظات تنافس وتفاعلات جماعية وانتشار سريع للإشاعات، فإنها تتسم عمومًا بسمات معاكسة، مثل وتيرة أبطأ، وبيئة أقل ازدحامًا، ومساحة أكبر للخصوصية الأكاديمية.

تتباين الميادين الحضرية والريفية في هذا التصنيف ليس فقط من حيث أنماط التواصل، بل أيضًا في طبيعة المشكلات التي ينشغل بها الباحثون، وحجمها، ونوعية العلاقات التي تربطهم، والفرص المتاحة لهم للحصول على الموارد. يركّز الباحثون في الميادين الحضرية عادة على مجالات ضيقة تتضمن مشكلات محددة وواضحة المعالم، بينما يتناول نظراؤهم في الميادين الريفية مجالات معرفية أوسع نطاقًا، تتداخل فيها القضايا ولا تنفصل بوضوح. وقد يبلغ التنافس في السياق الحضري حد الشراسة، إذ يتحوّل إلى سباق محموم لحل مشكلة تُعدّ محورية. أما في السياق الريفي، فيبدو مبدأ تقسيم العمل أكثر منطقية نظرًا لتعدد الموضوعات وتنوّعها، مما يجعل الانخراط في قضية يعكف عليها باحث آخر أمرًا غير مجدٍ. وتُعدّ فرق العمل أكثر شيوعًا في الميادين الحضرية مقارنة بالريفية، كما تتسم المنشورات في التخصصات الحضرية بقصرها، وتعدد مؤلفيها، وسرعة صدورها، في حين ينتظر الباحثون في التخصصات الريفية أكثر من عام، وأحيانًا لفترات أطول بكثير، لنشر مقالاتهم. وتبقى الكتب أكثر أهمية في الميادين الريفية مقارنة بنظيرتها الحضرية.

شهدت العقود الماضية تحولات وصفها (بيشر وتراولر 2001، ص 13) بأنها "تغيّرات جيومورفولوجية كبرى"، رغم أن كثيرًا من السمات التي سبق ذكرها ما زالت قائمة. واستمر هذا التحوّل بوتيرة متسارعة في القرن الحالي، إلى درجة دفعت (تراولر وآخرون 2012ب، ص 257) إلى الاتفاق جزئيًا مع (ماناثونغا وبرو 2012) في أن استعارة "القبائل والأقاليم" قد لم تَعُد الأكثر ملاءمة، واقترحا استبدالها بتصوّر أقرب إلى المحيطات، بما تنطوي عليه من مد وجزر، حيث "تتدفّق المساحات في بعضها بعضًا وتندمج لتشكّل أنماطًا معرفية متغيّرة تظهر مع تغيّر المشكلات والحاجات" (ماناثونغا وبرو 2012، ص 51). ورغم تعدد الاستعارات، فإن أغلب التحليلات تتفق على أن أبرز ملامح التغيير تشمل تصاعد تدخل الدولة، وتزايد الضغوط المرتبطة بقياس الأداء، وازدياد حاجة الأكاديميين إلى "ملاحقة التمويل". وقد غيّرت مطالب الجهات المموِّلة طبيعة النتائج التي ينتجها الأكاديميون، وأسهمت أدوات مثل "تمارين تقويم البحوث" والمبادرات المشابهة في تعزيز آليات المساءلة، مما ضاعف من مشاعر القلق داخل الأوساط الأكاديمية. وشملت هذه التغيّرات ميدان التعليم، بما فيه بحوث التربية المقارنة، شأنه شأن سائر المجالات الأخرى.

موقع التربية والتربية المقارنة ضمن البنى المعرفية لمجالات البحث الأخرى

يشير الجدول بوضوح إلى أن التربية تشكل ميدانًا معرفيًا معيّن، غير أن هذا الانتماء التخصصي لم يكن محل اتفاق دائم. يُنظَر إلى ميدان التربية على أنه يتضمّن أقسامًا أكاديمية، وبرامج دراسية، ومجلات متخصصة، غير أن مضمونه الفكري يستند في الغالب إلى معارف مستمدّة من تخصصات أخرى، ونادرًا ما يُظهِر خصائص فكرية مميّزة تقتصر على دراسة التربية (فرلونغ ولون 2011).

يصعب الجزم بأن ميدان التربية بأكمله يُعدّ ميدانًا معرفيًا مستقلًا، ويزداد هذا التحدّي حين يتعلّق الأمر بالتربية المقارنة. صحيح أن بعض الباحثين وصفوا التربية المقارنة بأنها ميدان معرفي مستقل (مثل يونغمان 1992؛ هيغينسون 2001؛ وولهاتر وبوبوف 2007)، غير أن الغالبية ترى فيها ميدانًا يستقطب باحثين مزوّدين بأدوات ومنظورات منهجية تنتمي إلى ميادين معرفية أخرى، ويختارون توظيفها في معالجة القضايا التربوية ضمن سياق مقارن (مانزون 2011). وقد عبّر (لي تان خوي 1986، ص 15) عن هذا التوجه حين وصف التربية المقارنة بأنها "ميدان دراسي يشمل جميع التخصصات التي تُسهم في فهم التربية وتفسيرها".

تناول (أوليفيرا) هذا الموضوع بمزيد من التفصيل في عملين متكاملين. ويستند العرض التالي أساسًا إلى دراسته التأسيسية الصادرة عام 1988، التي وسّع أفكارها لاحقًا بعد عقدين من الزمن في عمل علمي نُشر بالإسبانية (أوليفيرا 2009). وقد أشار أولًا (1988، ص 174) إلى أن معظم المعارف التي تنتمي إلى المستوى العلمي حول التربية تتكوّن من:

تتكوّن هذه المعارف من مجموعة غير متجانسة من المساهمات المستمدة من الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة المرتبطة بالتربية. ويأتي أغلب مؤلفي هذه الدراسات من خارج النظام التربوي، ما يجعلهم يُدخلون بطبيعة الحال تحيّزات تخصصاتهم في تحليلاتهم. يهتم الاقتصادي بمدى الكفاءات الفعلية التي تنتجها التربية، ويسعى إلى تقدير تكاليف اكتسابها؛ ويركّز عالم الاجتماع على ما إذا كانت التربية تُهيّئ الأفراد للتكيّف مع بيئتهم الاجتماعية أو لتحفيز التغيير والثورة؛ أما الفيلسوف، ومن منظور أشمل، فيتأمّل في المعنى العام للتربية وأهدافها، ويتساءل عمّا ينبغي أن تكون عليه هذه الأهداف في عالم اليوم.

