مقارنة الأزمنة 115
6
يُطرح سؤال جوهري حول كيفية تقديم مدخل إلى مقارنة الأزمنة في ميدان التربية المقارنة يكون أعمق من مجرد إشارة عابرة، ويقتضي ذلك ابتداءً النظر في المفاهيم الأساسية المرتبطة بهذا الطرح، وبخاصة مفهوم "الزمن" وكيفية توظيفه في الميدان باعتباره وحدة للمقارنة.
لا يجوز اختزال الزمن في وظيفته الفيزيائية الضيقة بوصفه عنصرًا مساعدًا على حساب السرعة، لأن هذا الفهم يُقصي مكوّناته الأساسية التي تشمل من جهة ترتيب الأحداث على نحو متسلسل، ومن جهة أخرى امتدادها عبر المدة الزمنية. وقد يبدو هذا التسلسل في ظاهره أمرًا ثابتًا لا يتبدل، غير أن النظر المتعمق يكشف أنه ليس كذلك، إذ إن التزامن أو الفورية أو التجارب الذاتية التي يخوضها الأفراد تجعل إدراك الأحداث وترتيبها مسألة نسبية وليست مطلقة. كذلك فإن عثرات الذاكرة أو الصرامة المفرطة في الاسترجاع قد تؤدي إلى صياغة سلاسل زمنية متباينة انطلاقًا من الوقائع نفسها، سواء أكان ذلك من قِبل أشخاص مختلفين أو من قبل شخص واحد يراجع ماضيه في أوقات مختلفة. ويُدرك الجميع تقريبًا أن المدة الزمنية، حتى حين تُقاس بأدق الأدوات، تُعاش بأوجه متعددة تبعًا لعوامل مثل الاهتمام الشخصي أو الانخراط العاطفي أو مشاعر البهجة أو الضجر. ولهذا، يمكن الاستنتاج — ولأسباب تختلف عن تلك التي عرضها (آينشتاين) أو (هوكينغ) — أن الزمن نسبيّ في طبيعته، وأنه ليس خطًا مستقلًا قائمًا بذاته منفصلًا عن المكان، بل هو بُعد من أبعاد الزمكان يحمل خصائص فيزيائية ووجودية في آن واحد. وفي عالم العولمة بما أتاحه من تواصل فوري تقريبًا، ومع ما فرضه من تشابك في المناطق الزمنية يواجهه الأفراد والمؤسسات، أصبح هذا التعقيد جزءًا من ملامح الواقع ما بعد الحداثي. ومن ثَمّ يبدو الزمن صالحًا على نحو خاص ليكون وحدة مناسبة للتأمل والمقارنة.
عند استخدام الزمن وحدةً للمقارنة يتضح فورًا أن ثمة أنماطًا متعددة ينبغي أخذها في الاعتبار، ومنها الزمن الفلكي والزمن البيولوجي والزمن الجيولوجي، إضافة إلى النوعين الأكثر أهمية في هذا الفصل، وهما الزمن الشخصي والزمن التاريخي. ورغم تزايد حضور الساعات والأدوات الدقيقة التي تضبط الإيقاع اليومي للحياة، يبقى الزمن الشخصي في جوانب أساسية أمرًا ذاتيًا نسبيًا. فقد يُنظر إليه نظرة شاملة باعتباره تعبيرًا عن النضج أو التقدّم في العمر، كما يمكن أن يُدرك بصورة جزئية ترتبط بالمواعيد والانضباط فيها، أو بمدة الدروس وتسلسلها، أو بتعدّد التقاويم التي تنظّم الحياة الاجتماعية والمهنية والأسرية والترفيهية، وما يرافقها من شعور بالانشغال أو بالركود.
ورغم أنّ من السهل النظر إلى الزمن التاريخي على أنّه المقابل المجتمعي أو الوطني للزمن الشخصي عند الفرد، فإن الأهمية التربوية الأعمق تنشأ من إدراك الروابط المتداخلة بين الزمنين الشخصي والتاريخي. ومن هذا المنطلق يتكوّن "الوعي التاريخي" حين يدرك الفرد نقطة التقاء زمنه الشخصي بالزمن التاريخي (روسن 1987؛ فون بورييس 1994). وفي إطار المقارنة الزمنية في بحوث التربية المقارنة، يتعيّن التذكير بأن بناء هذا الوعي التاريخي يقوم على نسج روابط متعددة، وبخاصة ما يتعلّق بإدراك الفرد لذاته وموقعه في مجرى الزمن التاريخي، إلى جانب تطوير مهارة "التزامن"، أي القدرة الإيجابية والخلاقة على رصد المفارقات الزمنية. أما على مستوى المقارنات الكلية، فإن ما أورده (كووين 2002، ص 416) بشأن أهمية الفوارق في "الزمن التنموي"، وكذلك ما طرحه (نوفوا) و(ياريف–ماشال 2003) حول تباين "الحاضرات"، يشكّل مساهمة بالغة القيمة. فالإقرار بإمكان وجود هذا التباين الثقافي والسياقي شرط جوهري لبناء مقارنات رصينة وذات صدقية.
كما أُشير في أكثر من موضع من هذا الفصل، فإن من المفيد أيضًا عقد المقارنة بين مفهوم الزمن في طابعه المجرّد والمعقّد بما يتضمنه من استعمالات متعددة، وبين معنى "الأزمنة" في دلالته الشائعة والأكثر ألفة، كما يظهر في تعبيرات متداولة مثل: "حياة فلان وأزمنته". وقد كان (بوب ديلان) أقرب إلى هذا المعنى الثاني عندما قال إن "الأزمنة تتغير". وبحسب ما طرحه (ديلان)، فإن الناس جميعًا – من الكتّاب والنقّاد إلى أعضاء مجلس الشيوخ والكونغرس، مرورًا بالآباء والأمهات – عليهم أن يدركوا طبيعة الأزمنة المتقلبة، ولكل منهم ما يبرّر هذا الإدراك. ويمكن أن تضاف إلى هذه القائمة فئة الباحثين في ميدان التربية المقارنة، إذ قد يرغب كثير منهم في إجراء مقارنات بين فترتين أو أكثر من فترات أو مراحل التطور التعليمي في بلد واحد أو في أكثر من بلد، ومن ثم التوصل إلى استنتاجات مبدئية تتعلق بطبيعة تلك الفترات. وقد يتمتع بعضهم بالثقة الكافية لمحاولة تحديد "روح العصر" الخاصة بكل فترة أو حقبة زمنية. وفي مستويات بحثية أقل طموحًا، فإن مقارنة الأحداث والأفكار والاتجاهات داخل فترة بعينها أو عبر أكثر من فترة، تتيح للباحث أن يصوغ استنتاجات قائمة على حجج منطقية حول قضايا الاستمرارية والتغيّر والتطور.
قدّم (كووين 2002) في تركيزه على ما سماه "لحظات الزمن"، أي الوحدات الزمنية المتجمدة مجازًا في صورة ثابتة، رؤية تقيّد إدراك حركة الزمن وتتابعه وما يحمله من تسارع أو ركود، وربما نشأ هذا القيد من إصراره المتواصل على أن التربية المقارنة لا بد أن تنحصر في دراسة أكثر من نظام تعليمي واحد يرتبط عادة بأكثر من دولة قومية كما أوضح عام 2000، غير أنّ ميدان التربية المقارنة يتسع ليشمل تنوّع التصورات حول الأوضاع التعليمية الراهنة أو التطلعات المستقبلية، إلى جانب ما تحقق في الماضي من إنجازات تعليمية، وبذلك يصبح من الأجدى إلى جانب مفهوم "لحظات الزمن" ذي الطابع التجزيئي تبنّي مفهوم أرحب هو "مقارنة الأزمنة" لإبراز البعد التاريخي.
