3
تندرج مناهج البحث ضمن نهج متعددة ومتنوعة، ويُعد التمييز بين النهج؛ الكمي، والنوعي من أكثر التصنيفات شيوعًا في هذا السياق، ورغم أن الحدود الفاصلة بينهما قد تتداخل إلى حدٍّ يصعب فيه رسم خط واضح، وأن العلاقة بينهما لا تقوم على التنافي أو الإقصاء، فإن التركيز على هذين النهجين يكتسب أهمية خاصة لما ينطوي عليه كل منهما من قدرة على كشف أبعاد معرفية مختلفة، وتقديم رؤى تحليلية لا تتشابه في منظورها ولا تتطابق في نواتجها.
يفتتح الفصل بعرض تحليلي للخصائص المميزة للنهج البحثية التي تشكّل محور النقاش، مبيّنًا أوجه التمايز فيما بينها على صعيد الغايات، والبُنى المعرفية، والأسس النظرية التي تنبثق منها، ويتناول تباعًا أسئلة إشكالية تتصل بحدود الموضوعية، ودور القيم، وطبيعة العلاقة المنهجية بين الباحث وموضوع بحثه والمجموعة التي تُجرى عليها الدراسة، ثم ينتقل إلى معاينة كيفية توظيف النهج الكمية والنوعية في أحد أبرز موضوعات بحوث التربية المقارنة، وهو الإلمام بالقراءة والكتابة، حيث يعرض أولًا كيف يروّج باحثو كل من المنهجين لمزايا نهجهم، قبل أن يناقش كيف أن كليهما، على اختلاف أساليبهما، يسعيان للإجابة عن أربعة أسئلة جوهرية تتمحور حول: تعريف الإلمام بالقراءة والكتابة وتصويره بدقة، وتحديد مواقع التفاوت فيه، ورصد العوامل المؤدية إليه، وتحليل تبعاته، وتُعرض في نهاية الفصل مقارنة تفصيلية بين النهجين استنادًا إلى نماذج من بحوث منشورة توضّح أوجه الاتفاق والاختلاف بينهما.
قدّم (بيشيانو، 2004) في كتابه التمهيدي عن البحث التربوي مقارنة مبسطة تُبرز الفروق الجوهرية بين الطرائق الكمية والنوعية في مجال التربية، وعرّف البحث الكمي بأنه يقوم على "جمع بيانات رقمية تُحلَّل لاحقًا باستخدام إجراءات إحصائية" (ص 51)، مشيرًا إلى أن هذا النوع من البحث يسعى إلى استخلاص نتائج قابلة للقياس عبر أدوات تحليل رقمية دقيقة، بينما رأى في المقابل أن البحث النوعي يستند إلى "المعاني والمفاهيم والسياقات والوصف والبيئات المحيطة" (ص 32)، مؤكدًا أن هذا المنهج ينطلق من فهم السياق وتأويل المعاني ضمن بيئتها الطبيعية، موضحًا أن الكمية تعبّر عن المقادير والقيم العددية، في حين تتعلق النوعية بجوهر الظواهر ومضامينها العميقة.
يشير (بيشيانو) إلى أن البحوث الكمية تشمل أنواعًا متعددة، من بينها الدراسات الوصفية، والبحوث الارتباطية، والبحوث السببية المقارنة، والدراسات التجريبية، في مقابل طرائق البحث النوعي التي تتضمّن الإثنوغرافيا، والبحث التاريخي، ودراسات الحالة، وقد عقد (بيشيانو) مقارنة بين هذين الاتجاهين من حيث الغايات، ومصادر البيانات، وطرق جمعها، وأساليب تحليلها، وآليات عرض نتائجها، فعلى سبيل المثال، يهدف البحث الارتباطي الكمي إلى توظيف البيانات الرقمية في وصف العلاقات بين المتغيّرات والتنبؤ بالنتائج المترتبة عليها، في حين يتمحور هدف البحث الإثنوغرافي النوعي حول وصف ظاهرة معينة وفهمها ضمن بيئتها الطبيعية، وتبعًا لاختلاف الأهداف تتباين كذلك مصادر البيانات، إذ يعتمد البحث الارتباطي على بيانات رقمية مستمدة من قواعد بيانات المدارس ونتائج الاختبارات والاستبانات، بينما يستند البحث الإثنوغرافي إلى الملاحظة المباشرة، والمذكرات الميدانية، وقد يشمل أيضًا الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو.
أوضح (بيشيانو) في مقدمة عرضه للطرائق الكمية والنوعية أن الجدل حول أي النهجين أكثر قيمة ظل قائمًا لعقود، لكنه فضّل عدم الخوض فيه، مؤكّدًا أن كليهما يحظى بمكانة راسخة في المجتمع الأكاديمي، وأن استخدام أي منهما على نحو متقن يسهم بقدر متساوٍ في تطوير المعرفة. ويتبنّى هذا الفصل التوجّه نفسه، إذ لا يعيد الانخراط في الجدل القائم بين النهجين، بل يستلهم أعمال عدد من الباحثين الذين سعوا إلى تجاوز هذا الانقسام، ومن بينهم (برانن 2005)، و(أونويغبوزي 2005)، و(ليتش 2005)، و(غوراد 2004)، و(تايلور 2004)، و(غرين 2007)، و(هاو 2003)، ويركز على تحليل الكيفية التي يعالج بها كل من النهجين مجموعة من الأسئلة الجوهرية المرتبطة بقضايا اجتماعية وتربوية، مع اعتماد اختيارات منهجية دقيقة تُصاغ وفقًا لطبيعة الأسئلة البحثية وتفاصيلها الدقيقة.
يتمثّل الهدف الأوسع للطرائق الكمية في البحث التربوي في السعي نحو تحديد قوانين تسهم في تفسير الظواهر التربوية والتنبؤ بمساراتها، وهي غاية محورية تناولتها أعمال عدد من الباحثين، من بينهم (آري 2010)، و(برايمن 1988)، و(هارتاس 2010)، وتُعنى قوانين الارتباط بإبراز العلاقة الوظيفية بين الأشياء أو المتغيرات، في حين تشير قوانين السببية إلى تتابع زمني محدد وثابت للأحداث، مما يُفضي إلى فهم منظم للعلاقات السببية، ويكشف التزام المناهج الكمية بنمط تفكير يستند إلى المبادئ الكلية أن الباحثين ينظرون إلى هذه القوانين على أنها شاملة لا تتأثر باختلاف الأزمنة أو البيئات، بل تُعد صالحة للتطبيق في أي سياق، وبناءً على ذلك، فإن هذه القوانين تُستخدم لتفسير العلاقات بين الظواهر والتنبؤ بنتائجها المحتملة في سياقات متنوعة ومتعددة الأبعاد.
أشار (برايمن 1988) إلى أن إثبات العلاقة السببية يُعد من أبرز الانشغالات الرئيسية في البحوث الكمية، إذ إن الأسئلة التفسيرية أو التساؤلات من نوع "لماذا؟" تفترض السعي وراء الأسباب، من خلال تحديد عوامل سببية معيّنة واستبعاد التفسيرات البديلة، وتُعد التجربة من أكثر الطرائق فاعلية في إثبات السببية، غير أن العديد من الباحثين يعتمدون على الدراسات الارتباطية التي تُجمع بياناتها من خلال الاستبانات من أجل بناء حجج سببية، وقد أوضح (برايمن) أن هذا النوع من الحُجج يتطلّب من الباحث إثبات وجود علاقة بين المتغيرات، والتأكّد من أن هذه العلاقة لا تنشأ بفعل متغيّر ثالث خفي، وأن ترتيب المتغيرات يخضع لتسلسل زمني منطقي يسمح بالاستدلال على السببية.
يسعى الباحثون الكميّون، في ضوء التزامهم بالتفكير القائم على المبادئ الكلية، إلى تعميم نتائج بحوثهم لتشمل فئات سكانية أوسع ومواقع بحثية متعددة، ويتجاوز هذا الهدف مجرد نقل النتائج إلى سياقات أخرى، إذ يُعد من الركائز الأساسية في بناء المعرفة العلمية، ويُقال إن هذا التعميم يتحقق من خلال اعتماد عينات عشوائية تمثّل المجتمع الأصلي تمثيلًا دقيقًا، ولا سيما في البحوث التجريبية والدراسات الاستقصائية، ويُعد تكرار النتائج البحثية في دراسات لاحقة خطوة منهجية ضرورية يلجأ إليها الباحث الكمي لتعزيز صدقية نتائجه وتوسيع نطاق تعميمها، ويرى بعض المهتمين بالطرائق المقارنة أن هدفي التفسير والتعميم متلازمان، ويؤكّدون أن القدرة على التعميم تزداد كلّما اتسع نطاق التباين في المتغيرات التفسيرية موضع الاهتمام، كما أشار إلى ذلك (ماي 2011)، ويُقال إن تحقيق أقصى درجات التباين يصبح ممكنًا عند مستوى المجتمع، الأمر الذي يُبرر استخدام البحوث المقارنة العابرة للثقافات والحدود الوطنية، كما بيّن كل من (فان دي فيفر 1997) و(ليُونغ 1997).
تسعى الدراسات الكمية إلى غاية إضافية تتمثّل في الاستنتاج واختبار النظريات أو الفرضيات والتحقق من صحتها، وهو ما يجعل هذا النوع من البحوث يُوصَف بأنه تأكيدي الطابع، ويعكس هذا التوجّه البنية النمطية المتّبعة في مسار البحث الكمي، إذ يُقال إن هذا المسار يبدأ بنظرية عامة ثم ينتقل إلى صياغة فرضيات أكثر تحديدًا، لتُجرى بعد ذلك عملية تحويل للمفاهيم إلى متغيرات قابلة للقياس بهدف جمع البيانات، ثم تُحلّل تلك البيانات باستخدام أدوات التحليل الإحصائي من أجل اختبار مدى تطابق النتائج مع ما تنبّأت به الفرضيات الأصلية.