يؤكّد (أوليفيرا) أن جميع هذه المساهمات المنبثقة من "علوم التربية" المتعدّدة تُعدّ قيّمة ولا غنى عنها، لكنه يرى أنها تبقى على هامش السمات المحدّدة لعمليات النمو والتطوّر اليومية، وللعلاقات التفاعلية بين المربّين والمتعلّمين، وللإطار المؤسسي الذي ينظّم هذه العلاقة. ويرى أن ميدان التربية يمتلك كيانًا معرفيًا فريدًا يستحقّ تسمية تُعبّر عنه بوضوح، حيث إن تلك التسميات الشائعة لا تلبّي هذا الغرض. فمصطلح "بيداغوجيا" مضلّل لأنه يشير إلى فعل لا إلى معرفة، ويتمثّل هذا الفعل في "قيادة" الأطفال أولًا نحو المعلم، ثم نحو التعلّم نفسه. كما يرفض (أوليفيرا) تسميات أخرى مثل "أُصول التعليم"، و"علوم التربية" بصيغة الجمع، و"علم التربية" بصيغة المفرد، ويصرّح في (ص 176) بأن الاكتفاء بلفظ "تربية" يُعدّ عبثًا دلاليًا، فالتربية نشاط لا معرفة، تمامًا كما أن المجتمع ليس هو علم الاجتماع، واللغة ليست هي علم اللسانيات، والحيوانات ليست هي علم الحيوان.

سعى (أوليفيرا) إلى تجاوز هذا الإشكال بالرجوع إلى ما طرحه كل من (كريستنسن) عام 1984 و(ستاينر ماتشيا) عام 1964، مؤكدًا أنه لا توجد تسمية أنسب من "علم التربية" (educology)، إذ يرى أن هذا المصطلح يعبّر بدقة عن كل ما يندرج ضمن المعرفة التربوية – دون سواها – سواء كانت علمية أو تطبيقية، ومهما اختلفت التخصّصات التي جاءت منها. وأشار إلى أن الكلمة قد تبدو في البداية غريبة أو متكلفة، تمامًا كما بدا مصطلح "علم الاجتماع" (sociology) عند ظهوره، وهو الآخر تركيب لغوي هجين من اليونانية واللاتينية، غير أنه يعتقد أن المصطلح الجديد يضفي من الوضوح والدقة على المعرفة التربوية ما يجعله جديرًا بالاعتماد والانتشار.

أقرّ (أوليفيرا) بأن جوهر القضية لا يكمن في التسمية بقدر ما يتمثل في البنية النظرية التي تنظّم محتوى علم التربية، أي المجال الكامل للمعرفة التربوية الذي يُفترض أن تحتل فيه كل دراسة جديدة موقعها، وأن تُفحَص فيه مدى مواءمتها مع ما سبقها من معارف. واقترح وضع هذا التصوّر بمساعدة رسم تخطيطي يُميّز بين "العلوم الإنسانية" من جهة و"علوم التربية" من جهة أخرى، واضعًا علم التربية في موقع وسيط بينهما، على أن ترتبط هذه المكونات الثلاثة بواقعها الموضوعي كما هو موضح في الشكل .

ينطلق هذا الفصل من التساؤل حول موقع التربية المقارنة داخل مخطط أوليفيرا، لا سيما وأنها غابت عنه بشكل لافت في الشكل . وللإجابة عن هذا التساؤل، أشار أوليفيرا (ص 179) إلى أن المقارنة بين الأشياء — بما تتطلبه من إقامة علاقات عقلية بينها — تُعد منطلقًا أساسيًا في تكوين المفاهيم والأفكار على مستوى المعرفة العامة أو ما قبل العلمية. أما في المستوى العلمي، فتعتمد العملية ذاتها لكن بصيغة منهجية منضبطة تُستخدم في بناء التعريفات، وقياس الظواهر، وصياغة النماذج. ومن هذا المنطلق، رأى أوليفيرا أن كل عنصر في الشكل يستند في أساسه إلى المقارنة، بل إن الفوارق بين العلوم ذاتها تنشأ من عمليات مقارنة — سواء في موضوعاتها، أو زوايا النظر إليها، أو مناهج دراستها.

تابع (أوليفيرا) (ص 180) تأمله في المسألة مؤكدًا أن مجرّد استخدام المقارنة لا يبرّر وصف أي علم بأنه "مقارن"، ما لم ترتقِ هذه المقارنة إلى مستوى أرفع من التجريد، فتُمارس بوصفها مقارنة بين مقارنات. ولهذا لا يصح إطلاق هذه الصفة في العلوم الاجتماعية مثلًا، إلا عندما تُوجَّه المقارنة نحو منظومات من التصوّرات النظرية التي تتناول ظواهر متشابهة تنتمي إلى جماعات اجتماعية مستقلة. وفي العديد من ميادين المقارنة، ومن بينها التربية المقارنة، غالبًا ما تتخذ هذه الجماعة شكل دولة أو أمّة، وبحكم كونها وحدة منفصلة، يمكن التعامل معها بوصفها نظامًا مستقلًا. ونظرًا إلى أن كل واحدة من هذه المنظومات النظرية قد نتجت هي الأخرى جزئيًا من مقارنة سابقة، فإن البحث المقارن يُجسّد، في جوهره، استخدامًا مركّبًا للطريقة المقارنة، أو ما يمكن وصفه بالدرجة الثانية من المقارنة.

ويُفسّر هذا الأمر غياب التربية المقارنة عن الشكل ، إذ إن إدراجها كان سيتطلب إضافة بُعد ثالث إلى الرسم التخطيطي، باعتبارها تمثّل مستوىً معرفيًا متقدّمًا من حيث البناء المعرفي. وقد عبّر (أوليفيرا) (ص 181) عن هذه النقطة على النحو التالي:

تعتمد التربية المقارنة في سعيها إلى إدراك الحقيقة على نطاق يشمل جميع الموضوعات الجزئية التي تعالجها التخصّصات الوسطى في الشكل، إلا أنها لا تتناول أياً منها مباشرة، لأنها لا تُعنى بدراسة حالة تعليمية منفردة، بل تركز على حالتين أو أكثر في آنٍ واحد. وحتى تتمكن من التعامل مع هذه الوقائع المتعددة، لا بد أن تكون كل حالة قد صيغت بصورة تجعلها قابلة للمقارنة عبر مستوى أولي من التجريد.