يُقبل الباحثون في التربية المقارنة بين فترة وأخرى على إيقاف أعمالهم الروتينية ليتساءلوا عن مغزى هذا الميدان ومعناه، وغالبًا ما يتزامن ذلك مع مناسبات يُنظر إليها على أنها محطات فاصلة مثل العددين الخاصين بالألفية في مجلة التربية المقارنة (المجلد 36، العدد 3 لعام 2000، والمجلد 37، العدد 4 لعام 2001)، أو العدد المميز من مجلة قارن: دورية التربية المقارنة والدولية الذي صدر احتفاءً بمرور أربعين عامًا على تأسيسها (المجلد 40، العدد 6 لعام 2010)، وتكفي مثل هذه الإصدارات إلى جانب كتب مستقلة تناولت نظريات وأساليب بحوث التربية المقارنة مثل ما كتبه (بيرداي 1964) و(ألتباخ وكيللي 1986) و(كمنغز 1999) و(واتسون 2001) و(براي 2003) لإغناء الموضوع بحيث لا يقتضي الأمر هنا تفصيلًا مطولًا.
يرى الكاتب أن التربية المقارنة توصف أحيانًا بكونها "متسيبة" وفق تعبير (برودفوت 2003، ص 275) أو "موسومة بالانتقائية" كما أشار (نينس وبرنت 2003، ص 279)، فهي تحتضن بوجه ظاهر دراسات المنطقة والدراسات القائمة على العلوم الاجتماعية ودراسات التنمية والتخطيط، فضلًا عن صور هجينة شتى، غير أن بعض المتخصصين يميلون إلى ممارسة قدر أكبر من الإقصاء والتشدد مقارنة بغيرهم كما أبانت انتقادات (إبستين 1987) لعمل (فاريل) في تشيلي، ويقبل الكاتب كذلك بأن التربية المقارنة ارتبطت دومًا بتقاليد متعددة التخصصات تستحق التقدير، إذ يؤكد مع مجموعة من الأعلام مثل (نوا وإكشتاين 1998) و(برودفوت 2000) و(هوكينز ورست 2001) و(ويلسون 2003) أن الاعتراف بأهمية الرؤى التاريخية بين الباحثين والمنظرين في هذا الميدان هو جزء أصيل من مسيرته.
سجّلت الدراسات التاريخية في التربية المقارنة فترة من التوقف النسبي امتدت من أواخر خمسينيات القرن العشرين حتى تسعينياته كما أوضح (رست وزملاؤه 1999)، ويُفسَّر هذا التوقف أحيانًا بتحوّل الصيحات الفكرية الضيقة مثل صعود المناهج الوضعية في العلوم الاجتماعية منذ أواخر الخمسينيات، ثم بروز الطروحات الماركسية الجديدة في منتصف السبعينيات، وما أعقبها من انتشار الرؤى النيوليبرالية وما بعد الحداثية في الثمانينيات، كما يُفسَّر أحيانًا أخرى بعوامل أوسع تتجاوز الميدان نفسه مثل أثر إطلاق سبوتنيك، ونهاية الحرب الباردة، وتداعيات مرحلة ما بعد الاستعمار وخطاباتها، والثورة في التكنولوجيا الدقيقة وغيرها من التحولات.
شهد مطلع القرن دعوات متكررة إلى إعادة اكتشاف المناهج التاريخية في التربية المقارنة وإعادة ابتكارها وإعادة صياغتها مفهوميًا، فأكّد (واتسون 1998، ص 28) ضرورة أن يعيد الباحثون جذور هذا الميدان إلى التحليل التاريخي والثقافي بدلًا من الانشغال بالجدل حول قيمته ومبرراته، وذهب (كازاميس 2001، ص 447) إلى المطالبة باستعادة الإرث التاريخي الموشك على الاندثار في التربية المقارنة، لكن في إطار مناهج تاريخية مُعاد ابتكارها تستند إلى مفاهيم وتجريدات أو حتى نظريات تمنح الباحث أدوات للمقارنة والتفسير وفهم الظواهر التاريخية (ص 446)، وفي الوقت الذي قد يتردد فيه بعض المقارنين والمؤرخين إزاء الإكثار من اللجوء إلى الصياغات القطعية في المقالة الجدلية التي نشرها (نوفوا وياريف–ماشال 2003)، فإن كثيرين ـ ومن بينهم كاتب هذه السطور ـ يقبلون بنتيجتها (ص 435) التي تفيد بأن:
تؤدي البحوث التاريخية دورًا محوريًا في ميدان التربية المقارنة، إذ تمكّن الدراسات المقارنة من تتبّع مسار تشكّل الأفكار وبناء المعرفة عبر الزمن والمكان، ويمكن تصور هذا الإطار النظري للدراسات المقارنة باعتباره عملية متعددة الأبعاد تُبنى فيها الدراسات على "تواريخ محلية" لكنها تستند في الوقت نفسه إلى قوى وروابط وأزمنة وأمكنة متداخلة، ويؤدي تلقّي هذه التواريخ في كل حاضر مختلف إلى إنتاج خطاب اجتماعي وثقافي وتربوي متفرد يرتبط بسياقه التاريخي.
قدّم (كووين 2000، ص 333) طرحًا يتسم بقدر من المرونة، فرأى أن البحث في تربويات مقارنة تتعلق بالماضي أو بالمستقبل لا ينبغي أن ينتهي بخاتمة حاسمة، بل يظل في جوهره حوارًا متواصلًا، ومن هذا المنطلق دعا إلى اعتماد صيغة الجمع "تربويات مقارنة" بدلًا من صيغة المفرد "تربية مقارنة" التي قد تُشعر بالانغلاق أو الحصرية. ولا يبدو أن هناك اعتراضًا جديًا على هذا الرأي، حتى وإن كان استخدام 'التربية المقارنة' بوصفها مفهومًا جامعًا قد يساعد على ترسيخ توجه انفتاحي يشبه ما يُنسب عادة إلى دراسات الأديان المقارنة. وفي محاولة للمشاركة في هذا الحوار، يمكن توصيف التربية المقارنة بأنها كل جهد يرمي إلى الكشف عن أوجه التشابه والاختلاف بين أشكال التعليم، سواء ارتبطت بالمكان أو بالزمن (سويتنغ 2001). ومن المفيد كذلك أن نتسع بالأفق لنستوعب البحوث التي تُنجَز في ميادين معرفية قريبة، وأن نثمّن الأعمال الدولية المؤثرة التي قدّمها باحثون لا يصنّفون أنفسهم ضمن جماعة المقارنين (إيفانز 2003، ص 418). ومن المرجّح أن يشمل ذلك بعض إسهامات علماء النفس الثقافي المقارن، واقتصاديي التربية، وعلماء الاجتماع التربوي، بل وحتى مؤرخي التربية (غرين 2002).
أبرزت دراسة أكثر صلة للموضوع كتبها (كووين 2002) أهمية هذا النقاش، إذ اختار مجلة تاريخ التربية منبرًا للتعليق على ما سمّاه "وحدة الأفكار" في التربية المقارنة، مع تركيز خاص على مفاهيم الزمن. وقد جادل، ولو ضمنيًا، بأنّ حقلَي تاريخ التربية والتربية المقارنة يرتبطان بعلاقة وثيقة ويتداخلان فيما بينهما. وأوضح صراحةً (ص 413) أنّ كلا الميدانين لم يُحسن التنظير لمفهوم الزمن، غير أنّه افترض أنّ الممارسة العملية تكشف عن حساسية مختلفة تجاه الزمن وعن استخدام متباين لمفاهيمه. وانطلاقًا من طرح (كووين)، جاء هذا الفصل، ضمن كتاب عن طرائق ونهج البحث في التربية المقارنة، ليعلّق بدوره على قضايا تؤثر في دراسة وكتابة تواريخ التربية، وكذلك على الأعمال الأكثر وعيًا بالتاريخ داخل الحقل المعترف به للتربية المقارنة. ويسعى الفصل إلى تعميق البحث في مفاهيم الزمن المتداولة فعليًا، مع إبقاء الباب مفتوحًا أمام احتمال أن يكمن الفرق بين الميدانين لا في طبيعة المفاهيم الزمنية التي يعتمدها كلٌّ منهما، بل في درجة التركيز عليها وأهمية حضورها في أعمالهما.
