مقارنة الثقافات 173
8
طرح كاتب الرحلات المعروف (جان موريس 2005، ص 24) سؤالًا عن حقيقة النزعة الإمبريالية لدى البريطانيين، وبرز تساؤل آخر حول ما إذا كان "المتعلّم الصيني" في رؤية (واتكنز وبيغز 1996) يتمسّك دومًا بتقدير عالٍ للتعليم، وهل يتميّز الطلاب الآسيويون بالجدّية وحدها، أم يمتلكون فوق ذلك حافزًا قويًا نحو التفوّق (لي 1996، ص 25). وأثيرت الشكوك أيضًا بشأن وجود "بيداغوجيا صينية مميزة" كما أوحى (راو وتشان 2009، ص 10)، وبشأن ما إذا كان الطلاب الفنلنديون يحظون بأفضلية ثقافية تساعدهم على تكرار التفوق في اختبارات برنامج التقييم الدولي للطلاب (PISA) الذي أجرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلال أعوام 2000 و2003 و2006 و2009 و2012. ودار النقاش كذلك حول مدى وجاهة ما أعلنه تقرير لجنة آيسلن في جنوب إفريقيا سنة 1951 من أنّ "الممارسة التعليمية يجب أن تدرك أنّها تتعامل مع طفل بانتو تشكّل في أحضان ثقافة البانتو، وتعلّم لغة البانتو، وتشرب قيمًا وميولًا وأنماط سلوك على يد أم بانتو" (كالواي 1984، ص 175). وتواصل الجدل حول مدى صحة تصريح (هندريك فرفورد) وزير شؤون السكان الأصليين في جنوب إفريقيا سنة 1954 حين قال إنّ "لا مكان للبانتو في المجتمع الأوروبي إلا في نطاق بعض أشكال العمل" (كالواي 1984، ص 173).
يتّضح أنّ العوامل الثقافية ترتبط بالتعليم وتُوجّه الكثير من مساراته، ولم يشكّك في ذلك سوى قلة، كما لاحظ (ألكسندر 2000، ص 29–30):
تتجلّى الحياة في المدارس والفصول باعتبارها امتدادًا للمجتمع الأوسع لا كيانًا منفصلًا عنه، فالثقافة لا تنتهي عند بوابة المدرسة، وإنّما تترك القيم المؤثرة في جوانب الحياة الوطنية بصماتها في تكوين ملامح الحياة المدرسية وحركتها الداخلية.
بيّن (ألكسندر) في الصفحة 30 أنّ الثقافة تحتل موقع الصدارة في التحليل والفهم المقارن وتغدو الركيزة الكبرى في النظم التعليمية الوطنية.
يتطلّب البحث المقارن بين الثقافات قدراً من اليقظة، إذ قد يُواجَه الباحثون بتهم الانزلاق نحو الصور النمطية أو التعامل مع الثقافة على أنّها وحدة صلبة أو المبالغة في أثرها ضمن عالم يضجّ بتفاعلات معقّدة ومؤثرات متشابكة. وقد جاء ردّ (موريس 2005، ص 24) على تساؤلها حول ما إذا كان البريطانيون ينزعون فعلًا إلى الإمبريالية على النحو الآتي:
اتّسم بعض البريطانيين بالنزعة الإمبريالية فيما خلا آخرون منها، وكان ذلك رهناً بالطبقة والعمر والطبع والدين وبأوضاع البلاد وبمصير الاستثمارات وبصحة الجسد وبغيرها من عوامل شتى تجعل فكرة الإجماع الوطني بشأن أي قضية فرضية جوفاء.
استشهد (لي 1996) في فصله من كتاب المتعلّم الصيني بآراء (هو 1986) و(يانغ 1986) التي أكّدت ما يُنسب عادةً إلى الطلاب الصينيين، بل والآسيويين على وجه أعم، من جدّ واجتهاد ودافعية قوية وتقدير رفيع للتعليم. وقد أبلغ كثير من المعلّمين الذين عملوا في مجتمعات وُصفت بما يُعرف على نطاق واسع بـ "ثقافات الإرث الكونفوشيوسي" عن انطباعات مشابهة. غير أنّ التساؤل يظل قائمًا حول مدى صواب هذه التوصيفات، وهل هي سمات حصرية لطلاب تلك الثقافات. وقد نبّه (لي) القرّاء إلى مخاطر التعميم المفرط، كما ذكّر هو و(مانزون) في الفصل التاسع من هذا الكتاب بأنّ "القيم حين تُناقش على نحو جماعي يجب النظر إليها في سياق اختيارات الأفراد لها". وفي كتاب إعادة النظر في المتعلّم الصيني حذّر (تشان) و(راو) بدورهما من مخاطر إقامة "تمييز ثنائي بين الطلاب الصينيين والغربيين" ومن "افتراض تجانس الشعب الصيني" (2009أ، ص 318).