تنطلق التربية المقارنة من مجموعة من النماذج المجردة، وتستخدم أدواتها النظرية والمنهجية لتُنتج معارف تحليلية على مستوى أعلى، فتصل إلى استنتاجاتها الخاصة. وقد تتخذ هذه الاستنتاجات أشكالًا متعددة، مثل قوانين عامة، أو قواعد تفسيرية تقريبية، أو نظريات مؤقتة، أو تأكيدات أو نقوض لنظريات سابقة، أو فرضيات جديدة تمهّد لأبحاث لاحقة. وتتميّز هذه النتائج (ص 181) بكونها ذات طابع مقارن صرف، قابلة للتطبيق على النظم التعليمية المدروسة، فضلًا عن دورها في إعادة بناء المعرفة داخل الميادين المعرفية المرتبطة، عبر تزويدها بمعطيات أعمق وأكثر تركيبًا.

الشكل 2.1: تصنيف (أوليفيرا) المنهجي للميادين المعرفية المتعلقة بالتربية

embedded image

المصدر: (أوليفيرا، 1988)، ص 178

المنهجية والتركيز في التربية المقارنة

شهد ميدان التربية المقارنة تأثيرًا بالغًا من جانب العلوم الاجتماعية، إذ أدّت التحوّلات التي طرأت على الأنماط الفكرية السائدة فيها إلى تغيّرات ملموسة في مسار هذا الميدان. ومن أبرز تلك التحولات: صعود النزعة الوضعية خلال الستينيات والسبعينيات، لا سيما في أوروبا وأمريكا الشمالية، ثم انتشار ما بعد الحداثة في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وصولًا إلى هيمنة العولمة بوصفها عدسة تحليلية منذ مطلع الألفية الجديدة (إبشتاين 1994؛ بولستون 2000؛ كوين وكازامياس 2009 أ؛ ديفيز 2009؛ لارسن 2010). ورغم هذا الارتباط، لم تتوسّع التربية المقارنة في توظيف أدوات العلوم الاجتماعية، واقتصر استخدامها غالبًا على مجموعة محدودة منها؛ ويعود ذلك جزئيًا إلى طبيعة هذا المجال ذاته، الذي يقوم في جوهره على مقارنة من الدرجة الثانية، إذ يعتمد على وحدات سبق تحليلها عبر مقارنات سابقة. ولهذا، تهيمن على الكتب والمقالات المنشورة في التربية المقارنة قراءات تحليلية للأدبيات، وتكاد تخلو من الدراسات الاستقصائية، وتكاد تغيب المقاربات التجريبية تمامًا.

سعى (فوسـتر) وزملاؤه (2012) إلى تحليل هذا النمط من خلال دراسة المقالات المنشورة بين عامي 2004 و2008 في أربع مجلات بارزة تصدر باللغة الإنجليزية؛ إحداها أمريكية، وهي مجلة مراجعات التربية المقارنة (Comparative Education Review)، والثلاث الأخرى بريطانية: مجلة التربية المقارنة (Comparative Education)، ومجلة المقارنة: دورية في التربية المقارنة (Compare: A Journal of Comparative Education)، والمجلة الدولية للتنمية التربوية (International Journal of Educational Development). وقد أظهر التحليل (ص 712) أن المقالات تناولت "التعليم في سياقه الاجتماعي بنسبة تفوق بنحو الثلث عدد المقالات التي تناولت الإدارة والحَوكمة التعليمية، وأكثر من ضعفي المقالات التي تناولت التدريس والتعلّم المباشر". وركّز 41% من المقالات على السياسات التعليمية وتخطيط التعليم، و24% على نظريات التعليم، و21% على القيم والاتجاهات، و20% على العولمة. أما موضوعات مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصال، والقيادة التعليمية، والامتحانات، والكتب الدراسية، فلم تتجاوز كلٌّ منها نسبة 2%. ومن الناحية الجغرافية، ركّزت 24% من المقالات على إفريقيا، و23% على آسيا، و17% على أوروبا، بينما تناولت 21% أكثر من منطقة واحدة.

أجرى (فوسـتر) وزملاؤه (2012، ص 728) تحليلًا لطرائق البحث المستخدمة، فوجدوا أن أكثر من نصف المقالات (53%) اعتمدت على مراجعة الوثائق والتحليل التاريخي، في حين استخدمت 35% منها الاستبيانات والتحليل الكمي، و27% المقابلات ومجموعات النقاش. أما الأساليب التجريبية أو شبه التجريبية فلم تُستخدم إلا في 1% فقط من المقالات، وهي النسبة ذاتها التي ظهرت بها دراسات التتبّع أو الدراسات الطولية.

اعتمدت هذه الدراسة المسحية على دراسة سابقة أعدّها (راست) وزملاؤه عام 1999، شملت فترة زمنية أطول من 1957 إلى 1995، وركّزت على ثلاث مجلات رائدة: مراجعة التربية المقارنة (Comparative Education Review)، والتربية المقارنة (Comparative Education)، والمجلة الدولية للتنمية التربوية (International Journal of Educational Development). وقد بيّنت نتائج الدراسة أنه في ستينيات القرن العشرين، استندت 48% من المقالات إلى مراجعة الأدبيات بصورة أساسية، وبلغت نسبة الدراسات التاريخية 15%. أما في ثمانينيات وتسعينيات القرن نفسه، فقد انخفضت النسبتان إلى 26% و5% على التوالي. في المقابل، ارتفعت معدلات مراجعة المشاريع، والملاحظة بالمشاركة، والبحوث المستندة إلى المقابلات والاستبيانات، مما يشير إلى توسّع استخدام أدوات البحث المعتمدة في العلوم الاجتماعية داخل هذا الميدان.