يقوم كل عمل تاريخي في أحد أبعاده على المقارنة، لأن معالجة الزمن وتسلسله وما يتصل بالاستمرارية والتحول لا تتحقق إلا من خلالها. ومع ذلك فإن بعض الكتابات التاريخية تحمل طابعًا مقارنًا أوضح من غيرها، كما أن بعض الحقب تُوصَف بأنها أكثر انتقالية من سواها.
عرفت تواريخ التربية هي الأخرى مسارًا تاريخيًا مميزًا (ألدريتش 1982؛ غوردون وسزريتر 1989؛ لوو 2000؛ بوبكوفيتز وآخرون 2001؛ غيذر 2003). وإذ لا يتوافر في هذا الموضع الحيز ولا الوقت ولا الدافع الكافي لإضافة جديدة إلى هذا الأدب، اكتفى الكاتب ببناء تصنيف قد يكون غير مكتمل للأنماط المختلفة. وقد تناول سبعة أنماط متباينة من تواريخ التربية، ساعيًا من خلالها إلى تقويم دورها وقيمتها في ميدان التربية المقارنة.
جاءت فئة "عقائد كبار المربين" لتعيد صدى عنوان كتاب حظي يومًا بمكانة واسعة في القراءات التربوية (روسك 1969). ويقف هذا الاتجاه عند مفترق الفلسفة والتاريخ، حيث يركّز على صياغة عرض مكثف لـ"عقائد" عُدّت تأسيسية في الفكر التربوي، وغالبًا ما يُستدعى في هذا السياق أسماء (أفلاطون) و(أرسطو) و(كومنيوس) و(روسو) و(ديوي). وتميل الكتابات المنضوية تحت هذا الاتجاه إلى الاقتصار على النصوص أو إلى إعادة صياغتها في صورة شروح مقتضبة، فلا تنفتح إلا نادرًا على الأبعاد الأوسع المتصلة بالبنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وإن أضاف بعضها بيانات سيرية قصيرة عادةً ما تفتقر إلى النقد. ورغم أنّ هذه الأعمال لم تشكّل عنصرًا بارزًا في الأدبيات البحثية الحديثة للتربية المقارنة، فإنّ عودة بعض تأثيرها غدت ملموسة مع تزايد إقبال الأكاديميين على الاستشهاد بالأقوال التي تبلورت في إطار تيارات ما بعد البنيوية.
التبجيل المؤسسي. تماثل هذه الفئة ما سبقها من حيث ضيق أفق معظم منشوراتها وافتقارها إلى النظرة النقدية، بل إنها قد تنزع في كثير من الأحيان إلى المحلية المحدودة. ويُعدّ من أبرز أقسامها الفرعية ذلك الذي يكرّس لإحياء مناسبات مثل الذكرى السنوية أو المئوية للمؤسسات التعليمية. ولا يتجاوز دور هذه الإصدارات، في أغلب الأحيان، أن تكون خزانًا لما قد يُتوقع من تواريخ دقيقة وأسماء أماكن وأشخاص وإحصاءات حضور، وربما مناهج رسمية، من دون أن تقدّم إسهامًا علميًا ملموسًا في مسار البحث المقارن أو في نتائجه. ومع ذلك فإنّ هذا لا يعني أنّ جميع تواريخ المؤسسات الفردية أو إصدارات الذكرى تندرج في هذا الإطار، إذ نجد استثناءات مشرّفة، من بينها ما صدر بمناسبة مرور مئة عام على إنشاء معهد التربية في جامعة لندن (ألدريتش 2002)، وكذلك ما أُنجز احتفاءً بمئوية جامعة هونغ كونغ (كونيتش 2012).
الطروحات الجدلية. تباينت هذه الفئة عن الفئتين السابقتين بما تتسم به من نقدية حادة وصوت جدلي واضح، غير أنّ كثيرًا من أعمالها ينحصر في أفق ضيق، لا سيما تلك التي تنطلق أساسًا من الدفاع عن موقف سياسي أو فلسفي بعينه. ومن هنا فإن بعض الأعمال المتأثرة بالنظرية النقدية أو بدراسات ما بعد الاستعمار تبدو واقعة في أسر هذا الضيق والتحيز. وقد تصل بعض الكتابات إلى حد إساءة استخدام المناهج التاريخية حين تُخضع الشواهد القائمة لمتطلبات الحجة فحسب، فتعاملها بانتقائية مفرطة واستخفاف (كارنوي 1974؛ ماير وآخرون 1992؛ بينيكوك 1998). ومع ذلك فإنّ هذه الطروحات في جانبها الإيجابي قادرة على إثارة النقاش وإطلاق البحث عن أدلة تثبت أو تفند المزاعم المطروحة (غرين 1997؛ آبل 1999، 2000). وبفعل تأثير تيارات متعددة تشمل منظّري النقد ونظرية التبعية ونظرية النظم العالمية وما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، غدت الرؤى التاريخية ذات الطابع الجدلي جزءًا لا يُستهان به من بحوث التربية المقارنة، وما تزال آثارها حاضرة بقوة.
دراسات السياسات. تتقاطع هذه الفئة مع الطروحات الجدلية من حيث الموضوعات والاهتمامات، لكنها تتمايز عنها بقدر أكبر من الانضباط المنهجي وبتركيز أوضح على البحوث الموجهة التي تسعى إلى تقديم رؤى تاريخية معمّقة. وتضم هذه الفئة الأعمال الأكثر ارتباطًا بالسياسات التعليمية المباشرة. وقد تناولت بعض هذه الدراسات قضايا المركزية واللامركزية في الإدارة التعليمية (موك 2003؛ براي 2013)، فيما ركّزت أخرى على جوانب إدارية متنوعة (واتس 1998أ؛ لاو 2002)، كما ناقشت بعض الدراسات المفارقة الظاهرة بين مأسسة مهنة التعليم وتجريد المعلّمين من مهاراتهم (غينسبورغ 1995؛ كوو 2010؛ روبرتسون 2012). وفي ميدان المناهج الدراسية، تناولت بحوث أخرى سياسات تصميم المناهج وتنفيذها (موريس وآخرون 2001؛ بولتون 2002؛ غروسمان وآخرون 2008). كما لم يغب عن هذه الفئة بحث الآثار المترتبة على العولمة (موك وولش 2003؛ بيتش 2009؛ مارينغ وآخرون 2013). ومن الواضح أنّ مثل هذه الأعمال لا تقتصر أهميتها على إثراء البحوث المقارنة في التربية، بل إن معظم مؤلفيها أنفسهم يقرّون بانتمائهم المباشر إلى هذا الميدان.