يمثّل هذا النهج المنظّم في البحث سمةً مركزية تميز التقاليد الكمية، إذ يلتزم الباحثون الذين يستخدمون الأساليب التجريبية أو الاستقصائية بتحديد القضايا التي ستكون موضع التركيز في المراحل الأولى من البحث، وذلك قبل تصميم أدوات جمع البيانات مثل الاستبانات وقبل الشروع في جمع البيانات ذاتها، وبسبب هذا الترتيب المسبق، يمكن غالبًا توقّع الإطار العام للنتائج منذ البداية، ويعني ذلك أن البحث يركّز على نطاق مفاهيمي ضيّق نسبيًا ويظل محصورًا فيه، ولأجل دراسة هذه المفاهيم، لا بد من تحويلها إلى متغيرات قابلة للرصد والقياس والترابط فيما بينها، كما أشار (برايمن 1988، ص 22) إلى أن العالم الاجتماعي في هذا السياق "يميل إلى أن يُجزّأ إلى حزم قابلة للإدارة: الطبقة الاجتماعية، التحيّز العرقي، التدين، نمط القيادة، العدوانية، وما إلى ذلك"، وتُفضي هذه السمات المميزة للمنهج الكمي إلى ربطه بالدقة والانضباط والموثوقية وقوة الإقناع، إذ تُجمع البيانات "الدقيقة" من خلال إجراءات منتظمة ومضبوطة، وتكون قابلة للتحقق وإعادة الفحص من قِبل باحثين آخرين.
تستمد البحوث الكمية قوتها من افتراض منهجي محوري مفاده أن الإجراءات المتّبعة والبيانات المُجمعة لم تتأثر بتدخل الباحث أو بميوله الشخصية، ويُنظر إلى هذا الافتراض باعتباره ضمانة للحياد المعرفي وشرطًا أساسًا للثقة في النتائج، ويعزز من ذلك محدودية التفاعل المباشر، بل وفي أحيان كثيرة غيابه التام، بين الباحث والأشخاص الذين تُجرى عليهم الدراسة، مما يُسهم في ترسيخ صورة الباحث كطرف خارجي يراقب الظاهرة دون أن يتورط فيها، ويتبنّى الباحث في هذا السياق منظورًا خارجيًا يُعرف بمنظور "الإتيك"، يهدف من خلاله إلى تقليص تدخله إلى الحد الأدنى الممكن، بما يسمح بتوصيف الظواهر وتحليلها دون التأثير في مسارها، ويستند الادعاء بأن البحث الكمي يتميز بالموضوعية وخلوه من التحيّز القيمي إلى هذا الابتعاد المقصود عن التفاعل، وتُوظّف الاستبيانات المعيارية، إلى جانب جهود ممنهجة في اختيار العينات العشوائية، لضمان الحد من التحيّز البشري وتقليل أثره إلى أدنى درجة، بل والعمل على استبعاده من مجمل العملية البحثية ما أمكن.
يعكس المنظور النوعي في تناوله لمسألة الموضوعية والقيم، كما توضحه أعمال (غرين 2007) و(هارتاس 2010)، تباينًا جوهريًا مع النهج الكمي من حيث الغاية التي يسعى إليها البحث، والبنية المفهومية التي يستند إليها، إذ لا تُعتبر الموضوعية في هذا السياق مبدأً راسخًا أو هدفًا مطلقًا، بل تُطرح بوصفها تصورًا إشكاليًا قابلًا للنقد والمساءلة، ويُنظر إلى عملية البحث وما تفضي إليه من نتائج على أنها بنية معرفية تتقاطع فيها القيم والخبرات الشخصية والتأويلات الفردية، ولا يُفصل فيها بين الباحث والمشاركين، بل يتقدّم النهج النوعي بفكرة أن الباحث نفسه يؤدي دور أداة البحث، وأن العلاقة التي تربطه بالمشاركين تتسم بالتفاعل المباشر والمستمر، وقد تتطور إلى علاقة إنسانية متبادلة تتجاوز الحياد المفترض، وهو ما يتعارض بوضوح مع الصورة التقليدية للباحث المنفصل، وقد عبّر (غوبا) و(لينكولن 1994، ص 107) عن هذا التصوّر بقولهم إن النتائج لا تُكتشف من خلال الملاحظة الموضوعية، بل تُبنى من خلال التفاعل الحيّ بين الباحث والظاهرة المدروسة، وهي في العلوم الاجتماعية غالبًا ما تتمثل في أفراد ومجموعات بشرية.
يتّصل بهذه الرؤية مبدأ أساسي في البحث النوعي يتمثل في السعي إلى التقاط منظور المشاركين أنفسهم، وما يعكسونه من تصورات حول القيم والسلوكيات والعمليات والأحداث، ويسعى النهج النوعي إلى تقديم منظور داخلي يُعبّر عن تجربة الأفراد من داخلها، ويُحاكي الطريقة التي يرون بها العالم ويتفاعلون معه، فيما يُعرف بمنظور "الإيميك"، وتُستخدم لتحقيق ذلك أساليب مثل الملاحظة بالمشاركة على نحو تفصيلي والمقابلات المعمقة غير المهيكلة، حيث تُمنح للمشاركين مساحة أوسع للتعبير عن رؤاهم ومواقفهم، ويتجه الباحث ضمن هذا السياق إلى تقليص تدخله، بل والتنازل الطوعي عن السيطرة خلال عملية البحث، بما يسمح للآخرين بتوجيه مسار الحوار وبناء المعنى من موقعهم الذاتي.
ينطلق النهج النوعي من رؤية تختلف جوهريًا عن تلك التي يتبنّاها النهج الكمي، إذ لا يسعى إلى الكشف عن قوانين تفسيرية عامة تحكم الظواهر، بل يُنكر في كثير من الأحيان إمكانية الوصول إلى مثل هذه القوانين من الأساس، ويعتمد هذا النهج على التركيز على الخصوصية والتفرد، حيث تُربط النتائج بسياقات زمنية ومكانية محددة، كما توضحه كتابات (برايمن 1988) و(غرين 2007)، ولا يكون التعميم إلى بيئات أخرى ضمن أهدافه الأساسية، إذ ينصبّ التركيز على الأحداث والعمليات والسلوكيات كما تجري داخل السياق القريب الذي تنتمي إليه، ويتميّز هذا التوجّه بأنه شامل وطبيعي، لا يُقيّد نفسه بمتغيرات محددة، بل يتناول الكيانات الاجتماعية بوصفها وحدات متكاملة متعددة المستويات والأبعاد، كالمدارس والمجتمعات المحلية، ويستهدف الوصول إلى فهم تفسيري ينبع من التفاعل والتعاطف مع المشاركين، مع السعي إلى الكشف عن المعاني التي ينسبونها لتجاربهم الخاصة بوصفها حالات كلية ترتبط فيها العناصر والسياقات بصورة لا تقبل التجزئة.
أشار (برايمن 1988) إلى أن تركيز الباحثين النوعيين على وجهات نظر المشاركين يدفعهم إلى الابتعاد عن الهياكل المسبقة والتصورات المحدّدة سلفًا، مما يضفي على دراساتهم طابعًا من الانفتاح والمرونة، سواء في بناء التصميم البحثي أو في التعامل مع مسار الدراسة، ويختلف هذا التوجّه عن ما يعتمده الباحثون الكميّون الذين يحددون في بداية البحث مفاهيم بعينها قابلة للتحويل إلى متغيرات قابلة للقياس والمعالجة، ولا يشترط في البحث النوعي أن ينطلق من مشكلة محددة مسبقًا، فقد لا يتّضح مجال التركيز إلا بعد الدخول في الميدان والتفاعل مع السياق، مما يفتح المجال أمام الباحث لتتبّع قضايا لم تكن متوقعة في البداية، ويتّسم هذا النمط البحثي بكونه استقرائيًا واستكشافيًا، لا يُبنى على فرضيات جاهزة، بل ينشأ من التفاعل الحيّ مع الواقع، على عكس النهج الكمي الذي يعتمد على الاستنتاج واختبار ما تم تحديده مسبقًا من فروض وأدوات.
تنطبق الاعتبارات نفسها على النقطة التي تنطلق منها النظرية في البحث النوعي، إذ إن التزام الباحثين النوعيين بالمنظور الداخلي للمشاركين، واعتمادهم منهجًا استقرائيًا يتسم بالمرونة والابتعاد عن البنية الصارمة، يجعلهم لا يبدؤون في العادة من نظرية جاهزة مُعدّة مسبقًا بهدف اختبارها أو التحقق من مدى صلاحيتها في تفسير البيانات، لأن وجود مثل هذه النظرية قد يُشكّل قيدًا يقيّد انفتاح الباحث على التجربة الميدانية ويحدّ من قدرته على الإنصات لما قد يكشفه السياق من معانٍ غير متوقعة، بل وقد تتعارض النظرية المفترضة مع الرؤى التي يعبر عنها المشاركون في سياقهم الطبيعي، ولهذا السبب تتكوّن التفسيرات النظرية وتُبنى مفاهيمها وتُختبر صلاحيتها بالتوازي مع عملية جمع البيانات وتحليلها، في سياق يتيح نشوء إطار نظري متجذر في الواقع ومعبر عن تعقيداته.