تباينت الموضوعات السائدة والمناهج المتبعة تباينًا كبيرًا بين مختلف أنحاء العالم وفي فترات زمنية متباينة. وأوضح (ماكغراث، 2012، ص 709) في افتتاحيته التي تناول فيها دراسة (فوستر وآخرون، 2012) أن التحليل اقتصر على مجلات ناطقة بالإنجليزية تصدر في بلدين يتمتعان بثقافتين بحثيتين متقاربتين، وهما ثقافتان لا يُشترط بالضرورة وجود نظير لهما في أماكن أخرى. ولفت (كاوين وكازامياس، 2009ب، ص 4) النظر إلى وجود أنماط متعددة من التربية المقارنة، مشيرين إلى أن هذا التعدد يظهر داخل الدولة الواحدة من خلال جماعات أكاديمية تختلف مناهجها ومجالات بحثها، وقد لا يكون بينها تواصل. وينطبق الأمر نفسه على جماعات تنتمي إلى دول مختلفة تستخدم لغات متباينة وتتبع تقاليد معرفية متميزة، وقد لا يجمعها تواصل مع نظيراتها من بلدان ومجتمعات لغوية أخرى.

يبدأ التحليل بالجماعة الأولى من هاتين الفئتين، ويجدر التوقّف عند الخرائط التي وضعها (بولستون، 1997؛ 2000) لمجال التربية المقارنة، إضافةً إلى ما قدّمه (ويدمان وجاكوب، 2011). ويُعيد الشكل إنتاج إحدى تلك الخرائط، موضّحًا التيارات والنظريات في التربية الدولية والمقارنة. وتُظهر هذه الخريطة بعض التقاطعات بين توجهات الإنسانيين والوظيفيين، لكنها تبيّن في الوقت نفسه أن لكلٍّ منهم مجالات يتحرك فيها باستقلال تام. ويمكن قول الشيء ذاته عند مراجعة قوائم المراجع؛ إذ إن كثيرًا من الباحثين في هذا الميدان يتجاهلون زملاءهم ممّن ينطلقون من مناهج مختلفة، ويواصلون مع ذلك نشر أعمالهم، إما لأن المجلات التي ينشرون فيها تتّسم بالتنوع، أو لأنها موجّهة إلى جماهير مختلفة. وكان (إبستين، 1992، ص 23) من بين من أشاروا إلى أن بعض التوجّهات المعرفية المتعارضة في ميدان التربية المقارنة غير قابلة للانسجام من حيث المبدأ.

الشكل 2.2: خريطة شاملة للنماذج الإرشادية والنظريات في ميدان التربية المقارنة والدولية

embedded image

المصدر: بولستون (1997)، ص 142.

قد تظهر فروقات إضافية بين الباحثين المقيمين في بلدان مختلفة ويكتبون بلغات متباينة، إلى جانب الفروقات القائمة بين باحثين ينتمون إلى البلد نفسه ويكتبون باللغة ذاتها، ولكنهم يعملون ضمن مناهج متباينة ولا يتواصلون فيما بينهم. ويتسع هذا التباين ليشمل الباحثين المقيمين في دول مختلفة ويكتبون بلغات متعددة؛ فقد يعتمد بعضهم نماذج إرشادية متقاربة رغم اختلاف اللغة، غير أن احتمال التباعد المنهجي يرتفع كلما غابت اللغة المشتركة كوسيط معرفي. وفي هذا السياق، تتيح مقارنة أعمال كل من (هارولد نواه) و(ماكس إكشتاين) — منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي — بأعمال (قو مينغيوان) فهمًا أوضح لهذا التباين. وقد نشر مركز أبحاث التربية المقارنة في جامعة هونغ كونغ مختارات من مؤلفاتهم، ما أتاح إمكانية مقارنتها بشكل مباشر (نواه وإكشتاين 1998؛ قو 2001). ركّز (نواه) و(إكشتاين)، المقيمان في الولايات المتحدة وكتبا ضمن الفضاء الناطق بالإنجليزية، على القضايا المنهجية ضمن الإطار الوضعي، بما يتماشى مع اهتمامات العالم الأول. أما (قو)، فكان يعمل في بيئات علمية ناطقة بالروسية والصينية، وكتب في بداياته ضمن إطار ماركسي لينيني، واهتم خصوصًا باستخلاص الدروس التي يمكن أن تستفيد منها الصين من تجارب الدول الصناعية. وخلال السبعينيات والثمانينيات، اختلف السياق المعرفي الذي انطلق منه (قو) جذريًا عن البيئة البحثية التي كان يعمل فيها كلٌّ من (نواه) و(إكشتاين).

لطالما طُرح تساؤلٌ جوهريّ بشأن مدى انطباق صفة "المقارنة" على معظم ما يُكتب في ميدان التربية المقارنة، ما يجعل الأسس التي يقوم عليها هذا الميدان محلّ تشكيك. وقد أشار عدد من الباحثين، منهم (كامنغز 1999) و(ليتل 2000) و(وولهوتر 2008)، إلى أن كثيرًا من المقالات المنشورة في مجلات تحمل في عناوينها لفظ "مقارنة" تقتصر في الواقع على دراسة دولة واحدة ولا تتضمن مقارنة واضحة أو منهجية، مثل مجلة التربية المقارنة (Comparative Education) ومجلة مراجعات التربية المقارنة (Comparative Education Review). وتبدو مظاهر هذا التراخي المفاهيمي أكثر وضوحًا في المؤتمرات المتخصصة، حيث تقلّ فيها عادة معايير التدقيق الصارم المعتمدة في المجلات المحكمة. وقد أشار (أوليفيرا 1988، ص 166–167) إلى هذا الوضع تحديدًا:

قُدّمت أكثر من 350 ورقة بحثية في آخر مؤتمرين عالميين لجمعيات التربية المقارنة، الأول في باريس عام 1984 والثاني في ريو دي جانيرو عام 1987، وتكشف قائمة هذه الأوراق عن معطيات بالغة الدلالة؛ إذ لم تتجاوز الدراسات المقارنة الحقيقية نسبة 19% في باريس و26% في ريو، حيث تناولت هذه الدراسات إما مشكلات تربوية عالمية أو قضايا محددة تمت دراستها في بلدين أو أكثر. بينما ركّزت نسبة تتراوح بين 13 و17% من الأوراق على قضايا نظرية، أو على مسائل تتعلق بنظرية المعرفة أو المنهجية. وفي المقابل، شكّلت الدراسات التي اقتصرت على تحليل نظام تعليمي أو مسار تاريخي أو ابتكار أو حالة وطنية خاصة ما يقارب نصف الأوراق، إذ بلغت 45% في مؤتمر ريو، وقد اكتفت هذه الدراسات بوصف الواقع وتحليله دون محاولة المقارنة أو استنباط نتائج أو طرح فرضيات قابلة للاستخدام في سياقات أخرى. كما تناولت نسبة تُقدّر بـ7% من الأوراق قضايا تربوية أو قدمت عرضًا عامًا لابتكارات دون أن تستند إلى سياقات واقعية ملموسة.