المختارات الأرشيفية وبدائلها. تشمل هذه الفئة أعمالًا تربوية ركّزت على الأرشيف، مثل الدراسات التي تناولت إنجلترا وويلز (ماكلور 1986)، أو الصين (فريزر 1965، 1971)، أو هونغ كونغ (سويتنغ 1990، 2004)، رغم أنّ بعضها تضمن مواد أخرى لا تندرج تحت الوثائق الأرشيفية الصرفة. وتتمثل أهميتها للباحثين في التربية المقارنة في كونها وسيلة عملية اختزالية للوصول إلى الأدلة التاريخية. غير أنّ هذه الأعمال قد تفقد قيمتها حين تُثقلها التعليقات التحريرية الطاغية، التي تظل في الغالب نصّية النزعة أو حتى معدِّلة للنصوص، الأمر الذي يصرف الباحث عن هدفه بدل أن يمدّه برؤى تاريخية معمّقة (بيكلي 2002). وتظهر البدائل الأرشيفية في مؤلفات قائمة على تشريعات بعينها (ماكولك 1994؛ جيننغز 1995). كما تتجسد في المعنى الأشمل في السرديات المبكرة للتطورات التاريخية، والتي صيغ معظمها بمنهجية علوية من الأعلى إلى الأسفل (كيرتس 1967؛ دنت 1970). ويظل دور هذه المؤلفات في البحوث المقارنة أقرب إلى دور "الكتاب المساعد" الذي لا يتجاوز حد المرجع المختصر.
الإضافات النمطية. تمثل هذه الفئة أدنى مستويات الإفادة، إذ لا تتعدى كونها عبارات مقتضبة وسطحية يحرص بعض كتّاب التربية المقارنة على إدراجها كنوع من التحية الشكلية للبعد التاريخي. وتُقرأ هذه الجمل وكأنها مستلة من دفتر عبارات جاهزة طال استعماله وربما تناقلته الأيدي من مصادر ثانوية، مثل العبارة: "تأسست هونغ كونغ مستعمرة بريطانية عام 1842 ثم أُعيدت إلى السيادة الصينية عام 1997". وهي في الغالب محصورة في الشؤون السياسية الكلية أو في بيانات تعليمية ضيقة مستمدة من نهج علوي بيروقراطي، كالحديث عن تواريخ القوانين التعليمية والتقارير الرسمية. وفي بحوث التربية المقارنة، لا تضيف هذه الإشارات أكثر من الحد الأدنى، إذ تكاد تكون أفضل من الصمت لكنها لا تتجاوزه. وما تمنحه من فائدة لا يرقى إلا إلى تنوير القارئ الذي يفتقر كليًا إلى المعرفة بالسياق أو المكان أو الزمان محل النقاش، من دون أن تقدم له عمقًا أو أفقًا أوسع.
التواريخ الاجتماعية. شهدت المكتبة التربوية تزايدًا ملحوظًا في الأعمال التي تنظر إلى التربية من خلال منظورها الاجتماعي (سيلفر 1977؛ آرتشر 1979؛ لوو 1988؛ أوربان 1999؛ كالواي 2002؛ فيجنر 2002). وتمثل هذه الفئة إضافة بالغة الأهمية للباحثين في التربية المقارنة، إذ لا تقتصر على تقديم روايات عن الأحداث التربوية، بل تفتح المجال لفهم معمق للأبعاد الثقافية وسائر السياقات الاجتماعية التي تحيط بالمدرسة والجامعة والمؤسسات التعليمية. ومن خلال هذه الرؤى يستطيع الباحث أن يجد ما يعينه على التخطيط المنهجي لبحثه، وأن يسترشد بها أثناء جمع البيانات ومعالجتها وتحليلها، وهو ما يجعلها من أكثر أشكال التأريخ قدرة على إغناء المعرفة المقارنة.
أقرّ كثير من المؤرخين بما ذكره (كازاميس 2001، ص 446) من أنّهم إذا طُلب منهم أن يبيّنوا منطلقاتهم، فإن معظم زملائهم يعلنون تبنّي موقف لا نظري. بينما يذهب آخرون إلى وصف أنفسهم بالانتقائية، مؤكدين استعدادهم لتوظيف أي موقف نظري يرونه مناسبًا للموضوع الذي يدرسون أبعاده. غير أنّ المفارقة اللافتة تكمن في أنّ كلا الموقفين، سواء اللا نظرية التي تُفصح غالبًا عن احتقار للنقاش النظري أو الانتقائية، لا ينفصل عن كونه موقفًا نظريًا بحد ذاته. وهذا ما أكّد عليه (كازاميس) بتشديد بالغ، لافتًا النظر إلى أن التنصّل من النظرية أو الانتقاء منها لا يعفي من الاصطدام بها، بل يُعدّ شكلًا آخر من أشكالها:
لا يتسم معظم المؤرخين بالنزعة النظرية، في حين نجد أنّ غالبية المؤرخين المقارنين، ومن ثم غالبية مؤرخي التربية المقارنة، يلجؤون إلى توظيف رؤى نظرية يستعيرونها عادةً من ميادين علمية أخرى. وقد تتمثل هذه الرؤى في نظريات كبرى كالوظيفية أو الماركسية أو نظريات التحديث أو ما بعد الاستعمار، كما قد تتجلى في مفاهيم تحليلية ذات نطاق محدود أو أشمل، مثل الطبقة الاجتماعية أو الرأسمالية أو السلطة أو الصراع أو العنف أو إعادة الإنتاج أو التبعية أو الديمقراطية أو العولمة أو التنميط أو التجزئة أو مفهوم الهابيتوس. وتؤدي هذه الأطر دور العدسات أو الوسائط التي يعتمدها الباحث لاختيار مادته التاريخية وتنظيمها وتفسيرها، بحيث تمنحه زاوية نظر أعمق لفهم المعطيات وتفكيك دلالاتها.
اتجه عدد من مؤرخي التربية وباحثي التربية المقارنة الذين يوظّفون الرؤية التاريخية في أعمالهم إلى تبني مواقف نظرية متنوّعة خلال العقود الماضية، حافظوا عليها بدرجات متباينة من الاتساق والاستمرارية. وتبرز فيما يلي أبرز هذه المواقف كما أُعيدت صياغتها وتعديلها قليلًا استنادًا إلى القائمة التي طرحها (كازاميس):
الماركسية/النظرية النقدية (سيمون 1970؛ بولز وجنتس 1976؛ سيلفر 1977؛ آبل 2000). انطلق هذا التوجه من اعتبار الاقتصاد المحرّك الأعمق للسياسات التعليمية وممارساتها، وأعطى للطبقة الاجتماعية دورًا محوريًا في تفسير كيفية تشكّل القرارات التربوية وتوجيه الممارسة اليومية في المدارس والجامعات. غير أنّ هذا المنظور لم يخلُ من انتقادات، أبرزها ما يُقال عن نزوعه إلى الحتمية، إذ يُضفي على الظواهر طابعًا قدريًا يوحي بأنّ مساراتها لا يمكن أن تكون إلا على النحو الذي انتهت إليه.
نظرية التبعية/تحليل النظم العالمية (والرشتاين 1974؛ ماير وآخرون 1992). يلتقي هذان المنهجان في نقدهما الشديد لما يُعتبر هيمنة تمارسها الدول المتقدمة، ولا سيما دول الغرب والشمال، على ما يُعرف بـ"العالم النامي". ويُصوَّر هذا النفوذ في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والتربية على أنه شكل من أشكال السيطرة البنيوية التي تُضعف قدرة الدول النامية على رسم مساراتها الخاصة. غير أنّ هذا المنظور لم يخلُ من إشكالات، إذ بدا في بعض أطروحاته متعاليًا، وافترض خطأً أنّ مجرد التشابه في الألفاظ أو في أسماء المواد الدراسية يكشف عن نسخ آلي وتقليد أعمى يرقى إلى ما يشبه "عبادة البضائع"، متغافلًا عن الفوارق العميقة في السياقات والدلالات.