يعرض الباحثون النوعيون نتائج دراساتهم من خلال أوصاف تفصيلية تتّسم بالدقة والعمق والثراء الدلالي، تُسهم في توضيح رؤى المشاركين وتسليط الضوء على المعاني التي يضفونها على الظواهر التي يتم تناولها بالبحث. وتُعد هذه الأوصاف أداة مركزية في البحث النوعي، إذ تتيح مستوى عاليًا من الفهم القريب للواقع الاجتماعي، فهمًا ينبثق من السياق ذاته لا من خارجه، ويعتمد على تفكيك التجربة من منظور من يعيشها ويعبّر عنها. ولا يكتفي الباحث النوعي بتوثيق هذه الأوصاف، بل يُعمل أدوات التحليل والتفسير لبناء فهم أعمق، فيقدّم قراءات تتجاوز السطح لتكشف عن التفاعلات الدقيقة، والعلاقات المعقدة، والدلالات المتشابكة التي تشكّل البنية الكاملة للظاهرة المدروسة.
تُثير بحوث التربية المقارنة عددًا من القضايا المنهجية المهمة، خاصة في ما يتعلّق بالمفاضلة بين استخدام الطرائق الكمية والنوعية، إذ يشهد هذا الميدان في السنوات الأخيرة اتجاهًا متزايدًا نحو تفضيل النهج الكمية، نتيجة تحوّل ملحوظ من الدراسات التفسيرية ذات الطابع التاريخي إلى بحوث قائمة على المعالجة الإحصائية للبيانات وتحليلها الكمي. ويجد بعض الباحثين في هذا التحوّل مدخلًا نحو بناء تفسيرات عامة وصياغة مبادئ يُمكن تطبيقها على الظواهر التعليمية في سياقات ثقافية ومجتمعية متباينة، بل ويُنظر إلى هذه التفسيرات أحيانًا باعتبارها خطوة نحو تأسيس فهم عالمي مشترك للتعليم. كما ينجذب عدد من الأكاديميين وواضعي السياسات إلى فكرة نقل النظريات والممارسات التعليمية عبر الحدود الدولية، مدفوعين بأمل التوصل إلى حلول شاملة لمشكلات تُعد مشتركة بين المجتمعات. وفي هذا السياق، تُوفّر قواعد البيانات الضخمة الناتجة عن الدراسات الدولية في التحصيل الدراسي، إلى جانب الإحصاءات التي تجمعها منظمات التعليم العالمية، مصادر مغرية للباحثين، سواء من ذوي الخبرة أو من المبتدئين، لما تتسم به من وفرة وسهولة في الوصول، بالإضافة إلى قدرتها على تعزيز التأثير البحثي. ومن جهة أخرى، تميل بعض الجهات المموِّلة، سواء كانت حكومية أو دولية، إلى تفضيل مناهج ونظريات محددة عند تكليف الباحثين بإجراء الدراسات، ما يعكس في الغالب توجهاتها المؤسسية وأولوياتها البحثية.
يشهد البحث النوعي في التربية المقارنة إقبالًا متزايدًا، لا سيّما في المقابل لما يُلمَس من قصور في الطرائق الكمية وعجزها عن الإحاطة بالسياقات التربوية المركّبة. ويؤمن الباحثون النوعيون بأن فهم التربية لا يتحقق إلا من خلال ربطها بالبُعد الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي تنشأ فيه، إذ يستحيل عزل الظواهر التربوية عن البيئة التي تُمارَس ضمنها. ويستند هذا التوجّه أيضًا إلى إدراك متنامٍ لمحدودية قواعد البيانات الإحصائية المستخلصة من دراسات دولية واسعة النطاق، والتي تُستخدَم في كثير من الأحيان دون تمحيص نقدي، فتُقارَن الدول بصفتها وحدات تحليل رئيسية دون النظر إلى الفروقات المحلية والتباينات الداخلية. ومع ازدياد النقاش حول موضوعية الباحث في البحوث المقارنة، يشدد الباحثون النوعيون على أهمية اليقظة تجاه التحيّزات الكامنة، خاصة عند التعامل مع ثقافات مغايرة. ويرون أن الانخراط في هذه البحوث يتطلّب وعيًا بالافتراضات التي يحملها الباحث عن المجتمعات التي يدرسها، وسعيًا جادًا لفهم السياقات من منظور أهلها، وليس من خلال إسقاطات خارجية مسبقة.
يُوسّع هذا الفصل نطاق النقاش حول الطرائق الكمية والنوعية في التربية المقارنة من خلال التركيز على مجموعة من الدراسات التي تناولت موضوعًا بعينه، وهو محو الأمية. ويُبيّن أن كلا النهجين يسعيان للإجابة عن أسئلة جوهرية متقاربة في مضمونها، رغم تباين الأساليب والإجراءات. وقد احتلّ موضوع محو الأمية مكانة بارزة في اهتمامات باحثي التربية المقارنة، لا سيّما في ظل التأثير الكبير الذي تمارسه جهات دولية نافذة على جداول البحث، مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) والبنك الدولي. وتزخر المجلات الأكاديمية مثل مراجعة التربية المقارنة (Comparative Education Review) والمراجعة الدولية للتربية (International Review of Education) والمجلة الدولية لتطوير التعليم (International Journal of Educational Development) بعدد كبير من الدراسات التي تتناول هذا الموضوع، وتتراوح بين بحوث كمية واسعة النطاق عبر بلدان مختلفة لقياس التحصيل في مجال محو الأمية، ودراسات إثنوغرافية نوعية متعمقة ومحدودة النطاق.
تتباين الدراسات التي تناولت محو الأمية من حيث المناهج المستخدمة والسياقات التي أُجريت فيها والأسئلة التي تسعى لمعالجتها، غير أنها تلتقي عند هدف مشترك يتمثّل في محاولة الوصول إلى إجابات لأربعة أسئلة رئيسة تُعدّ أساسية لفهم هذه الظاهرة التربوية:
كيف يمكن تحديد مفهوم محو الأمية بدقة، ورسم صورة واضحة له تعكس أبعاده المختلفة؟
أين تكمن أوجه التفاوت في مستويات محو الأمية بين الأفراد والمجتمعات؟
ما العوامل التي تسهم في تحقيق محو الأمية؟
ما النتائج المترتبة على محو الأمية، وما الآثار التي يخلّفها على الفرد والمجتمع؟
تتباين الدراسات المطروحة هنا في هويتها المنهجية، فبعضها يُقدَّم بصفته دراسة إثنوغرافية تندرج في الإطار النوعي، وبعضها الآخر يتّخذ طابعًا كميًا موسّعًا يعتمد على الإحصاءات، بينما تختار دراسات أخرى المزج بين الطريقتين. ومن أجل توضيح الفروق بين المنهجين الكمي والنوعي، استُخدمت معايير مبسّطة تعتمد على طبيعة البيانات المعروضة. فكل دراسة تُبنى نتائجها على معطيات رقمية وتحليل إحصائي تُعدّ ضمن الاتجاه الكمي، أما الدراسات ذات المنحى التاريخي أو تلك التي تبحث في السياسات التعليمية فتقع ضمن التوجه النوعي الأوسع.
يسعى كل من الباحثين الكميين والنوعيين للإجابة عن السؤال الجوهري المتعلق بكيفية تعريف محو الأمية وتصويرها بدقة، غير أن منهجيتهم في التعامل مع هذا السؤال وتفسيرهم له تختلف اختلافًا واضحًا. ففي البحوث الكمية، يُتناول هذا السؤال من خلال محاولة وضع أدوات دقيقة وموضوعية لقياس محو الأمية، وعادةً ما تُعرّف محو الأمية منذ البداية بصورة محددة. فعلى سبيل المثال، انطلقت دراسة التقدم في القراءة العالمية لعام 2011، المعروفة اختصارًا بـ PIRLS، من تعريف واضح ومستند إلى دراسات سابقة للرابطة الدولية لتقويم التحصيل الدراسي، حيث صاغ الباحثون فيها تعريفًا لمحو الأمية القرائية باعتباره "القدرة على فهم واستخدام أشكال اللغة المكتوبة التي يتطلبها المجتمع أو يقدّرها الفرد"، وذلك بحسب ما ورد في أعمال (موليس وآخرين، 2009، ص 11).
أجريَت دراسة مقارنة أخرى واسعة النطاق عُرفت باسم "المسح الدولي لمحو أمية الكبار" (IALS)، وبدأت بتعريف محدد لمفهوم محو الأمية الوظيفي بوصفه "القدرة على فهم المعلومات المطبوعة واستخدامها في الأنشطة اليومية في المنزل والعمل والمجتمع" (داركوفيتش 2000، ص 369). وقد قام هذا المسح بقياس مباشر لثلاثة مجالات مرتبطة بهذا المفهوم، وهي: محو الأمية النصية، ومحو الأمية الوثائقية، ومحو الأمية الكمية. ورأى الباحثون في هذا المسح خطوة مبتكرة، كونه لم يقتصر على التصنيف الثنائي التقليدي بين "أمي" و"متعلم"، بل سعى إلى قياس درجات متفاوتة من محو الأمية داخل كل مجال، وهو ما اعتبروه أكثر دقة وواقعية.