يرجع جانب من هذا التراخي في المفاهيم إلى الارتباط القائم بين ميدان التربية المقارنة وميدان التربية الدولية، وهما المجالان اللذان وصفهما (ويلسون) في عام 1994 بأنهما توأمان ملتصقان. وتختلف دلالة مصطلح "التربية الدولية" باختلاف المستخدمين؛ إذ يرى بعضهم أنها عملية إعداد الأفراد ليكونوا ذوي توجه دولي، كما أوضح ذلك (جيلار) عام 2002، بينما استخدم آخرون المصطلح للإشارة إلى "أنواع العلاقات التعليمية والثقافية المختلفة بين الدول"، كما جاء في تعريف (سكانلون) و(شيلدز) سنة 1968، ص X. وقد ميّز (راست) عام 2002 بين الميدانين بقوله إن التربية المقارنة تغطي الجوانب الأكاديمية والتحليلية والعلمية، في حين ترتبط التربية الدولية بأبعاد التعاون والتفاهم والتبادل. وتجدر الإشارة إلى أن الجمعية الأمريكية للتربية المقارنة، التي أُنشئت سنة 1956، غيّرت اسمها في عام 1968 إلى جمعية التربية المقارنة والدولية، رغم احتفاظ مجلتها الرسمية بعنوانها الأصلي: مراجعات التربية المقارنة (Comparative Education Review). وتشمل الجمعيات المهنية الأخرى التي تجمع بين المجالين معًا: الجمعية الكندية للتربية المقارنة والدولية (CIESC)، والجمعية البريطانية للتربية الدولية والمقارنة (BAICE)، والجمعية الأسترالية والنيوزيلندية للتربية المقارنة والدولية (ANZCIES).

تعكس هذه التسميات المتداخلة طبيعة الغموض الذي يكتنف ميدان التربية المقارنة، إذ يواجه محررو مجلة مراجعة التربية المقارنة (Comparative Education Review) صعوبة في رفض المقالات التي تُصنَّف ضمن التربية الدولية دون المقارنة، ما دامت التربية الدولية جزءًا من اسم الجمعية، حتى وإن لم ينعكس هذا في عنوان المجلة. وقد كان الوضع مماثلًا لفترة طويلة في مجلة مجلة التربية المقارنة (Compare: A Journal of Comparative Education) التابعة للجمعية البريطانية، قبل أن يُعالج هذا الإشكال عام 2009 بإضافة العنوان الفرعي مجلة التربية المقارنة والدولية (A Journal of Comparative and International Education) (براي 2010). أما مجلة الجمعية الكندية، فتحمل عنوان مجلة التربية الكندية والدولية (Canadian and International Education) من دون أي إشارة للمقارنة. في حين تتبنّى المجلة الصادرة عن الجمعية الأسترالية والنيوزيلندية عنوانًا يجمع بين المفهومين: مجلة التربية الدولية: رؤى مقارنة (International Education Journal: Comparative Perspectives).

إن المجلس العالمي لجمعيات التربية المقارنة (WCCES) لا يتضمّن في تسميته صفة "الدولية"، ما يساعد في تجنّبه الالتباسات الدلالية التي تواجه الجمعيات الوطنية الأربع المذكورة آنفًا. ومع ذلك، فإن هذه الجمعيات الأربع تشكّل جزءًا من 39 جمعية عضوة في المجلس، ما يجعله عرضة بدوره لتأثير تلك الالتباسات، خاصة وأن الجمعية الأمريكية للتربية المقارنة والدولية (CIES) كانت دومًا الأكثر عددًا ونشاطًا بين جمعيات المجلس (ماسيمان وآخرون، 2007). ولهذا السبب، تُستخدم تعريفات عامة وغير محددة عند تنظيم المؤتمرات العالمية لجمعيات التربية المقارنة باسم المجلس. وفيما يتعلّق بمؤتمري باريس (1984) وريو دي جانيرو (1987) المذكورين سابقًا، فقد أشار (أوليفيرا، 1988، ص 168) إلى أن المنظّمين لم يعتبروا أنفسهم مخوّلين برفض أي ورقة من تلك المشار إليها، لعدم وجود معايير معتمدة تبيّن ما يُعدّ من التربية المقارنة وما لا يُعدّ. وقد تكررت هذه الإشكالية في كل مؤتمر لاحق.

التحولات الجذرية في البنية الأكاديمية

أشار (بيشر) و(تراولر) (2001) إلى تحولات عميقة شهدها التعليم العالي، لا سيما في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. وقد وصفا هذه التغيرات بأنها "تحولات جذرية في البنية الأكاديمية" أعادت تشكيل المشهد الأكاديمي والمرجعيات التي تنهض عليها مجالات المعرفة. وأسهم في هذه التغيرات الدور المتعاظم للدولة، والضغوط المرتبطة بمؤشرات الأداء، والعبء المتزايد الواقع على الأكاديميين في السعي المستمر وراء التمويل. ولم تكن التربية المقارنة بمنأى عن آثار هذه التحولات، شأنها في ذلك شأن سائر الميادين. ومع أن طبيعة هذه التحولات الجيومورفية اختلفت من سياق جغرافي إلى آخر، فإن ملامح من الاستمرارية ظلت قائمة في معظم الحالات.