أشار (فالِييارفي 2002، ص 45) في معرض تناوله أداء التلاميذ في فنلندا ضمن دراسة PISA لعام 2000 إلى أنّ العوامل الثقافية شكّلت عنصرًا مؤثرًا، ورأى أنّ من بين مكوّناتها التجانس الثقافي الذي جعل من اليسير نسبيًا في فنلندا التوصّل إلى تفاهم مشترك حول سياسة التعليم الوطنية ووسائل تطوير النظام التعليمي. كما لفت (فالِييارفي) إلى انخراط الطلاب في القراءة وإلى التواصل الثقافي بين الآباء والأبناء، واستشهد بما تحظى به المساواة في فرص التعليم من قيمة ثقافية كبرى في فنلندا.
قدّم (لينناكولا 2002) تفسيرًا آخر للإنجاز البارز الذي حققه تلاميذ فنلندا، إذ استنتج أنّ الأطفال الفنلنديين نشؤوا عبر قرون من التقاليد الثقافية على احترام راسخ لمهارة القراءة. ويُعزى ذلك إلى ما أعقب حركة الإصلاح البروتستانتي في شمال أوروبا (1517–1648)، حين تحدّى (مارتن لوثر) وآخرون الممارسات الكنسية الكاثوليكية السائدة، فأصبح من المألوف بل والضروري أن يقرأ الآباء الكتاب المقدّس لأبنائهم، خلافًا لما كان شائعًا من قصر قراءة الكتاب المقدّس على رجال الدين في التقاليد الكاثوليكية. ومنذ القرن السادس عشر، حين كانت فنلندا جزءًا من السويد، غدت القدرة على القراءة شرطًا لتلقّي الأسرار المقدّسة ولإبرام عقد الزواج المسيحي. وكانت مهارات القراءة عند الأطفال تُختبر علنًا في احتفالات سنوية تُعرف بـ كينكيريت، حيث كان الإخفاق فيها يجلب العار ويحرم صاحبه من الإذن بالزواج (لينناكولا 2002، ص 83–85). ونتيجة لذلك نشأ معظم أطفال فنلندا على مدى قرون في أسر يتمتّع كلا والديها بالقدرة على القراءة والكتابة.
يختلف السؤال الأخير المطروح في مطلع هذا الفصل، حيث استُخدمت الفوارق الثقافية لتبرير تعليم الفصل العنصري، اختلافًا حادًا عن الأمثلة السابقة. ومع أنّ المواقف العنصرية الواضحة في جنوب إفريقيا آنذاك كانت تخدم مصالح النخبة الاقتصادية والسياسية، فإنّ كثيرًا من الباحثين في التربية يعترفون بوجود قدر معتبر من الحقيقة في الأمثلة المستقاة من التجربة الفنلندية ومن ثقافات الإرث الكونفوشيوسي. ومع أنّ التأثيرات الثقافية في التعليم تكاد تُجمع عليها الدراسات، فإنّ معظم الباحثين يحجمون عن الجزم بماهيتها، لأنّها من أعسر ما يمكن فصله عن غيره، وما يُقال عنها يبقى في غالب الأحيان هشّ الأساس، إذ يسهل تضخيم أثر ثقافة معينة أو إساءة تقديره في عالم شديد التشابك والتداخل. والأسوأ أنّ من يتصدّى لوصف أثر الثقافة في التعليم قد يواجه اتهامات بالوقوع في فخ التنميط وربما بالعنصرية. ولهذا يبدو الفارق شاسعًا بين ما حظيت به كتب المتعلّم الصيني (واتكنز وبيغز 1996) وتعليم المتعلّم الصيني (واتكنز وبيغز 2001) وإعادة النظر في المتعلّم الصيني (تشان وراو 2009ب) من تقدير علمي، وما كان سيُستقبل به كتاب بعنوان "المتعلّم الإفريقي الأسود"، إذ تُعَدّ الأعمال الأولى محاولة جادة للكشف عن أسباب التفوق الدراسي الاستثنائي لطلاب ثقافات الإرث الكونفوشيوسي، وهو تفوق لا يخلو من مفارقات بالنظر إلى السياسات التعليمية وأساليب التدريس، في حين لا يتجاوز الثاني كونه استمرارًا للأدبيات التي شُيّدت لتبرير التعليم الاستعماري وتعليم الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وكأنّ المسألة كلها تختزل في "المتعلّم الإفريقي الأسود".