أوضح (جينينغز) في عام 2000 أن النسبة الرسمية التي أعلنتها حكومة غيانا بشأن محو أمية الكبار، والتي بلغت 97.5% وقدّمتها إلى وكالات المعونة الدولية، لا تعبّر بدقة عن الواقع، إذ استندت إلى معدلات الالتحاق بالمدارس الابتدائية، لا إلى تقييم مباشر لمهارات القراءة والكتابة والحساب لدى السكان. وقد استند (جينينغز) في نقده لهذه النسبة إلى نتائج "مسح محو الأمية الوظيفي للشباب غير الملتحقين بالمدارس"، وهو المسح الذي عرّف محو الأمية الوظيفي بأنه "قدرة الفرد على توظيف مهارات القراءة والكتابة والحساب وحل المشكلات الأساسية في مختلف الأنشطة التي تتطلب هذه المهارات ضمن إطار حياته اليومية في مجتمعه ومحيطه الاجتماعي". وانطلاقًا من هذه النتائج، قدّر (جينينغز) أن معدل محو الأمية الفعلي في غيانا يقل بما يزيد عن 20 نقطة مئوية عن الرقم المُعلن رسميًا، مما يسلّط الضوء على الفجوة بين البيانات الإدارية والمعطيات الميدانية الدقيقة.
تناول (لافي) و(سبـرات) في عام 1997 مشكلة مماثلة، حيث أشارا إلى أن الإحصاءات المستمدة من التعدادات السكانية على المستوى الوطني تعاني من عدم الدقة، وصعوبة المقارنة، والاعتماد على افتراضات غير مبرّرة، وغموض في التعاريف، وسوء في التفسير. وقد رأى الباحثان أن معالجة هذه المشكلات ضرورية للانتقال نحو تحسين السياسات والبرامج الهادفة إلى مكافحة الأمية. وشملت دراستهما في المغرب تقييمًا مباشرًا لقدرات الأفراد في مهارات القراءة والكتابة، وطُلب منهم أيضًا إجراء تقييم ذاتي لقدراتهم في القراءة والكتابة والرياضيات. وكشفت المقارنة بين النتائج أن التقييمات الذاتية كانت تميل إلى المبالغة، بينما نادرًا ما قللت من مستوى الكفاءة الفعلية، ما دفعهما إلى الاستنتاج بأن "نسب محو الأمية التي تبدو صحيحة من حيث الشكل، قد تتضمّن في الواقع نسبة مرتفعة من الأفراد الذين لا يمتلكون سوى مستويات دنيا من المهارات القرائية والكتابية" (ص 128). وفي دراسة لاحقة أجراها (شافنر) في عام 2005 على عينات من إثيوبيا ونيكاراغوا، تبين أن مقاييس محو الأمية المُستخدمة في المسوح المنزلية تميل إلى تضخيم الواقع، خاصة في البلدان التي تعاني من ضعف في عدد سنوات التمدرس، وهو ما يطرح تساؤلات حول الحد الأدنى من التعليم المطلوب لبلوغ مستويات مقبولة من محو الأمية لدى الطلاب.
استهلّ (مادوكس) دراسته النوعية المنشورة في عام 2005 (ص 123) بالعبارة التالية: «تركّزت عمليات التقييم عمومًا على اختبارات ضيّقة النطاق تقيس القدرات، بدلًا من التعمّق في كيفية توظيف الأفراد لما اكتسبوه من معارف في حياتهم اليومية». تعبّر هذه العبارة بوضوح عن الفرق الجوهري بين النهجين الكمي والنوعي في تناول مسألة تحديد محو الأمية وتصويرها بدقة. ففي الوقت الذي يسعى فيه الباحثون الكميون إلى تطوير أدوات تقييم تقيس المهارات المرتبطة بمحو الأمية بشكل أدق وأكثر موضوعية، يتوجّه الباحثون النوعيون إلى المشاركين في الدراسة أنفسهم لفهم ما تعنيه الأمية بالنسبة لمن يعيشونها، معتبرين أن هذا الفهم الذاتي يمثّل الصورة الأكثر واقعية. ومثال على ذلك، في مقابل الفكرة التي ترى أن محو الأمية ممارسة عامة مرتبطة بالتنمية الوطنية، توصّل (مادوكس) في دراسته الإثنوغرافية عن نساء من بنغلاديش إلى أن الأنشطة المرتبطة بمحو الأمية كانت تُمارَس غالبًا في الخفاء، نظرًا لما كانت تلك النساء يشعرن به من أخطار وهشاشة اجتماعية ناتجة عن تلك الممارسات. كما اكتشف أن بعض النساء اللواتي كنّ يقرأن العربية بطلاقة لم يَعتبرن قراءة القرآن الكريم شكلًا من أشكال محو الأمية، على الرغم من أن هذه المهارة كانت ترفع من مكانتهن داخل المجتمع. وقد فسّر (مادوكس) نتائجه اعتمادًا على دراسات حالة وصفية لسلوكيات النساء وممارساتهن المرتبطة بمحو الأمية، دون أي اعتماد على البيانات الإحصائية.
أجرت (إيكمان) دراسةً إثنوغرافية في عام 2001 (ص 106–107) على شعب (الهاراكامبوت) من السكان الأصليين في بيرو، وطرحت فيها سؤالين جوهريين تمحورا حول نظرتهم إلى الإلمام بالقراءة والكتابة: "ما الذي يُعدّ شكلًا من أشكال الإلمام بالقراءة والكتابة لدى هذا الشعب؟"، و"كيف تُستخدم تلك المهارات في ممارسات التنمية التي يخوضونها؟". وقد صيغت هذه الأسئلة ضمن سياق الخطابات التنموية القادمة من خارج المجتمع، لا بوصفها مسلّمات، بل بغرض استكشاف الكيفية التي يتفاعل بها أفراد هذا الشعب مع هذه التصوّرات الخارجية، ومساءلة ما إذا كانت تنسجم مع رؤيتهم الذاتية لمفهومي محو الأمية والتنمية. وكشفت نتائج الدراسة أن الإلمام باللغة الإسبانية كان يُعدّ، لدى المشاركين، وسيلة محورية لتحقيق التنمية الذاتية، ونافذة للوصول إلى الموارد التي تُمكّنهم من الدفاع عن حقوقهم الأصلية وتعزيز مكانتهم. في المقابل، أظهرت الدراسة أن ممارسة القراءة والكتابة بلغة (الهاراكامبوت) داخل مجتمعهم تعكس اعتزازًا بهويتهم الثقافية وانتمائهم الجماعي، غير أن هذه الممارسة قد تُفهم في السياق البيروفي العام بوصفها دلالةً على العزلة أو التمايز، مما يُفضي في بعض الحالات إلى تراجع المكانة الاجتماعية أو محدودية التقدير من المجتمع الأوسع.
وأجرت (روكهيل) في عام 1993 مقابلات سردية ضمن دراسة نوعية اعتمدت فيها على روايات الحياة لعدد من النساء المهاجرات الناطقات بالإسبانية في ولاية كاليفورنيا، محاولةً الوقوف على ما تنطوي عليه الأمية من معانٍ في حياتهن اليومية، وعلى ارتباطها بتفاوت مراكز النفوذ في المجالين العام والخاص. وعندما أفصحت المشاركات عن رغبتهن في تعلّم القراءة والكتابة، طرحت الباحثة أسئلة متعمقة: "هل يطمحن إلى التمكين؟ هل يسعين إلى ممارسة حقوقهن؟ هل في الأمر مقاومة؟ وإن كانت، فماذا يقاومن؟ ومن؟ وبأي وسائل؟" (ص 163). وفي تعليقها على التصورات السائدة في الخطابات الأكاديمية والسياسات العامة التي تربط بين محو الأمية والتمكين الاقتصادي والسياسي والثقافي، قالت: "إن مفاهيم التمكين والمقاومة والحقوق لا تعكس الصورة الحقيقية لما تعبر عنه النساء اللواتي تحدّثنا إليهن، ولا تعبّر عن فهمهن لمعنى الأمية، أو ظروف المعيشة اليومية التي تخضنها، أو ما يعتبرنه مهمًا في حياتهن، أو ما يعشنه من صراعات داخلية" (ص 164–165).
تُظهر هذه الأمثلة التباين الواضح بين الخطابات الأكاديمية والسياسية والاقتصادية من جهة، وبين الواقع الذي تعيشه الفئات المعنية بمحو الأمية من جهة أخرى. وقد سعى باحثون نوعيون آخرون إلى إبراز هذا التناقض بشكل أكثر وضوحًا، لا سيّما حين قارنوا بين نوايا القائمين على تعليم القراءة والكتابة والعاملين في التنمية من جانب، وبين تطلعات الأفراد الذين اكتسبوا مهارات القراءة والكتابة حديثًا من جانب آخر. ومن أبرز تلك الدراسات ما قدّمه (كوليك) و(سترود) في عام 1993 حول سكان قرية (غابون) في بابوا غينيا الجديدة، حيث أظهرا كيف أن هؤلاء المتعلمين الجدد يستثمرون في الجوانب التي تخدم حاجاتهم المباشرة من مهارات القراءة والكتابة، دون كثير اعتبار للغايات التي كانت تسعى إليها الكنيسة أو المؤسسات التعليمية. وقد أكّد الباحثان (ص 55) أن هذه الجهات الداعية إلى محو الأمية لم تكن تحتل موقعًا مركزيًا في وعي القرويين، بل ظلّت عند أطراف اهتماماتهم.
يفهم سكان قرية (غابون) القراءة والكتابة من منظور ثقافي ينبع من واقعهم المعيش عبر تجاربهم اليومية وتقاليدهم الاجتماعية واهتماماتهم، وقد ظلّت هذه التصوّرات المتجذّرة في بيئتهم المحلية هي المرجع الأساسي الذي يوجّه تعاملهم مع الكلمة المكتوبة داخل مجتمعهم، لا المفاهيم المفروضة من الخارج والمغتربة عن ثقافتهم.