أثّرت السياسات المرتبطة بالمساعدات الدولية على ميدان التربية المقارنة في كلٍّ من المملكة المتحدة والولايات المتحدة. جاءت الورقة البحثية التي أعدها (فوستر) وآخرون (2012) استجابةً لتكليف من وزارة التنمية الدولية البريطانية (DFID)، التي سعت إلى توجيه تمويل البحوث في إطار مساعداتها الدولية. وبالطريقة نفسها، لاحظ (روست) وآخرون (1999) تزايدًا ملحوظًا في عدد مراجعات المشروعات خلال الثمانينيات والتسعينيات في المجلات الثلاث التي شملها تحليلهم، مقارنةً بالفترات السابقة. وقد نُفّذت عديد من تلك المشروعات برعاية وزارة التنمية الدولية البريطانية، أو الهيئات السابقة لها، أو وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية (USAID). استعانت هذه المشروعات غالبًا بأكاديميين كمستشارين، مما جعل توجهات الجهات المانحة تؤثر بشكل مباشر في خارطة البحوث التربوية المقارنة؛ إذ إن تركيزها مثلًا على التعليم الابتدائي دون الثانوي أو المهني انعكس على نوعية الدراسات المنشورة. وتطرّقت عديد من المقالات المنشورة في المجلات البريطانية والأمريكية إلى دور المساعدات الدولية نفسها، سواء من خلال تحليل سياسات الوكالات الثنائية، أو عبر دراسة دور الجهات المتعددة الأطراف مثل البنك الدولي واليونسكو.

أثرت السياسات التي انتهجتها الوكالات متعددة الأطراف وحكومات الدول الغنية والفقيرة في مدى حضور بعض البلدان في ميدان التربية المقارنة. ويتّضح ذلك من خلال تباين مستوى تمثيل بلدين مثل (نيجيريا) و(الصين) في المؤتمرات والأدبيات ذات الصلة. برزت (نيجيريا) خلال السبعينيات والثمانينيات نتيجة عوامل عدّة، من بينها تنفيذ مشروعات مساعدات خارجية داخل البلاد، وتوظيفها خبرات أجنبية بفضل العائدات النفطية، إلى جانب ابتعاث أعداد كبيرة من الطلاب النيجيريين إلى الخارج لاستكمال تعليمهم العالي. ومع حلول التسعينيات، تراجعت هذه المكانة تدريجيًا نتيجة تلاشي الطفرة النفطية وانخفاض اهتمام الجهات المانحة، فضلًا عن التحديات الاجتماعية التي جعلت البحث الميداني في نيجيريا أكثر صعوبة بالنسبة للباحثين الأجانب. في المقابل، لم تكن (الصين) حاضرة بوضوح في مؤتمرات وجمعيات التربية المقارنة في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة قبل التسعينيات، بسبب السياسات الانغلاقية التي تبنّتها الحكومة الصينية، إذ لم تكن تسمح بزيارة الباحثين الأجانب أو تشجّع مشاركة علمائها في الخارج، كما لم يكن هناك نشاط يُذكر لوكالات المساعدات الغربية في الداخل الصيني. لكن هذه الصورة تغيّرت جذريًا مع مطلع القرن الحادي والعشرين؛ إذ بدأ عدد كبير من الباحثين الصينيين بالدراسة في جامعات غربية، وجلبوا معهم تجاربهم وبياناتهم، كما أصبح بإمكان الأكاديميين الأجانب زيارة الصين ضمن برامج تمويلية مشتركة. وساهم أيضًا ارتفاع عدد المتحدثين باللغة الإنجليزية من الباحثين الصينيين في تمكينهم من الاطلاع على الأدبيات العالمية والتفاعل مع الأوساط الأكاديمية الدولية.

شهد ميدان التربية المقارنة تحولًا جذريًا آخر تمثل في تفكك الاتحاد السوفيتي، وقد أدى هذا التفكك، نظرًا لاعتماد البلدان كوحدات رئيسة في التحليل، إلى بروز الدول الخمس عشرة الجديدة ككيانات مستقلة في الأدبيات الأكاديمية. أسهم هذا التغيير في توسيع نطاق الاهتمام البحثي بهذه الدول، كما ساعد على تعزيز حضورها داخل هذا الميدان. وبالمثل، تزايد انتشار اللغة الإنجليزية في هذه الدول، على نحو يشبه ما حدث في (الصين)، مما سهّل تواصل الباحثين المحليين مع المجتمع الأكاديمي العالمي.

شكّل الأداء أحد العوامل المحورية التي تناولها (بيشر) و(تراولر) في قراءتهما للمشهد الأكاديمي. وقد اشتهرت المملكة المتحدة باعتماد نظم لتقييم الأداء البحثي، ظهرت لها نظائر في (هونغ كونغ) وبلدان أخرى. وقد أدّت هذه النظم إلى زيادة الضغط على الأكاديميين للنشر، وأسهمت، في ميدان التربية المقارنة، في توسعة المجلات العلمية القائمة وإطلاق مجلات جديدة. ويمكن توضيح هذا التوسع من خلال الحقائق التالية:

في عام 1992، زادت أعداد (المراجعة الدولية للتعليم) المنشورة في هولندا من أربعة إلى ستة أعداد في السنة.

في عام 1993، زادت مجلة المملكة المتحدة (قارن: مجلة التربية المقارنة) من عددين إلى ثلاثة أعداد في السنة، وفي عام 2003، توسعت إلى أربعة أعداد، وفي عام 2007 إلى خمسة أعداد، وفي عام 2009 إلى ستة أعداد.

في عام 1998، زادت أعداد (المجلة الدولية للتطوير التعليمي) في المملكة المتحدة من أربعة إلى ستة أعداد في السنة.

في عام 2002، نشرت المجلة الصينية (مراجعة التربية المقارنة) من ستة إلى 12 عددًا سنويًا.

وتشمل المجلات الجديدة التي ظهرت منذ مطلع القرن ما يلي:

مجلة (مراجعة التربية المقارنة والدولية)، والتي أطلقت في اليونان في عام 2003.

مجلة (البحث في التربية المقارنة والدولية)، التي تم إطلاقها في المملكة المتحدة في عام 2006.

مجلة (التربية المقارنة والدولية)، التي أطلقتها جامعة مالايا في عام 2012.

واصل عديد من باحثي التربية المقارنة نشر أعمالهم في مجلات عامة لا تقتصر على هذا التخصص، إلى جانب إصدارهم كتبًا ومساهماتهم في مؤلفات محررة. ويعكس هذا التوسع في قنوات النشر، من جهة، اتساع رقعة التعليم العالي وتزايد أعداد الأكاديميين، ومن جهة أخرى، تنامي الضغوط المؤسسية التي تحثّ الباحثين على إجراء الدراسات ونشر نتائجها.