ما بعد البنيوية (بال 1994؛ بينيكوك 1998). اكتسب هذا الاتجاه الأكاديمي رواجًا لافتًا خلال العقود الأخيرة، وامتاز بقدرته على فتح الباب أمام تفكيكات ذاتية للسياسات والممارسات تكشف عن مواطن التناقض بينها وبين التصريحات التاريخية للنوايا، بل وتشجع على إبراز هذه المفارقات بصورة نقدية معمّقة. غير أنّ هذا المنظور لم يسلم من الانتقاد، إذ اعتُبر أنّ روابطه بالأدلة العلنية القابلة للتحقق تظل ضعيفة وهشة في أحيان كثيرة، مما يثير التساؤل حول صلابته المنهجية ومصداقية استنتاجاته.
ما بعد الحداثة (بوبكوفيتز 1994؛ لوو 1996؛ لارسِن 2009). انبثق هذا الاتجاه الفكري بوصفه قريبًا لما بعد البنيوية، وامتاز بمنحه أتباعه مرونة منهجية وحرية فكرية أوسع في تناول القضايا التعليمية والثقافية. وقد اعتُبر في نظرهم تصحيحًا ضروريًا للمنظور الحداثي الذي ارتكز على الخطية العقلانية وأُرسيت ملامحه في أوروبا مع عصر التنوير. ويتيح ما بعد الحداثة نهج متعدّد الأبعاد، ذات طابع انطباعي يلتقط تعقيدات الواقع وتشابكه، غير أنّه في المقابل يغفل في كثير من الأحيان الأطر التقليدية المفسّرة للدوافع والأسباب والنتائج. ويُعاب على بعض أنصاره أنّهم لم يطرحوا على أنفسهم سؤال إمكان ظهور "ما بعد–ما بعد الحداثة"، مما يجعل موقفهم، في حدّه الأدنى، لا تاريخيًا يعيد إنتاج المفارقة التي أرادوا أصلاً تجاوزها.
ما بعد الاستعمار (بنتون 1996؛ تيكلي 1999؛ شارما–برايمر 2009). يتخذ هذا الاتجاه من الاستعمار، وبالأخص آثاره السلبية وشروره، محورًا رئيسًا للتحليل والنقد. وتبرز أهميته في قدرته على دحض التصورات القديمة التي سوّقت لفكرة التفوق الثقافي أو العرقي المزعوم، كما يُحسب له أنه يلتفت إلى إمكان تَشكّل أنماط جديدة من الاستعمار الحديث تُمارَس بوسائل مختلفة يغلب عليها الطابع الاقتصادي. ومع ذلك، فإن هذا التوجه يشترك مع ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة في مخاطرة واضحة، إذ قد ينزلق بعض أتباعه إلى التركيز على الشعارات المرتبطة بالتصحيح السياسي أكثر من ارتكازهم على الأدلة التجريبية الموثوقة.
النسوية (سترومكويست 1990؛ واتس 1998ب). مثل هذا النهج رافعة فكرية ونقدية مهمتها فضح التحيزات الراسخة والكشف عن الممارسات التي طالما تم تجاهلها، فجاءت لتؤكد على ضرورة استحضار البعد الجندري بوصفه عنصرًا جوهريًا في فهم التربية وتحليلها. غير أنّ الحماسة التي أبداها بعض أنصار هذا الاتجاه تجاوزت في بعض الأحيان حدود المقبول، إذ بلغ بهم الأمر إلى المبالغة الشديدة أو حتى اختلاق صور من التمييز الذكوري أو استغلال النساء، في مواقف لم يكن للنوع الاجتماعي فيها موقع مركزي. وهنا برز النقد الذي يذكّر بوجوب التوازن بين الحماسة النقدية والالتزام بالأدلة التاريخية والموضوعية.
النيوليبرالية/الإدارة الجديدة (تاونسند 1996؛ رينولدز 1998). ارتكز هذا التوجه على استحضار الأدلة التاريخية لإبراز محاسن تقليص تدخل الدولة في شؤون التعليم، وتأكيد القيمة "الإيجابية" لقوى السوق حين تُطلق لتعيد تشكيل المؤسسات التعليمية. غير أنّ ما يكشفه هذا المنظور هو نزوع أنصاره إلى اعتماد تصورات شديدة الضيق لمفهوم "الفعالية"، سواء عند تقييم المدارس أو الحكم على أداء المعلّمين أو متابعة تحصيل الطلاب أو تقويم السياسات. وهكذا ينتهي بهم المطاف إلى التعامل مع التعليم كما لو كان سلعة تُسوّق وتُباع، لا تجربة إنسانية حيّة ولا لقاءً معرفيًا يكوّن الذات والفكر.
انصرف بعض الباحثين عمدًا، في أجزاء جوهرية من حياتهم الأكاديمية (فاريل 1986، ص 8؛ وانظر فاريل 2011، ص 65–69)، عن استخدام النظرية وتجنّبوها بإصرار، ليغدوا حالات مضادة لما طرحه كازامياس (1961، ص 90–96؛ 2001، ص 446) وما أشار إليه نوفوا وياريف–ماشال (2003، ص 430). وأوضح (مارتن 2003) أنّ النتائج التي أفضى إليها هذا التوجّه غير المؤطَّر نظريًا (فاريل 1986) تتقارب إلى حد بعيد مع ما توصّلت إليه النهج المشبعة بالنظرية (يانسن 1991). وبرغم ذلك، يظل من الصعب العثور على مؤرخ ينكر اعتماده في دراسته على مفاهيم كبرى مثل الطبقة، والرأسمالية، والسلطة، والصراع.
انطوت الكتابات التاريخية الحديثة على جدل متكرر بشأن طبيعة التفسير التاريخي، وبالأخص فيما يتعلق بمسألة "القوانين الشاملة" (غاردينر 1961؛ روبرتس 1995؛ هاسكل 1998؛ فيتزر 2000؛ هاميلتون 2003). وعلى الرغم من أنّ المؤرخين غالبًا ما يتحفظون إزاء الطابع المرتبط بالعلوم الاجتماعية لهذه القوانين، فإن معظمهم يعترف باللجوء إلى تعميمات عامة، تتخذ شكل مفاهيم منظمة أو ما يُعرف بـ "التعميمات المغلقة". وبهذا فإن مفاهيم مثل "الطبقة" و"الرأسمالية" و"السلطة" تُعد إلى حد بعيد رهينة السياق التاريخي، تتبدل دلالاتها بحسب الزمان والمكان والظروف. وقد سلط عدد من الباحثين الضوء على هذه الجوانب: (سيمون 1970) ركّز على الطبقة، و(بولز وجنتس 1976) على الرأسمالية، و(سلفر 1977) على الرأي، و(غرين 1997) على الدولة، و(كارنوي 1974) على الاستعمار، و(غراي وآخرون 1983) على إعادة البناء، كما اهتم غيرهم بالسياسات التعليمية. ومن خلال هذه المساهمات، حظيت التربية المقارنة بإضاءة فكرية على التعميمات المغلقة التي يستخدمها المؤرخون، كما استفادت من اعتمادهم على أسلوب "الربط الموضوعي" (والش 1967)، وهو النهج الذي يسعى عبره المؤرخ إلى استخلاص دوافع أو أهداف أو دلالات مشتركة من أحداث متفرقة، وربطها ضمن حركة أو سياسة أو توجه. وتزداد متانة العلاقة بين بحوث التربية المقارنة وعلم التاريخ بفضل هذا الأسلوب، إذ يقوم أساسًا على المقارنة من خلال إدراج الأحداث في تسلسل مركّب واستنتاج المعاني منها.