أوضح (داير) و(تشوكسي) في دراستهما عام 2001 أن تصوّراتهما المسبقة حول احتياجات جماعة (الرباري) من الرحّل في الهند إلى مهارات القراءة والكتابة، قد تهاوت أمام ما كشفه المشاركون أنفسهم من معانٍ أصيلة ترتبط بالأمية في حياتهم اليومية وتنعكس في فهمهم الواقعي لأولوياتهم واحتياجاتهم الفعلية. فقد افترض الباحثان، استنادًا إلى منظور تنموي خارجي، أن اكتساب مهارات القراءة والكتابة سيُسهم في تحسين أساليب تربية الماشية، وأنّ أفراد جماعة (الرباري) سيرحبون ببرنامج تعليمي يدمج تلك المهارات مع معارفهم الرعوية المتوارثة. غير أن نتائج العمل الإثنوغرافي كشفت عن تصوّر مختلف تمامًا: إذ لم تُرتبط محو الأمية لديهم بتحسين المهارات الرعوية، بل اعتبروها وسيلة للتحرر من التبعية للآخرين في حياتهم اليومية، وطريقًا نحو الاستقرار المكاني، والانخراط في نمط اقتصادي جديد يتيح لأبنائهم فرصًا أوسع في مجتمع غير رعوي. لقد عكست إجاباتهم طموحًا للانتقال من واقع متنقّل محفوف بالقيود، إلى مستقبل أكثر ثباتًا يَعِد بالأمان الاجتماعي والتمكين الذاتي.
يتّضح مما سبق أن الباحثين الكميين والنوعيين على حدٍّ سواء تناولوا سؤالًا جوهريًا تمثّل في كيفية تعريف الأمية وتصويرها بدقة وموضوعية. ففي الدراسات الكمية التي استعرضناها، كانت الغاية الأساسية تتمثل في التوصل إلى آلية أكثر موثوقية لقياس المهارات المرتبطة بالقراءة والكتابة، وذلك في مواجهة البدائل التقليدية المعتمدة على الإحصاءات الوطنية أو على تقديرات ذاتية قد تفتقر إلى الدقة، وغالبًا ما يُفترض مفهوم الأمية فيها مسبقًا أو يُصاغ من البداية بالاستناد إلى الأدبيات النظرية. أما الدراسات النوعية، فقد سعت إلى إعادة الاعتبار لتجارب الأفراد أنفسهم، مركّزةً على المعاني التي يمنحها المشاركون في البحث لمفهوم الأمية، وعلى الأدوار التي تؤديها هذه المهارات في حياتهم اليومية، دون الانسياق خلف الفهم المؤسسي السائد الذي تروّجه السياسات والبرامج التنموية الخارجية. ومن هذا المنطلق، لم تكتفِ هذه الدراسات بمساءلة التصوّرات الشائعة، بل كشفت عن أشكال متباينة من الممارسة والفهم ترتبط بالسياقات الثقافية والاجتماعية الخاصة. وحاولت بعض الدراسات السياساتية في الوقت نفسه تسليط الضوء على الكيفية التي يُوظَّف بها مفهوم الأمية من قِبل الجهات الوطنية والدولية التي تملك سلطة التأثير في صياغة برامج التعليم، سواءٌ انسجم هذا التوظيف مع تصوّرات المجتمعات المستهدفة أم لم ينسجم. وهكذا يتبيّن وجود فجوة واضحة في فهم الأمية وطرق قياسها، سواء بين صُنّاع السياسات والأفراد الذين تُوجَّه إليهم تلك السياسات، أو بين الأفراد أنفسهم داخل المجتمع الواحد، ما يعكس تعددية الدلالات وتباين التجارب، ويفضي إلى إثارة سؤال آخر لا يقل أهمية حول مواضع التفاوت في معدلات الأمية، وهو ما يحاول كل من المنهجين الكمي والنوعي معالجته بطريقته الخاصة، ووفقًا لمنظورتهما النظرية وأدواتهما التحليلية.
ركّزت دراسة (بابن) الإثنوغرافية عام 2001 على البرنامج الوطني لمحو الأمية في ناميبيا، وسعت من خلالها إلى مقارنة دلالات محو الأمية وممارساتها في السياقات المؤسسية والاجتماعية المختلفة، مثل دورات تدريب المعلمين والفعاليات المرتبطة بيوم محو الأمية الوطني. وانطلاقًا من تحليلها للوثائق السياساتية والتقارير التقييمية والخطابات السياسية وملاحظاتها الميدانية، خلصت إلى أن البرنامج منح أفضلية لفهم معيّن لمحو الأمية على حساب غيره، مما انعكس بوضوح في اختيار الممارسات المتّبعة. ورغم اقتصار نطاق الدراسة جغرافيًا على ناميبيا، فإنها اشتملت على مقارنات بين سياقات متعددة، أبرزت تباينات تدخل في صلب ما يُعدّ منطلقًا منهجيًا للتربية المقارنة بحسب تصور (براي) و(توماس) عام 1995.
تناولت دراسات نوعية أخرى مسألة الاختلاف في دلالات محو الأمية باختلاف اللغة والسياقات المؤسسية والجهات المعنية. ففي دراسة إثنوغرافية أجراها كل من (ريدر) و(ويكلوند) عام 1993 على مجتمع صيّادين في إحدى القرى الساحلية بألاسكا في الولايات المتحدة، كشفت النتائج عن صراع خفي بين نوعين من مظاهر الإلمام بالقراءة والكتابة: ممارسات محلية تنبع من المجتمع نفسه وترتبط بالكنيسة الأرثوذكسية وبصناعة الصيد، وأخرى وافدة تمثّلها المدرسة والهيئات الحكومية، ولكلٍّ من هذين النوعين معانٍ اجتماعية متمايزة ومؤسسات راعية مختلفة. وفي دراسة مشابهة أجراها كل من (بلِدسو) و(روبي) عام 1993 تناولت جماعة (المندي) في سيراليون، أشارا إلى أن القراءة والكتابة بالعربية ترتبط بالشؤون الدينية والطقوس والسرّية والقوة الروحية، بينما ترتبط الإنجليزية بهياكل الدولة والإدارة والتقنية الحديثة والثروة المادية، وقد أبرزا كذلك ما تمنحه كلٌّ من اللغتين من فرص متفاوتة لتحقيق أهداف اجتماعية مختلفة. أما (روبنسون–بنت)، فقد عاينت في دراستها عام 2000 تصوّرات الرجال والنساء لمحو الأمية في منطقة نائية تُدعى (أروتار) في نيبال، وبيّنت أن نظرة الرجال المتعلّمين انسجمت مع منظور وكالات الدعم التي تدير برامج محو الأمية، في حين تبنّت النساء المتعلّمات فهمًا مغايرًا لتلك البرامج، بل ناقدًا ومتناقضًا مع النظرة الذكورية المهيمنة في أوساط الوكالات نفسها.
سعى الباحثون الكميون إلى تحليل التفاوت بين الذكور والإناث في نتائج محو الأمية من خلال التركيز على الأداء الفعلي في القراءة والكتابة كما يُقاس عبر التقييمات المباشرة والتقارير الذاتية التي يُقدّمها الأفراد المشاركون، واستند هذا التوجه إلى افتراض رئيسي مفاده أن المهارات القرائية والكتابية قابلة للقياس الكمي ضمن معايير معيارية يُمكن تعميمها، وقد أظهرت دراسات متعددة مثل (فولر وآخرون 1994؛ جينينغز 2000) كيف أن استخدام أدوات القياس المباشر يُتيح رصد أنماط التفاوت بدقة ووضوح، واتّجهت بحوث أخرى إلى دراسة الفروقات المرتبطة باللغة الأم التي تُشكّل عاملًا ثقافيًا وتربويًا محوريًا (إيزاكي وآخرون 1999؛ غوناواردينا 1997)، ونوع المجتمع الذي ينشأ فيه الأفراد سواء كان حضريًا أو ريفيًا (فولر وآخرون 1999؛ لافي وسبـرات 1997)، إلى جانب المستويات التعليمية التي أتمّها المشاركون، والظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تحيط بهم، وقد غطّت دراسة فولر وزملائه (1999) مستويات محو الأمية في ولايات مكسيكية مختلفة عبر أزمنة متعددة بهدف تتبّع أنماط التحسن أو التراجع، بينما ركّزت دراسات الرابطة الدولية لتقويم التحصيل الدراسي (IEA) على تحليل نتائج القراءة لدى الأطفال ضمن مقارنات دولية شاملة، استندت إلى تقييمات معيارية دقيقة، وشملت متغيرات متعددة، من بينها النوع الاجتماعي، ومكان ولادة الوالدين، وطبيعة المهن التي يشغلونها، وجنس المعلمين، إلى جانب طيف واسع من العوامل التربوية والاجتماعية والديموغرافية الأخرى التي تؤثّر في تشكيل الفروق القرائية وتُوظَّف في تفسير أنماط الأداء ضمن السياقات الوطنية المختلفة، كما ورد في دراسات (إيلي 1994؛ موليس وآخرون 2003؛ موليس وآخرون 2009).