شكّل الضغط المتزايد لتحقيق الإيرادات أحد المحاور الرئيسة في التحولات الجذرية التي أشار إليها (بيشر) و(تراولر) (2001). وقد نشأ هذا الضغط أساسًا عن توجّه حكومي عام نحو تقليص التمويل المخصص لمؤسسات التعليم العالي، بالتزامن مع التوسع المتسارع في هذا القطاع، ما ضاعف حدّة التنافس بين الجامعات. وسعيًا لتعويض النقص، لجأت عديد من المؤسسات إلى استقطاب الطلاب الأجانب الذين يدفعون الرسوم، وهو اتجاه برز بوضوح في أستراليا، حيث بات التعليم الجامعي للأجانب قطاعًا اقتصاديًا بالغ الأهمية (زيبن & برينان 2012؛ نيس & هيلستين 2005). وأسهم هذا الانفتاح الدولي في تعزيز الإنتاج العلمي المتعلق بالتربية المقارنة وتوسيع آفاقه.

شكّلت العولمة بما أحدثته من تحولات كبرى أحد أبرز العوامل المرتبطة بهذه الظاهرة. أشار (إيستون) (2007، ص 7–8) إلى أن العولمة ليست مفهومًا مستجدًا، بل لها جذور ضاربة في التاريخ؛ غير أن حجمها وطبيعتها وأثرها في تسعينيات القرن الماضي والعقود الأولى من القرن الحالي حملت سمات غير مسبوقة. أسهمت العولمة من جانب في إحياء ميدان التربية المقارنة من خلال إبراز الحاجة إلى رؤى تتجاوز الحدود القُطرية وتقديم موضوعات جديدة قابلة للتحليل، لكنها من جانب آخر أضعفت هذا الميدان، إذ بات عدد كبير من الأكاديميين يعدّون أنفسهم من أصحاب الرؤى الدولية أو المقارنة دون امتلاك الأسس المنهجية والركائز الفكرية الراسخة التي تميّزه (ميتر 2009، ص 98؛ كروسلي وواتسون 2003، ص 1–11).

أخيرًا، كان للتكنولوجيا دور محوري في إعادة تشكيل معالم التربية المقارنة. ومن أبرز مظاهر هذا التحول زيادة سهولة السفر الجوي وانخفاض تكلفته، ما أتاح للباحثين تنفيذ دراساتهم خارج أوطانهم بيسر أكبر. لكن الأثر الأعمق تمثّل في ظهور الإنترنت، الذي وسّع نطاق الوصول إلى المعلومات بصورة غير مسبوقة. كما أتاح البريد الإلكتروني للأكاديميين حول العالم فرصة التواصل الفوري تقريبًا وبتكلفة محدودة. وأسهمت هذه التطورات كذلك في تغيير مشهد النشر العلمي، إذ ظهرت مجلات إلكترونية خالصة، بينما باتت المجلات التقليدية تصدر بنسخ إلكترونية إلى جانب نسخها المطبوعة.

نظرًا إلى أن كثيرًا من هذه التحوّلات العميقة اتخذت طابعًا عالميًا، بدأت الفوارق الجغرافية في ميدان التربية المقارنة، التي تَجلّت في المقارنة بين كتابَي (نواه) و(إكستاين) و(قو)، بالتراجع. ومع انفتاح الصين وتوسّع استخدام اللغة الإنجليزية، زاد اهتمام الباحثين الصينيين بالأدبيات والمقاربات المنهجية الغربية، وتعزّز التبادل الأكاديمي بين الجانبين من خلال الترجمات المتبادلة وتنقّل الباحثين.

ومع ذلك، وبرغم هذه التحولات العميقة في المشهد الأكاديمي، حافظ ميدان التربية المقارنة على بعض خصائصه الأساسية التي ظلت بارزة حتى القرن الحادي والعشرين، كما كانت في العقود السابقة. فعلى سبيل المثال، وكما أشار (أوليفيرا) إلى غياب التماسك المعرفي في أوراق مؤتمري باريس (1984) وريو دي جانيرو (1987)، فمن غير المرجّح أن تكون المؤتمرات اللاحقة قد قدّمت تغيرًا جوهريًا في هذا السياق. وعلى الرغم من بعض المحاولات في أوساط أكاديمية لتحديد ميدان التربية المقارنة بحدود أكثر وضوحًا، فإنه لا يزال مفتوحًا وواسع الأفق في جميع أنحاء العالم. صحيح أن المجلات التي تُنشر باللغات الصينية، والألمانية، والفرنسية، واليابانية، والكورية، والإسبانية، والإنجليزية، تختلف في تركيزاتها المنهجية والموضوعات التي تتناولها، إلا أنها تشترك إلى حد كبير في انتقائيتها وفي درجة التراخي المنهجي، التي غالبًا ما تكون دون المستوى الذي يطمح إليه المتخصصون في هذا الميدان.

الاستنتاجات

لطالما أُثير الجدل حول ما إذا كانت التربية تُعد ميدانًا معرفيًا قائمًا بذاته. وقد صنّفها (بيشر) و(تراولر) (2001) ضمن الميادين المعرفية، رغم إدراجهما لها ضمن الفئتين المرنة والتطبيقية. بينما يرى آخرون أنها حقل دراسي مفتوح أمام الباحثين القادمين من تخصصات أخرى. وعلى الرغم من تطورها الملحوظ عبر العقود والقرون، فقد أشار (أوليفيرا) (1988، ص 174) إلى أن المعلم لا يُقبل بسهولة في المجتمع العلمي ما لم يكن قد تلقّى تدريبًا رسميًا في أحد فروع العلوم الاجتماعية. غير أن (أوليفيرا) دافع بقوة عن أهمية الاعتراف بالتربية كمعرفة مستقلة، واقترح أن يُستخدم مصطلح "علم التعليم educology" على نطاق أوسع ليعكس هذه الهوية بوضوح.

إذا كان من الصعب اعتبار التربية ميدانًا معرفيًا قائمًا بذاته، فإن التربية المقارنة أبعد ما تكون عن ذلك. فالجماعة الأكاديمية التي تعمل تحت مسمى "التربية المقارنة" تتكوّن من أفراد ينتمون إلى توجهات معرفية متباينة، وهم على ارتباط وثيق بجماعة أخرى تُعرف بـ"التربية الدولية"، التي تنشط بدورها ضمن نطاق مشابه. وقد أدّى التداخل بين أفراد هاتين الجماعتين إلى تمازج في الاتجاهات والأساليب، وهو ما انعكس على طبيعة الإنتاج المعرفي في هذا الميدان (ويلسون 1994، ص 450؛ تيرنر 2010، ص 268–270).