تكشف الممارسات التي دأب المؤرخون على اتباعها عن قدرة واضحة على إنارة مجال الدراسات المقارنة في التربية، وذلك عبر اهتمامهم البالغ بالمصادر الأولية، بما فيها المصادر الشفوية التي يوليها مؤرخو القضايا الحديثة أهمية خاصة. فالمصادر الأولية هي تلك التي ظهرت في وقت الحدث وكانت نتاجًا مباشرًا له. ولهذا السبب يفضّل المؤرخون "مصادر العملية"، مثل شهادات الشهود والتقارير الحرفية والرسائل والمقابلات، على "مصادر المنتج" مثل القوانين الصادرة والتقارير النهائية. ومع ذلك فإن معظم المؤرخين المحدثين لا يكتفون بها منفردة، بل يتحققون منها عبر المضاهاة بمصادر أخرى مختلفة المنبت. كما أنّ المصدر لا يكتسب قيمة الدليل إلا إذا ارتبط بسؤال محدد يسعى الباحث للإجابة عنه. ولو جرى تبني مثل هذا النهج في التربية المقارنة لَتراجعت الدراسات التي تُغرق نفسها في الوصف والإحصاءات بلا جدوى واضحة. إذ إن غموض الهدف يؤدي إلى مقارنات وصفها (كمنجز 1999، ص 43) بأنها "عديمة المعنى"، مثل تلك التي تلجأ إليها بعض الوكالات الدولية عند تقديم إحصاءات عامة عن مناطق مثل آسيا أو إفريقيا أو أمريكا اللاتينية، دون مراعاة التنوع الكبير داخلها. وعلى الجانب الآخر، قد تُظهر بعض الدراسات ضعفًا فكريًا ومنهجيًا حين تُساق بدوافع خارجية، كتأكيد موقف نظري أو براديغمي مسبق، وخاصة عندما تُستند إلى تعريفات غير مناسبة أو إلى انتقاء محدود للأدلة.
دأب المؤرخون على معالجة مصادرهم من مداخل مختلفة تسمح بتعدّد التفسيرات الممكنة، وعلى مقابلة هذه المصادر ببعضها البعض، الأمر الذي يدفعهم عادة إلى قبول فكرة التعدد السببي، وإلى الاطمئنان لفكرة وجود قراءات متعددة للحدث الواحد. وقد كتب (فاريل 1986، ص 8) عن دراسته الشخصية ما يؤكد هذا التوجه بقوله:
لا أزعم أنّ هناك تفسيرًا وحيدًا ذا مشروعية مطلقة للأحداث التي شهدتها تشيلي بين عامي 1970 و1973، ولا أؤمن أصلًا بإمكانية وجود مثل هذا التفسير. غير أنّ تعدّد التفسيرات يُعدّ مكسبًا في حد ذاته، إلا لأولئك الذين يظل فهمهم للواقع الاجتماعي ضيقًا وصلبًا إلى درجة تدفعهم إلى اعتبار أي انحراف عن "الحقيقة" التي يؤمنون بها ضربًا من الهرطقة التي لا بد من استئصالها.
لهذه الأسباب وغيرها تميل الأحكام التاريخية إلى التحفّظ والتردّد، ويتّسم المؤرخون بكثرة الجدل والنقاش. وهي سمات يجدر ببعض العاملين في مجال التربية المقارنة أن يتحلّوا بها، لكونها ملائمة على وجه الخصوص للتعامل مع ما وصفه (كينغ 2000، ص 273) بـ "عولمة كثير من مظاهر عدم اليقين".
وعلى الرغم من ميل المؤرخين إلى التحفظ في الأحكام والانخراط في الجدل، فإن اهتمامهم ينصرف أيضًا إلى قضايا جوهرية مثل منشأ الأحداث والحركات والأفكار، وآثارها، وقيمتها التأسيسية بعيدة المدى، وما تنطوي عليه من أهمية. ويقرّ كثير منهم بأن ما يبدو من عبارات حاسمة تصدر في "مصادر المنتج" الرسمية قد يتضح عند التدقيق أنه غير دقيق، أو ظالم، أو ناقص، وربما ينطوي على عزوٍ خاطئ للفعل أو لصانعيه. وهذه الخلاصة تصلح أن تكون عبرة لعدد من باحثي التربية المقارنة، إذ تدعوهم إلى النظر بعين أكثر ريبة إلى التصريحات التي تُصاغ بروح دعائية أو لأغراض العلاقات العامة.
وعند الانتقال إلى التحليل السببي، يعي المؤرخون في الغالب خطأ الاستدلال المعروف بـ post hoc ergo propter hoc، أي الزعم بأن تتابع حدثين يعني أن أحدهما سبب الآخر، في حين يصعب القول إن هذا الوعي حاضر بنفس القوة لدى بعض المقارنين. كما أنّ كثيرًا من المؤرخين يبدون حذرًا من التفسيرات الغائية التي تقوم على افتراض غاية نهائية أو قصد كلي موجه للتاريخ. وفي هذا السياق، فإن الباحثين في التربية المقارنة، ممن قد يُغريهم الانسياق وراء نظريات المؤامرة حول الحكومات الاستعمارية، سيكونون في حاجة إلى قدر من النزعة التشكيكية التاريخية، التي تتقوّى بالاعتماد على الأدلة الجزئية الدقيقة لا على تعميمات مبالغ فيها.
وتتجلى سمة أخرى من سمات التحليل التاريخي الحديث في ميل كثير من المؤرخين البارزين إلى تخطّي التصنيفات الجامدة، والبحث عن الترابطات التي تصل بين دراسات التعليم وبين الديناميات الأوسع في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والدين. إلا أنّ هذا البعد يغيب أحيانًا في بعض الدراسات التاريخية للتربية أو في بحوث التربية المقارنة، حيث يظل التركيز منصبًا على الداخل: مؤسسات، شخصيات، منشورات، من دون إدراك لاحتمال أنّ النظريات والمناهج في التربية المقارنة قد صاغتها أيضًا عوامل خارجية. ومن ذلك مثلًا: الصيحات الأكاديمية في ميادين معرفية أخرى، والتحولات الاقتصادية، والتحسينات في أساليب الحياة، والاختراعات التقنية، والانقلابات السياسية، بل وحتى تبدل التصورات الكونية والمواقف من المرأة أو الطفل. وإنّ تعميم هذا الوعي وربطه بروابط محددة ومقنعة ينسجم مع مقولة (سادلر 1900) عن قيمة "الأشياء خارج المدارس". كما أنّه يسمح، كما سبقت الإشارة، بالمقارنة بين الأزمنة التعليمية وتقويماتها وبين أزمنة أخرى قد تكون مؤثرة أو متأثرة بها.
يساعد في هذا السياق تحديد شطرين رئيسين لهذه الاستراتيجيات: وحدات مناسبة لإجراء المقارنة، وهياكل ممكنة للمقارنة بين الأزمنة.
منذ البدايات الأولى للكتابات المنشورة في التربية المقارنة، شكّلت الدولة القومية الوحدة الرئيسة للمقارنة (ناكاجيما 1916؛ كاندل 1933)، وظلّت، كما يشير عدد من الباحثين (مثل كاون 2000، ص 336؛ نوفوا وياريف–ماشال 2003، ص 434)، بمثابة الوحدة الافتراضية للميدان. غير أنّ بعض الباحثين في السنوات الأخيرة (براي وتوماس 1995؛ سويتنغ 1999، ص 270؛ هوكينز ورَست 2001، ص 502) قد تساءلوا عن مدى ضرورة وقيمة الاستمرار في الاعتماد على هذه الوحدة الافتراضية. ويعكس هذا الكتاب بوضوح هذا التوجّه الجديد، إذ يبيّن أن البدائل عن الدولة القومية كوحدة للمقارنة لا تقتصر على الأبعاد المكانية مثل القارات والمناطق والمدن والمناطق الإدارية، بل يمكن أن تشمل أيضًا كيانات متصلة بالتربية مثل الثقافات والقيم والمناهج والسياسات وطرائق التعلّم. كما يمكن للدراسات المقارنة أن تركز على أنماط المدارس (مثل مدارس النحو، والمدارس المهنية، والمدارس الدولية)، أو على مدارس فردية، أو على طيف واسع من المجتمعات (مثل الأقليات القومية بعينها أو أحياء "تشاينا تاون")، أو على الكتب المدرسية وموارد التعليم والتعلّم الأخرى، وحتى على مؤسسات التعليم غير النظامي أو غير الرسمي.