تناولت الدراسات النوعية المشار إليها آنفًا مسألة التفاوت في محو الأمية من خلال التركيز على اختلاف المعاني التي تنسبها الجماعات والأفراد والمؤسسات لهذه الظاهرة، وعلى الارتباطات المتعددة التي تجمع بين محو الأمية واللغات والممارسات والسياقات الثقافية التي تنشأ فيها، وقد جاءت نتائج هذه الدراسات في شكل أوصاف تحليلية واقتباسات مباشرة تعكس وجهات نظر المشاركين وتُبرز طرائقهم في فهم محو الأمية وتفسيره انطلاقًا من تجاربهم الحياتية، وأشارت بعض هذه الدراسات إلى أن تباين دلالات محو الأمية كما يفهمها المعلّمون والمتعلّمون قد ينعكس بشكل مباشر على فاعلية البرامج التعليمية ومردودها الفعلي، في حين عبّرت الدراسات الكمية من جانبها عن اهتمام مماثل من خلال مقارنة نتائج محو الأمية بين فئات سكانية متعددة تختلف في خصائصها وخلفياتها، وقد أشارت الفروقات الملحوظة في هذه النتائج إلى وجود حاجة لتطوير سبل واستراتيجيات ترفع من أداء الفئات التي تُظهر مستويات أدنى، وتجسّد هذا التوجه بوضوح في دراسة كمية تجريبية هدفت إلى مقارنة نتائج البالغين المشاركين في برنامج محو أمية وظيفي بنتائج المشاركين في برنامج محو أمية تقليدي، إضافة إلى تحليل الفروق في نتائج اختبارات القراءة التي أُجريت قبل المشاركة في البرنامج وبعدها (دورغونوغلو وآخرون 2003)، وقد جاءت هذه المقارنة في سياق تقييم الأثر العملي للصفوف التعليمية على مستوى الإتقان القرائي، وعبّر عدد كبير من الدراسات الكمية والنوعية الأخرى عن اهتمام مماثل في تحليل أثر عوامل متعددة على محو الأمية، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، ما يدفع إلى طرح سؤال جوهري ثالث تسعى كل من النهجيين إلى الإجابة عنه، وهو: ما العوامل التي تُسهم في تحقيق محو الأمية؟ وسيُبيّن الجزء اللاحق من هذا الفصل كيف تختلف نهج الباحثين لهذا السؤال باختلاف التوجه المنهجي الذي ينطلقون منه والمنظور التحليلي الذي يتبنّونه.
أجرى (مانغوبهاي 1999) دراسة تجريبية بهدف التحقق من فاعلية تدخّل تربوي محدد يُعرف باسم "مشروع تدفّق الكتب"، وذلك من خلال اختبار ما إذا كان هذا التدخّل يؤدي إلى تحسين مهارات الطلاب المشاركين من مدارس فيجي في القراءة وكفاءتهم، واعتمد باحثون كمّيون آخرون على أدوات التحليل الإحصائي لدراسة أثر التعليم النظامي على نتائج محو الأمية، ومن بين تلك الدراسات، قدّم (ديكستر وآخرون 1998) تحليلًا للعلاقة المحتملة بين عدد سنوات التمدرس التي تقضيها النساء في طفولتهن، وبين أدائهن في المهام اللغوية المرتبطة بالمجال الصحي، وذلك ضمن دراسة أُجريت في مناطق ريفية من المكسيك، وقد جمعت البيانات عبر التقييمات المباشرة والمقابلات الشخصية، وخضعت لاحقًا لتحليل انحداري إحصائي لاستكشاف طبيعة العلاقة بين هذين المتغيّرين، وفي دراسة أخرى اعتمدت على منهجية إحصائية مختلفة، سعى (إيزاكي وآخرون 1999، ص 184) للإجابة عن سؤالين أساسيين: "هل تُسهم تجربة التعليم الأولي في الكتاتيب القرآنية في تسهيل اكتساب القراءة لدى الأطفال في المناطق الريفية من المغرب؟ وهل تستمر هذه الأفضلية الأولية لتنعكس في المراحل اللاحقة من التعليم النظامي؟"، وقد استندت الدراسة إلى بيانات مستخلصة من تقييم مباشر للقراءة، ومعلومات أخرى جُمعت من الطلاب وأولياء أمورهم والمعلمين والسجلات المدرسية، واستخدم الباحثون تحليل التباين (ANOVA) لمقارنة مستويات القراءة بين الأطفال الناطقين بالعربية وأقرانهم الناطقين بالأمازيغية، من الذين التحقوا بالكتاتيب القرآنية ومن لم يلتحقوا بها، وذلك بهدف قياس الأثر المحتمل لهذه التجربة المبكرة على نتائج القراءة في مراحل التعليم اللاحقة.
ركّزت بعض الدراسات على خصائص التعليم وممارساته داخل المدارس، ومن أبرزها ما أجراه (فولر وزملاؤه) من تحليلات انحدارية سعيًا إلى تحديد مدى التأثير النسبي لمجموعة من العوامل المدرسية في مستويات محو الأمية باللغة الإنجليزية لدى الأطفال في بوتسوانا (فولر وآخرون 1994)، ومهارات القراءة المبكرة لدى الأطفال في البرازيل (فولر وآخرون 1999). وقد اعتمدت هذه الدراسات على بيانات جُمعت من تقييمات مباشرة، ومشاهدات صفية، ومقابلات مع المعلمين والمديرين، فضلًا عن استبانات كمية، وذلك بهدف استكشاف أثر عوامل متعددة تشمل: حجم المدرسة، وعدد الطلاب في الصف، وتوافر الكتب الدراسية، ومؤهلات المعلمين ومدى رضاهم الوظيفي، وتكرار تمارين القراءة والكتابة النشطة داخل الصفوف، والمدة الزمنية التي يقضيها الطلاب في أداء المهام التعليمية أو في الانشغال عنها.
تناولت هذه الدراسات الكمية مسألة العوامل المؤدية إلى اكتساب مهارات القراءة والكتابة من خلال بحث أكثر تحديدًا حول المدخلات أو التدخلات التي تسهم بدرجة أكبر في تحقيق هذا الاكتساب. وفي دراسة تقييمية طُبقت على برنامج تركي لمحو أمية الكبار يعتمد على منهج وظيفي، ركّز الباحثون على أثر الدورة التعليمية المقدّمة ضمن البرنامج (دورغونوغلو وآخرون 2003). ولقياس فعالية هذا التدخل وتقدير نجاحه، قارنوا نتائج التقييم السابقة واللاحقة للمشاركين، كما أجروا مقارنة بين نتائج من التحقوا بالبرنامج ومن لم يشاركوا فيه. وعندما لم تظهر فروق دالة إحصائيًا بين التقييمين السابق واللاحق، أرجع الباحثون ذلك إلى قصر مدة البرنامج وعدم كفايتها لإحداث تأثير ملموس.
أجرت (بوتشنر، 2003) دراسة نوعية لتقييم أربعة برامج لمحو الأمية في المناطق الريفية من مالي، فاستُند فيها إلى مقابلات مكثّفة وملاحظات ميدانية مع أفراد شاركوا في هذه البرامج وأصبح بعضهم قادرًا على القراءة والكتابة في حين لم يحقق ذلك آخرون، وجرى تركيز المنهج على الجودة النوعية للمدخلات داخل الصفوف وطرق تقديم المحتوى التعليمي. ولتفسير معدلات النجاح المحدودة لتلك البرامج، حدّدت الباحثة ثلاثة عوامل متداخلة: ضيق أفق مطوّري البرامج، وتجاهل احتياجات النساء، وسوء الظروف الصفية بما يشمل نقص المواد التعليمية واقتراب جدران الصفوف والتباعد الزمني بين الجلسات. ورغم ذلك، لم تقف التحليلات عند المدخلات التقنية بل امتدت لتشمل عوامل اجتماعية مؤثرة، بما في ذلك طبيعة علاقات الرجال بالنساء داخل المجتمع، والأدوار الاجتماعية المفروضة على النساء التي تحدّ من فرصهن، والعقبات المجتمعية التي تواجه النساء في الوصول إلى الصفوف، إلى جانب وجود تصورات محلية تُقلّل من القيمة العملية لتعلّم محو الأمية بلغة لا تستخدم في الحياة اليومية. وقد فُسرت هذه المعطيات بوصفها مفتاحًا لفهم مواقف المشاركين من البرامج وتوقعاتهم من نتائجها. وفي نهاية تحليلها، صاغت الباحثة سؤالاً منهجيًا يمثّل جوهر النهج النوعية: كيف تؤثر مواقف الأفراد من محو الأمية وتعليمها في فرصهم الحقيقية لاكتساب مهارات القراءة والكتابة؟
انطلق باحثون في دراسات نوعية أخرى من النهج ذاته لفهم العوامل التي تعيق أو تدفع نحو اكتساب مهارات محو الأمية. فقد قدّمت (بيتس، 2003) تحليلًا مفصّلًا لوجهات نظر السكان في الأرياف السلفادورية، حيث استعرضت تصوّراتهم حول برامج محو الأمية التي طُرحت في مجتمعاتهم، وبيّنت أن ضعف المشاركة لا يمكن تفسيره فقط بغياب الإمكانات أو ضعف الحافز، بل ينبغي فهمه ضمن ما وصفته بـ"سياسات الغياب"، أي تلك المواقف التي تتجلى في مقاومة ضمنية أو علنية للخطابات السلطوية التي تصوّر محو الأمية بوصفه أداة للهيمنة وإعادة إنتاج علاقات القوة. وفي اتجاهٍ مماثل، أعطت دراسات أخرى الأولوية لأصوات المشاركات أنفسهن بوصفها مرجعًا لفهم دوافع المشاركة أو العزوف عنها، ومن ذلك ما رصدته (روكهيل، 1993) في مقابلاتها مع مهاجرات مكسيكيات في مدينة لوس أنجلوس، حيث تبيّن أن رغبة النساء في التعلّم كانت تصطدم بسلطة أزواجهن الذين يتحكمون في قرار السماح أو المنع من ارتياد المدرسة، وهو ما جعل من محو الأمية أداةً ضمنيةً لمقاومة هذه السلطة الذكورية.