من مزايا البيئة الأكاديمية التي تتيح تقارب الباحثين من ميادين معرفية متعددة أنها تهيّئ الميدان لتبادل فكري يُثري الميادين المتجاورة. ويحدث هذا إلى حدّ ما في ميدان التربية المقارنة، حيث يلتقي الاقتصاديون وعلماء الاجتماع والديموغرافيا والعلوم السياسية، ويُسهم كلٌّ منهم في تقديم رؤى متباينة حول أنظمة التعليم وعملياته في سياقات ثقافية متعددة. ومع ذلك، فإن حجم هذا التفاعل يظل محدودًا. وكما أن الجامعات متعدّدة التخصصات كثيرًا ما تضم كليات تعمل بشكل منفصل كأنها جزر معرفية مستقلة، فإن ميدان التربية المقارنة يعاني من تفتّت مماثل؛ فالوضعيون والماركسيون الجدد يتصادمون أحيانًا، وقد يتبادلون التأثير، لكنهم في الغالب لا يتفاعلون. ويمكن قول الشيء نفسه عن علماء النفس والأنثروبولوجيا، وكذلك المتخصصين في الدراسات الإقليمية الإفريقية أو الصينية، الذين قلّما يتواصلون أو يشاركون أفكارهم مع زملائهم من التخصّصات الأخرى.

بالنظر إلى تصنيف (بيشر) و(تراولر) للحقول المعرفية إلى "حضرية" و"ريفية"، تُعد التربية المقارنة من الميادين التي تميل في طبيعتها إلى الطابع "الريفي"، بمعنى أنها تغطي مساحات معرفية واسعة لا تُرسم فيها حدود دقيقة للمشكلات أو مسارات البحث. وهي لا تشهد عادةً تنافسًا شديدًا كما هو الحال في مجالات مثل أبحاث الرقائق الإلكترونية أو فيروس نقص المناعة البشرية. وعلى الرغم من أن العمل الجماعي في هذا الميدان قد يكون ذا قيمة، فإن الفرق البحثية غالبًا ما تتّسم ببنية مرنة وغير مركزية. ولهذا، يُفضَّل في كثير من الأحيان توزيع الجهود بين الباحثين، نظرًا لاتساع نطاق القضايا غير المطروقة، وقلة الجدوى من تركيز الجهود على موضوعات مشبعة بالدراسات. وكما في الميادين المعرفية المفتوحة الأخرى، غالبًا ما تتأخر عملية النشر في التربية المقارنة، وتُعد المؤلفات المطوّلة، إلى جانب المقالات العلمية، من الأشكال الرئيسة للإنتاج الأكاديمي.

ومع ذلك، وكما هو الحال في مجالات البحث الأخرى، شهد ميدان التربية المقارنة تحولات بنيوية عميقة خلال السنوات الأخيرة. وقد نتجت هذه التحولات جزئيًا عن التدخل المتزايد للدولة في مؤسسات التعليم العالي، والضغوط المرتبطة بالأداء الأكاديمي، والأعباء المالية المتزايدة. وشملت أيضًا تطورات تكنولوجية وتغيرات في الخارطة الجيوسياسية. وقد أثرت هذه التحولات في الطريقة التي تُعرّف بها المجموعات العاملة في ميدان التربية المقارنة نفسها، وفي علاقاتها المتبادلة، وفي ارتباطها بالأكاديميين في ميادين معرفية أخرى. ومع مرور الزمن، تراجعت بعض أنماط التفكير، مثل تلك التي نشأت في سياق الحرب الباردة، بينما اكتسبت مقاربات جديدة — خاصة المرتبطة بتحليل ظاهرة العولمة — حضورًا متزايدًا في الأدبيات.

لا يزال ميدان التربية المقارنة يشهد حجمًا ملحوظًا من الأعمال الوصفية ذات القيمة الفكرية المحدودة، ويتجلى هذا بوضوح في المؤتمرات المتخصصة، حيث تكون معايير الانتقاء غالبًا أقل صرامة من تلك المعتمدة في النشر الأكاديمي. ورغم ما يتّسم به هذا الميدان من تعددية معرفية وغِنى في الخلفيات التخصصية، إلا أنه يحتوي أيضًا على قدر كبير من الطروحات غير المنضبطة؛ حيث تُطرَح أفكار غامضة وأساليب تحليلية مرتجلة إلى جانب دراسات رصينة أكثر دقة. يرى بعض منظّمي المؤتمرات والناشرين أن إفساح المجال أمام الباحثين من خارج التخصص، خصوصًا أولئك الذين ما زالوا في بداياتهم، قد يتيح لهم فرصة تطوير أفكارهم والارتقاء بجودة أعمالهم مستقبلًا. في المقابل، يذهب مشاركون ومراقبون آخرون إلى أن هذه الانتقائية، وما يصاحبها من غياب الصرامة المعرفية، تُلحق ضررًا بالمسار الأكاديمي للميدان وتعيق تقدّم البحث العلمي فيه (وايزمان وأندرسون، 2013).

من بين أبرز الملاحظات التي قدّمها (أوليفيرا، 1988، ص 175) قوله ما يلي:

المعلم دون غيره هو الأقدر على تطوير المعرفة التربوية، تمامًا كما يطوّر علماء الاجتماع علم الاجتماع ويطوّر الاقتصاديون علم الاقتصاد والديموغرافيون علم السكان. ويمكن للمعلم أن يستفيد من علماء الاجتماع وغيرهم لكن دون أن يكون خاضعًا لهم أو تابعًا لمنهجياتهم. ومع ذلك فإن معظم المعلمين لا يملكون تدريبًا علميًا متخصصًا كما أن متطلبات المهنة اليومية لا تتيح لهم غالبًا وقتًا كافيًا للتعمق في دراسة البيانات التي يواجهونها خلال عملهم.

تُشكّل هذه الملاحظة مدخلًا منطقيًا متينًا للتفكير داخل الميادين المعرفية، وعبرها أيضًا. وهي دعوة صريحة لتحليل طبيعة الميادين المعرفية والعوامل التي تؤثر في تكوينها وتطورها.