يوظّف الباحثون في مقارناتهم للأزمنة ما لا يقل عن ثلاثة أنماط بنيوية مختلفة: التحليل التعاقبي، والتحليل التزامني، والتحليل شبه التزامني (سويتنغ 1993). ويتحدد الشكل الذي يختاره الباحث تبعًا، في جانب منه، لطبيعة الموضوع قيد البحث، كما يتأثر بأهداف المقارنة والغايات المرجوّة منها، وبالميول الشخصية للباحث نفسه.
يأتي التحليل التعاقبي في المقام الأول، وهو الأكثر شيوعًا في دراسات التاريخ التربوي كما في التواريخ العامة. ويرتكز هذا النمط على البنية الزمنية، حيث يتخذ السرد شكلًا رئيسيًا له. ومن أمثلته المعروفة أعمال (ألدريتش 2002) و(فاريل 1986). ومن الناحية المجازية يمكن النظر إلى هذه الدراسات على أنها بمثابة فيلم مكتمل. وأبرز ما يميز هذا النمط هو وضوحه الزمني، بما يسمح بإظهار الاستمرارية والتغير معًا، وتقديم صورة عامة شاملة. غير أنّ هذا النمط ليس بلا أخطار؛ فحين يسعى الباحث لتفادي رتابة السرد – التي تختزل الأسئلة في "وماذا بعد؟" – من خلال فرض حبكة أو تصميم قد يؤدي إلى عقلنة مفرطة وتشويه للواقع، عبر تصوير أناس الماضي وكأنهم قادرون على التنبؤ بالمستقبل أو على إدراك حاضرهم بوعي كامل. كما تنشأ خطورة أخرى من طبيعة السرد نفسه، إذ قد يتعارض مع الرؤية الشمولية لمختلف مستويات التعليم وأبعاده، ويدفع الكاتب إلى التركيز على الصورة الكلية فحسب، مع إهمال التفاصيل وانحصار النظر في المبادرات الفوقية.
يُجسّد التحليل التزامني نهج يلتقط اللحظات الزمنية كما لو كانت صورًا جامدة، وقد ارتبط في بعض الأحيان بالتوجهات البنيوية. ويُعد كتاب (نيمير) 1957 بنية السياسة عند اعتلاء جورج الثالث العرش من الدراسات الكلاسيكية التي اعتمدت هذا النمط. أما في البحوث التاريخية المتعلقة بالتربية، فيلجأ إليه الباحثون عند تناول تشريعات بعينها، أو عند المقارنة بين أوضاع سابقة وأخرى لاحقة كما هو الحال في دراسة (سويتنغ) 1993، ص 14–40. وعلى الصعيد النظري، يبدو أنّ تركيز (كوون) 2002 على "لحظات الزمن" يشجع هذا المنهج. وتتمثل أبرز مزاياه في إفساح المجال لعرض تفصيلي وتحليل معمّق، غير أنّ الخطر يكمن في أنّ ما جرى خلال الفترات الفاصلة بين اللحظات المختارة قد يتعرض للتقليل من قيمته أو التهميش بصورة غير مبررة، حتى عندما توضع لحظتان متناقضتان في مقارنة مباشرة.
يأتي الشكل الثالث تحت مسمى التحليل شبه التزامني أو شبه التعاقبي، وهو يضم مجموعة متنوعة من الصيغ المزدوجة، خصوصًا دراسات الحالة التي تُعنى بمتابعة حلقات سياسية محددة مثل ما أورده (تشينغ) 1987 و(سزه) 1990. ويمكن تصوير هذه الدراسات مجازًا وكأنها أفلام منزلية أو برامج تلفزيونية قصيرة. وتتمثل قوتها في قدرتها على المزج بين مزايا التحليلين السابقين، إذ تجمع بين الإحساس بالاستمرارية وبين الإمكانية لتناول التفاصيل الدقيقة المرتبطة بدراسة الحالة. غير أنّ ما يضعف هذا الشكل هو طبيعته المتجزأة وما يترتب على ذلك من أخطار إهمال جوانب رئيسية في مسار التطور التعليمي.
لن يكتمل هذا الفصل ما لم يُسلَّط الضوء على طبيعة المشكلات التي تواجه السعي إلى مقارنة الأزمنة، وهذه المشكلات تتجلى في ثلاث دوائر كبرى.
يواجه الباحثون أحيانًا صعوبات في الوصول إلى المصادر، وخصوصًا الأرشيفات الحكومية. غير أنّ المثابرة كثيرًا ما تؤدي إلى نتائج مثمرة، كما أنّ الجهود المبذولة في استعادة بدائل غالبًا ما تكون نافعة. ويُقال الشيء نفسه عن عدم اكتمال بعض المصادر، حيث يمكن أن تعوّضها مصادر بديلة أو مكمّلة مثل الشهادات الشفوية. ويتعيّن على الباحثين قليلي الخبرة أن يولوا اهتمامًا خاصًا لطبيعة المصادر التي يعتمدون عليها وتنوّعها، وألّا يرضوا سريعًا بالمصادر الأكثر وضوحًا التي غالبًا ما تكون رسمية أو وثائقية، بل أن يضيفوا إليها مصادر من قبيل الروايات الشفوية أو المواد الصُوَرية أو البيانات الإحصائية أو المذكرات الشخصية. وبهذا النهج يواجهون على نحو أفضل المشكلات المتعلقة بموثوقية الأدلة، خاصة باستخدام أساليب المضاهاة بين مصادر متعددة. كما أنّ إدخال هذا التنوع يوفر للقارئ بدائل أخف وقعًا من الصفحات النصية الطويلة المتكررة.
تتضاءل هذه المشكلات حين يُلجأ إلى أسلوب التحقق المتقاطع للأدلة، وهو منهج يتيح بدوره تفسيرات متعددة. غير أن بعض المشكلات التفسيرية الدقيقة تتعلق بمسألة إثبات الأصل، إذ لا بد من إدراك أن النسب الرسمي أو الشائع لأفكار أو قرارات معينة لا يعكس دائمًا الحقيقة كاملة أو بدقة. وينطبق هذا أيضًا على تحديد المسؤولية أو الفاعلية عند صياغة السياسات، وعلى تقدير النفوذ عند تنفيذها. فكثيرًا ما تُنسب الفاعلية إلى لجان أو مجالس لم تفعل شيئًا سوى المصادقة الشكلية على مقترح، وكثيرًا ما تكون التقارير الرسمية التي تتحدث عن تعميم سياسة مركزية واسعة التطبيق تقارير موجهة لذاتها ينبغي التدقيق فيها بمقارنتها بممارسات التنفيذ الواقعية. وينسحب هذا التحذير أيضًا على تفسير الإعلانات الرسمية المتعلقة بالأهداف، إذ ينبغي الوعي بأن التسلسل الذي يبدو منطقيًا بين الغاية والعملية والنتيجة قد يظهر في الواقع بشكل مغاير، فتُجرّب العمليات بشكل أولي، وتُقيَّم النتائج، وتُبنى الأهداف بأثر رجعي كما أوضح (سويتنغ 2002). وبالمثل، فإن استخدام مصادر متنوعة ومقارنتها يعزز دقة التفسير سواء فيما يخص الأصول أو الدلالات. ومن المفيد التأكيد على أن المؤرخين مدعوون إلى الاستفادة من امتياز الرؤية بأثر رجعي دون الوقوع في إساءة استعماله، في حين ينبغي لدارسي التربية المقارنة أن يتجنبوا "الحاضرية" التي أعيد إحياؤها في بعض أنماط الخطاب ما بعد البنيوي وما بعد الحداثي كما ذكر (لورينجر 1996) و(نوفوا وياريف–ماشال 2003، ص 430).