خلصت مجموعة من الدراسات النوعية التي تناولت السياسات التعليمية إلى ضرورة النظر في التأثيرات الدولية لفهم نجاح السياسات الوطنية في مجال محو الأمية. فقد أكّد (مبوفو ويونغمان، 2001) أن السياسات المتّبعة في بوتسوانا وزيمبابوي تأثّرت تأثّرًا بالغًا بالنهج التقليدي لمحو الأمية السائد في الخطابات الدولية، وهو ما أفضى إلى برامج غير فعّالة نسبيًا. أما (موندي، 1993)، فقد بيّنت في تحليلها لسياسات محو الأمية في جنوب القارة الإفريقية، أن هذه الجهود لا يمكن فصلها عن السياقات العالمية التي تتشكّل ضمنها، وفي مقدّمتها التحوّلات البنيوية في الاقتصاد العالمي، وتراجع مكانة إفريقيا ضمن هذا النظام، فضلًا عن تأثير المساعدات الأجنبية والمعرفة التقنية التي قدّمتها الوكالات الدولية، والتي أسهمت في توجيه السياسات الوطنية وتحديد مساراتها.
تناولت دراسات نوعية متعددة سؤال النتائج المترتبة على محو الأمية، فكشفت عن الأوجه المختلفة لاستخدام مهارات القراءة والكتابة، وعرضت تصورات الأفراد الذين اكتسبوا هذه المهارات حديثًا، وقدّمت تفسيرًا معمّقًا لتلك النتائج انطلاقًا من رؤية شاملة ومتأنية للسياقات الاجتماعية والثقافية المحيطة باستخدامها، سواء في الحياة العامة أو الخاصة. فقد رأت (أيكمان، 2001) أن المشاركين من جماعة هاراكامبوت في بيرو اعتبروا أن أحد أهم آثار تعلم القراءة والكتابة بالإسبانية تمثّل في تعزيز قدرتهم على الدفع ببرامجهم الذاتية للتنمية، والوصول إلى موارد تمكّنهم من الدفاع عن حقوقهم الأصلية وممارسة أدوارهم المجتمعية بوعي واستقلالية. وفي دراسة (روبنسون–بانت، 2000) عبّرت النساء النيباليات عن شعورهن بالحصول على هوية جديدة في المجال العام بوصفهن "متعلمات"، كما اكتسبن مساحة اجتماعية جديدة تمثّلت في الفصل الدراسي، ومساحة خاصة للتعبير الفردي، تجسّدت في كتاباتهن الموجّهة لأغراض شخصية وعامة، الأمر الذي أتاح لهن الفرصة لإعادة تشكيل علاقاتهن بالمجتمع والأسرة. وفي الولايات المتحدة، وجد (واينستين–شير، 1993) أن الرجال المهاجرين من الهونغ قد استخدموا مهارات القراءة والكتابة كوسيلة للتفاوض مع مؤسسات عامة جديدة، وكأداة فعّالة للتواصل بين الثقافة الهونغية والثقافة الأمريكية، وكرافعة للحصول على مكانة اجتماعية جديدة، وكذلك كوسيلة منهجية لدراسة التراث الشفهي لجماعتهم وحفظه للأجيال اللاحقة. وبطريقة مماثلة، فسّر (مادوكس، 2005) تعلم النساء البنغاليات للقراءة والكتابة بوصفه تحديًا للبُنى الأبوية السائدة، إذ أسهم في تقوية موقع المرأة مقارنة بالرجل، وأتاح لهن فرصة المطالبة بحقوقهن وإعادة صياغة حضورهن الاجتماعي. غير أن هذا الاكتساب الجديد لم يكن خاليًا من التبعات، إذ حمل معه أشكالًا من المخاطر والهشاشة، تمثّلت في التوترات الناتجة عن تفاعل النساء مع مؤسسات عامة، وظهور أنماط جديدة من التعرض للرقابة والنبذ الاجتماعي نتيجة مراسلاتهن الخاصة واستخدامهن المستقل للكتابة.
سعت (روبنسون–بانت، 2001) إلى استكشاف الصلة بين محو أمية النساء والنتائج الصحية لهنّ من خلال اتباع منهج إثنوغرافي في دراسة أُجريت ضمن برنامج لمحو الأمية في نيبال. وقد توصّلت إلى نتائج مشابهة لما رصدته (بوتشنر)، إذ لاحظت أن الفروق الظاهرة في نتائج اختبار المعرفة الصحية لم تنعكس على السلوك العملي للمشاركات، حيث لم تكن هناك فوارق تُذكر بين سلوكيات الباحثات عن الرعاية الصحية لدى المشاركات وغير المشاركات في البرنامج. وقد فسّرت هذه المفارقة في الصفحات (161–192) موضّحة أن:
كشفت المقابلات التفصيلية التي اعتمدت على رسم خط الحياة عن صورة شديدة التعقيد بشأن كيفية اتخاذ النساء للقرارات الصحية. فبدلًا من أن تُظهر هذه المقابلات جهل النساء أو غياب وعيهن الصحي، كشفت عن واقع شائك، يتجلى في تردّي الخدمات الصحية، وقصور المشورة المقدّمة في مجال تنظيم الأسرة، ورفض الأزواج أو أفراد من عائلة الزوج لفكرة تنظيم النسل، فضلًا عن تدنّي المكانة التي يُنظر بها إلى ولادة الأنثى، مما يدفع النساء إلى مواصلة الإنجاب سعيًا وراء مولود ذكر يُرضي التوقعات الاجتماعية المحيطة بهن.
في الوقت الذي قدّمت فيه مقابلات (روبنسون–بانت) صورة شاملة تُبرز الأبعاد المتعددة للعلاقة بين محو الأمية والسلوكيات الصحية، جاءت بعض الدراسات الكمية لتتناول هذه العلاقة من زاوية أكثر اختزالًا، مركّزة على مجموعة محددة من العوامل القابلة للقياس الكمي والتحديد الإجرائي. اعتمد (ديكستر) وآخرون (1998) في دراستهم على عدد سنوات التعليم النظامي الذي تلقته النساء الريفيات في المكسيك باعتباره مؤشرًا يُستخدم لاستنتاج مدى الإلمام بالقراءة والكتابة، وذلك بهدف تحليل العلاقة بين هذا المؤشر ونتائج التقييم المباشر لأنشطة لغوية مرتبطة بالسياق الصحي، تتضمّن الفهم القرائي للمعلومات الطبية والاستيعاب السمعي للتعليمات الشفوية. أما (شنل–أنزولا) وآخرون (2005)، فقد انصبّ اهتمامهم على التحقق مما إذا كانت مهارات محو الأمية تُعدّ آلية وسيطة تربط بين تعليم الأمهات والسلوكيات الصحية لهن ولأطفالهن. وقد استعانوا في ذلك بمقابلات أُجريت مع 161 أمًّا فنزويلية، إضافة إلى تقييم مباشر لقدراتهن على القراءة والتواصل في الموضوعات الصحية. واقترح الباحثون نموذجًا يتكون من أربع مراحل متسلسلة: تبدأ بتأثير سنوات تعليم الأم على مهاراتها اللغوية والقرائية، وتنتقل إلى أثر تلك المهارات على قدرتها على فهم الرسائل الصحية، ثم تنعكس هذه القدرة على مدى لجوئها إلى الخدمات الصحية، لتنتهي آثار هذه السلسلة في التحسن أو التدهور الذي يطرأ على الحالة الصحية لأطفالها.
تابعت دراسات كمية أخرى تحليل الآثار الاقتصادية المرتبطة بمحو الأمية، مركّزة على العلاقة بين المهارات القرائية والنجاح الاقتصادي على المستوى الفردي. وقد أظهرت بيانات المسح الدولي لمحو الأمية لدى البالغين وجود ارتباط ملموس بين نتائج التقييم المباشر لمهارات محو الأمية الوظيفية وبين دخل الأفراد بوصفه مؤشرًا على النجاح الاقتصادي. وكما كتب (داركوفيتش) (2000، ص 375):
يميل العاملون من يتقنون مهارات القراءة والكتابة بدرجة أعلى إلى تحقيق دخولٍ أعلى مقارنة بمن تنخفض لديهم هذه المهارات، رغم أن هذا التأثير لا يظهر بشكل ثابت في جميع المستويات أو البلدان. وعندما يظهر أثر محو الأمية على الدخل، فإنه يظل واضحًا حتى بعد أخذ عوامل مثل الجنس، وتعليم الوالدين، والمستوى التعليمي للمُجيب في الحسبان.
استخدم الباحثون أدوات التحكّم الإحصائي لتبسيط نوع الموقف المعقّد الذي رصدته (روبنسون–بانت) في دراستها النوعية الصغيرة النطاق والشاملة في منظورها.
تقدّم الدراسات التي تناولت مظاهر الإلمام بالقراءة والكتابة في الفقرات السابقة تمثيلًا واضحًا ومتكاملًا للخصائص المنهجية التي تنتمي إليها. وتتميّز الدراسات الكمية، ولا سيما الدراسات المقارنة بين الدول، بسعيها إلى بناء تفسيرات عامة يمكن تعميمها عبر سياقات جغرافية وثقافية وتعليمية متعددة. ويهدف عدد من هذه الدراسات إلى تحليل علاقات الارتباط والسببية، اعتمادًا على نماذج إحصائية وتجريبية متقدّمة تُعنى برصد العوامل المؤثرة وتحديدها بدقة. وتُطرح الأسئلة البحثية والفرضيات في مستهل الدراسة بشكل واضح ومباشر، يليها عرض تفصيلي للمنهجية يتضمن معلومات دقيقة حول كيفية اختيار العينة، ومصادر جمع البيانات، وطرائق قياس المتغيرات، فضلًا عن الإجراءات المتبعة في تحليل النتائج. أما المفاهيم النظرية، مثل مظاهر الإلمام بالقراءة والكتابة، فعادةً ما تُعرّف في هذه البحوث بوصفها متغيرات كمية قابلة للقياس الدقيق والمقارنة الإحصائية. وتستند هذه البحوث إلى أدوات بحثية تتنوّع بين التقييمات المباشرة، واختبارات القراءة المنظمة، والأسئلة المغلقة، والملاحظات التي لا تتضمّن تفاعلًا مباشرًا بين الباحث والمبحوث. ومن اللافت أن هذا النوع من الدراسات غالبًا ما يُغفل إشراك أصوات المشاركين أو التعبير عن وجهات نظرهم الذاتية، مما يضفي طابعًا موضوعيًا ومجرّدًا على النتائج التي يتم التوصل إليها.