تُعالج الفترات الزمنية في الكتابات التاريخية باعتبارها إنشاءات اصطناعية، سواء حُددت مباشرة بمفردات زمنية مثل "القرن العشرون" و"الستينيات"، أو بشكل غير مباشر مثل "العصر الفيكتوري" و"مرحلة إعادة البناء بعد الحرب" و"سنوات تاتشر"، أو بصورة ضمنية مثل "مرحلة التراجع" و"صعود النيوليبرالية والإدارة الجديدة". وقد وصفها (كينغ 2000، ص 267) بأنها مجرد أدوات تركيبية يوظفها المؤرخون وغيرهم لتسهيل عملية التوليف. وعندما يقوم الكتّاب بابتكار تسميات زمنية من هذا النوع، فإنهم يهدفون إلى تكثيف المعنى عبر عملية الربط الموضوعي، وبذلك يحوّلون السرد التاريخي إلى حبكة متكاملة أو إلى موضوعات محددة، كما أوضح (فورستر 1953).
تتضمن التحديات المرتبطة بالتأريخ الدوري قضايا متعددة، منها تحديد نقاط البداية والنهاية، واتخاذ قرارات حول المدة الزمنية الأنسب، إضافة إلى حاجة مؤرخ التربية إلى ربط هذا التأريخ بتاريخ آخر أوسع نطاقًا يشمل أبعادًا اجتماعية واقتصادية وسياسية وإقليمية وعالمية، أي بيانات ورؤى تأتي من خارج التربية ومن داخلها على حد سواء بالنسبة للوحدة المقارنة موضع التحليل، كما أشار (فيليبس 1994، 2002). وقد استلهم المؤلف في دراسته للتعليم في هونغ كونغ بعض مفاهيم الفترات التي يستخدمها المؤرخون. وفي بعض المواضع مثلما جاء عند (سويتنغ 1998أ، 1998ب، 1999) اعتبر أنّ من المفيد النظر إلى التطورات المتتابعة في التعليم الجامعي لإعداد المعلمين على النحو التالي:
ما قبل التاريخ (قبل 1917، حين أُنشئ أول قسم جامعي)
التاريخ القديم (1917–1941، فترة تميزت بعضو هيئة تدريس واحد متفرغ، يساعده "أستاذ الطريقة" في المدارس)
العصور المظلمة (أواخر 1941–1951، من الغزو الياباني وإغلاق الجامعة إلى الترتيبات الخاصة بإعادة فتح القسم)
عصر النهضة (1951–حوالي 1976، من إعادة بعث القسم إلى أن حصل على استقلاله عن كلية الآداب)
الأزمنة الحديثة (حوالي 1976–حوالي 1998، مع ما اتسمت به من تكنولوجيا متقدمة وما تحمله من إيحاءات مستوحاة من أسلوب تشارلي شابلن)
قدّم (سويتنغ 2004) في عمل لاحق تصوّرات زمنية بديلة أقل قابلية للنقد بوصفها أورومركزية. وبعد النظر في مزايا وعيوب اعتماد فترات زمنية طويلة أو قصيرة لدراسة التطورات التعليمية في هونغ كونغ بين 1941 و2001، لجأ إلى التقسيم الزمني التالي:
المخاطر المهنية (و"العلاج؟") 1941–1945
إعادة الإعمار والتوسع والتحول 1945–1964
السياسة، وجماعات الضغط، والأوراق – في الطريق إلى الوصول الشامل 1965–1984
التخطيط لمستقبل أكثر يقينًا 1985–1997
مستقبل أكثر يقينًا – لذّات ومخاطر ما بعد الاستعمار 1997 حتى الألفية الجديدة
ومهما كانت مزايا أو عيوب العبارات التي استُخدمت في تسمية الفترات، فإن جميع الفترات، باستثناء الأولى والأخيرة، تتسم بميزة واضحة تتمثل في تقارب أطوالها الزمنية وفي ارتباط بدايتها ونهايتها بتواريخ بالغة الأهمية. وفي بعض الحالات، وخاصة الثانية والثالثة والرابعة، استندت أسس التأريخ الدوري إلى اعتبارات تربوية بالدرجة الأولى، بينما ارتبطت الفترة الأولى والأخيرة بعوامل أوسع نطاقًا كانت التربية جزءًا لا ينفصل عنها. وتمثل هذه الأمثلة تطبيقًا لتناول جوانب متعددة من التعليم في مجتمع واحد على امتداد فترة زمنية طويلة نسبيًا. وهناك تحديات ومكاسب أيضًا في مقارنة الفترات التطويرية بين أماكن مختلفة، كما أوضح (فيليبس 1994، ص 270؛ 2002، ص 372–374) في دراسته عن ألمانيا وإنجلترا بعد الحرب. وقد يعزز هذا الفهم من أن المقارنة تدخل في صميم عمل المؤرخ. ويتأكد ذلك على نحو خاص في ما يتعلق بعملية الربط الموضوعي، وبناء التسلسلات المتماسكة، ومناقشة التفسيرات البديلة واختبارها، وكذلك بالنسبة لمؤرخي التربية الذين يعنون بالنظر في المستويات المختلفة أو الأبعاد المتعددة للتعليم كما أشار (ويستلوند 2007).
في ميدان التربية المقارنة، كما في غيره من المجالات، تتحدد القيمة الكبرى بالغاية المرجوة. فإذا اقتصر الهدف على القياس الكمي، فقد يُنظر إلى مقارنة الأزمنة على أنها ذات أهمية محدودة، غير أنّه حتى في هذه الحالات يمكن أن تكون مقارنة معدلات النمو أو التدهور عبر الزمن مثمرة. أما حين يكون الغرض من المقارنة التعرف على المراحل المنفصلة للتطور التعليمي، فإن مقارنة الأزمنة تمثل عنصرًا أساسيًا في صميم البحث.
يمكن أن تتجه الاستكشافات اللاحقة في موضوع مقارنة الأزمنة إلى مقارنة الأزمنة المفصلية، مع التركيز بوجه خاص على مفهوم (كاون) حول "الانتقالات" أو transitologies، وكذلك إلى دراسة ملاءمة توقيت مقارنة الأهمية، باعتبار ذلك علاجًا مضادًا لبعض القراءات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثية، بل ولما تحمله أحيانًا من نزعة عولمية مبالغ فيها في تصوير النظم التعليمية. وتكتسب هذه الزاويتان أهمية خاصة في الحالات التي تتسم فيها مبادرات الإصلاح بغياب النظرة التاريخية. ومن هنا، فإن تبني منظور مقارن تاريخي متعمّد يقدّم التصحيح المطلوب. وعلى نحو أعم، فإن القيم الإيجابية التي تحملها الكتابة التاريخية، مثل إبراز البعد الإنساني والإنسانيات كما أكد (كازامياس 2001)، وتعزيز الدور الحاسم للسياق كما أشار (كروسلي 2009)، وتقديم بدائل عن "الهوس الكلّي" كما وصفه (سويتنغ 1989)، يمكن أن تغني ميدان التربية المقارنة. ويُعدّ هذا الفهم في النهاية المبرر الأسمى لأهمية مقارنة الأزمنة.
ملاحظة المحررين: النص الأساسي الذي كتبه الراحل (أنتوني سويتنغ) ما زال قائمًا في هذه الطبعة الثانية، وقد أضاف المحررون تحديثًا محدودًا لبعض المراجع.