تعتمد الدراسات النوعية اعتمادًا متكاملًا على ما يطرحه المشاركون في البحث من رؤى وتفسيرات ذاتية تعبّر عن تجاربهم ومعانيهم المرتبطة بمظاهر الإلمام بالقراءة والكتابة. وتتمحور هذه الدراسات حول سياقات محدودة النطاق تسعى من خلالها إلى تقديم تصور شامل ومعمّق لما تعنيه القراءة والكتابة في حياة الأفراد، وكيف تُمارس وتُوظّف في واقعهم اليومي. وبدلًا من الاقتصار على متغيرات قياسية ثابتة، تتوسّع هذه الدراسات في تحليل الاستخدامات والمعاني والطرائق التي تتجلى بها مظاهر الإلمام بالقراءة والكتابة في بيئات متعددة. وتميل منهجيًا إلى الطابع الاستكشافي التفسيري، فلا تنطلق من فرضيات أو أسئلة محددة سلفًا، ولا تلتزم بهياكل تقريرية موحدة. كما تتسم نواتجها البحثية بوفرة الوصف ودقته، مع حضور واضح للتحليل النظري الذي يمنح التفسير عمقًا ومعنى.
بالنظر إلى اختلاف نهج البحث الكمي والنوعي، إلا أن كليهما ينطلق من الاهتمام المشترك بالإجابة عن أربعة أسئلة أساسية على الأقل تتعلّق بمظاهر الإلمام بالقراءة والكتابة. ويسهم هذا التباين في النهج في الوصول إلى إجابات أكثر اكتمالًا وشمولًا. ومن بين هذه الأسئلة: كيف يمكن تعريف الإلمام بالقراءة والكتابة وتوصيفه بدقة؟ يرى الباحث الكمي أن الإجابة تكمن في تطوير وسائل دقيقة لقياس المهارات المرتبطة بالقراءة والكتابة وتحليلها كمّيًا. أما الباحث النوعي، فيركّز على تتبّع الطريقة التي يُمارَس بها الإلمام بالقراءة والكتابة فعليًا في الحياة اليومية، معتبرًا أن الاقتصار على ما تفرضه الجهات الخارجية حول الكيفية المثلى لاستخدام تلك المهارات لا يُسهم في بناء فهم حقيقي لها.
يتمثّل السؤال الثاني في البحث حول مواطن التفاوت في الإلمام بالقراءة والكتابة. ويجيب الباحث الكمي بأن السبيل إلى ذلك يكون من خلال قياس الفروقات في درجات إتقان القراءة والكتابة بين المجموعات المختلفة، وتحليل ما إذا كانت تلك الفروقات مجرّد تباينات عشوائية أم تحمل دلالة إحصائية تشير إلى وجود نمط مستقرّ أو علاقة سببية محتملة. ويقدّم الباحث النوعي منظورًا مغايرًا، إذ يركّز على تحليل المعاني والاستخدامات التي تُسندها الأفراد أو الجماعات إلى الإلمام بالقراءة والكتابة، منطلقًا من أن هذا الإلمام ليس مفهومًا واحدًا أو موحّدًا، بل يتشكّل تبعًا لاختلاف السياقات الاجتماعية والثقافية التي يُمارَس فيها.
يرى الباحثون الكميّون أن الإجابة عن سؤال "ما العوامل التي تسهم في تحقيق محو الأمية، وما الذي يؤدي إلى اكتسابها؟" تبدأ بتحليل المدخلات القابلة للقياس، سواء كانت قابلة للتغيير أو لا، من أجل تحديد ما يسهم منها في رفع مستويات المهارات القرائية والكتابية أو تحسين معدلات محو الأمية في المجتمع. أما الباحثون النوعيون، فانطلاقًا من التسليم بوجود برامج تعليمية تُعنى بمحو الأمية، فإنهم يركّزون على دراسة مواقف المشاركين تجاه القراءة والكتابة وتجاه تلك البرامج نفسها، بوصفها مواقف قد تُسهّل عملية الاكتساب أو تعيقها. بينما يركّز باحثو السياسات النوعية على تحليل مدخلات السياسات التعليمية، فيسعون إلى فهم ما إذا كانت هذه السياسات تعزّز جهود التمكين القرائي أو تُسهم في عرقلتها.
ما النتائج المترتبة على محو الأمية، وما الآثار التي يخلّفها على الفرد والمجتمع؟ يرى الباحثون الكميون أنّ الإجابة تقتضي دراسة ما إذا كانت هذه المهارات تُسهم فعلًا في تحسين مجالات أخرى من حياة الأفراد والمجتمع، وفهم طبيعة هذا الإسهام ومجالاته. يرى الباحثون النوعيون أنّه لا ينبغي إغفال التساؤل عمّا إذا كان المتعلّمون الجدد يواجهون آثارًا سلبية إلى جانب الفوائد التي يجنونها من اكتسابهم لمهارات محو الأمية.
بعد أن ركّز هذا الفصل على قضية واحدة محورية، وقارن بين أسلوبين بحثيين مختلفين في تناولها وتحليل أبعادها، تتهيأ لنا فرصة حقيقية للتعمّق في النقاش المنهجي حول الفروق الجوهرية بين النهجين الكمي والنوعي، وفي مدى إمكانية التوفيق بينهما لتحقيق فهم أكثر شمولًا وتعقيدًا للظواهر التربوية. ولمساءلة هذا الطرح، يمكننا أن نضع تصورًا افتراضيًا على النحو الآتي: ماذا لو اعتمدنا في فهمنا لمحو الأمية على أحد المنهجين دون الآخر؟ ماذا لو كان كل ما نعرفه عن محو الأمية يقتصر على تصوّرات الأفراد الذين خاضوا تجربة التعلّم، وكيفية توظيفهم لمهاراتهم كما يفهمونها ويعيشونها في حياتهم اليومية، دون أن نعرف ما إذا كانت تلك المهارات كافية أو مناسبة لأداء المهام التي يتوقعها المجتمع من الشخص المتعلم؟ وماذا لو انحصر فهمنا في العوامل التعليمية التي ترفع معدلات محو الأمية، مثل طبيعة البرامج أو مدّتها أو محتواها، دون أن نعي الدوافع الشخصية والاجتماعية العميقة التي تؤثر في قرار الأفراد بشأن التعلّم، أو في مدى قبولهم بمحتوى البرامج التعليمية واستعدادهم لاعتباره ملائمًا ومرتبطًا باحتياجاتهم الفعلية وسياقهم الحياتي؟ إن التفكير بهذه الطريقة يُظهر بوضوح أن كلا المنهجين، رغم ما بينهما من تباين في المنطلقات والإجراءات، يقدّمان رؤى متكاملة لا غنى عنها، ولا يمكن الوصول إلى فهم شامل ومتوازن للقضايا التعليمية الجوهرية دون الجمع بينهما والاستفادة من مكامن القوة في كل منهما.
السؤال الأخير الذي يعالجه هذا الفصل يتعلّق بكيفية توظيف كل من النهجين الكمي والنوعي في البحوث التربوية المقارنة توظيفًا مباشرًا وواضحًا. ومن بين الدراسات التي تناولها هذا الفصل في مجال محو الأمية، تبرز الدراسات الكمية المقارنة بين الدول على وجه الخصوص، والتي اهتمت بتحليل نتائج التحصيل في محو الأمية عبر بلدان متعددة، بوصفها أوضح الأمثلة على التوظيف الصريح للنهج الكمي في بحوث التربية المقارنة. وقد استخدمت الدراسات الكمية كذلك لمقارنة معدلات محو الأمية، ومستويات المهارات القرائية والكتابية، ونتائج التحصيل، ليس فقط على مستوى الدول، بل على مستويات دون ذلك، مثل الأقاليم والمناطق التعليمية. بل إن بعض هذه الدراسات، حتى وإن اقتصر نطاقها الجغرافي على مكان واحد، فإنها انخرطت في مقارنات صريحة ضمن أبعاد متعددة، شملت أساليب قياس المهارات القرائية، والمفاضلة بين الطرائق التدريسية الحديثة والتقليدية، وتجارب التمدرس، والمناهج الدراسية، والانتماءات اللغوية، والعوامل المدخلة في العملية التعليمية ونتائجها. أما الدراسات النوعية التي ورد وصفها في هذا الفصل، فقد اتّسمت باهتمامها العميق بالسياقات الميدانية، وركّزت غالبًا على منطقة واحدة، في كثير من الأحيان بمستوى التفصيل الذي يصل إلى المقاطعة أو القرية. ومع ذلك، وعلى غرار الدراسات الكمية، انطوت الدراسات النوعية هي الأخرى على مقارنات ملموسة على مستويات متعددة، مثل السياسات التعليمية، والأنماط الثقافية، والسلوكيات الفردية. وقد شملت هذه المقارنات مختلف أبعاد محو الأمية، من حيث المعاني المنسوبة إليها، وأساليب استخدامها، والقيم المرتبطة بها، والعوامل المؤثرة في تعلمها، والنتائج المترتبة عليها.