استند المؤلف إلى هذه الاعتبارات ووجّه هذا الفصل إلى مناقشة التحديات الفلسفية والمنهجية التي يواجهها الباحثون عند محاولتهم المقارنة بين التعليم في ثقافات متعددة. وقسّم عرضه إلى قسمين أساسيين؛ أحدهما تناول الأسئلة التاريخية والفلسفية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية المرتبطة بتعريف الثقافة وكيفية فهمها في سياقات مختلفة، والآخر تناول الأسئلة المنهجية المرتبطة بالبحث التربوي عبر الثقافات وما يرافقه من صعوبات. وسعى المؤلف إلى بلورة فهم أكثر تفصيلًا للثقافة مما يظهر في كثير من البحوث التربوية المعاصرة، معتمدًا على أعمال مفكرين بارزين مثل (يوهان هيردر) و(رايموند وليامز) و(روبرت بوكوك) و(ستيوارت هال) و(غيرت هوفستيد) و(زيجمونت باومان). كما عرض القضايا المنهجية في البحث التربوي عبر الثقافات بالرجوع إلى إسهامات كل من (روبرت ليفاين) و(جوزيف توبيـن) و(روبين ألكسندر) و(فاندرا ماسمان).
يتوقف بناء استدلالات متينة في إطار الدراسات المقارنة على أن تتم المقارنة بين كيانات محددة الهوية ومتميزة عن غيرها. فإذا أراد الباحثون أن يستندوا إلى مقارنة بين ثقافتين كي يبلوروا نتائج ذات قوة تفسيرية، وجب عليهم أن يحددوا بوضوح ماهية كل ثقافة وأن يتأكدوا مما يجعلها مختلفة عن الأخرى. فإذا أرادوا أن يطرحوا مثلًا قولًا من قبيل "المتعلمون الصينيون يكنّون دائمًا احترامًا رفيعًا للتعليم"، فإنّ عليهم أن يضعوا في اعتبارهم أنّ مثل هذا القول الحاسم يعني بالضرورة أنّ كل أفراد هذه الجماعة يتميزون بهذه السمة. كما أنّه ينطوي على أنّ هذه السمة تمثل خاصية جوهرية في هوية أفراد الجماعة، بحيث يصبح احترام التعليم شرطًا لازمًا يحدد الانتماء إلى الجماعة التي تُصنَّف باعتبارها "الصينيين".
يسهم الانتباه إلى ضبط المفاهيم والتعريفات في بحوث التربية المقارنة بين الثقافات في إرساء قدر أكبر من الصرامة المنهجية في هذا الميدان، إذ تقوم هذه البحوث في جوهرها على مقارنات تعليمية عبر ثقافات متعددة، وهي مقارنات شائعة ومتكررة في الدراسات التربوية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الدراسات الدولية للتحصيل الدراسي التي أُنجزت برعاية الرابطة الدولية لتقويم التحصيل الدراسي (IEA) وكذلك الدراسات التي يشرف عليها برنامج التقييم الدولي للطلاب (PISA). وغالبًا ما يفضي التحليل الثانوي لنتائج هذه الدراسات إلى سعي معقّد لاستخلاص العوامل الثقافية التي قد ترتبط بمستويات التحصيل، غير أنّ أول منزلق يظهر في هذا السياق يتمثل في الانتقال من الحديث عن الدولة إلى الحديث عن الثقافة، بل وفي الخلط بين مفاهيم الأمة والدولة والثقافة. وهذا الخلط لا يصح علميًا، تمامًا كما أنّ تصوير الثقافة على أنّها كيان واحد متجانس ومنعزل خطأ واضح. وقد أسهمت الصورة المتوارثة عن عالم أنثروبولوجيا يعتمر القبعة الاستوائية ويشق طريقه في الغابات الكثيفة ويعبر الجبال الوعرة ليصل إلى قبيلة نائية معزولة في وديانها ويسجّل ممارساتها وعاداتها، في تكوين تصوّرات مبسّطة عن المقارنة بين الثقافات، ربما بدرجة أكبر مما يُتصوَّر عادة. ولهذا تُثار تساؤلات مشروعة حول مدى صدقية وموثوقية المنظورات الأنثروبولوجية في دراسة التربية عبر الثقافات، ولا سيما تلك المناهج القديمة التي ما زالت تؤثّر في كثير من الدراسات المعاصرة. وفي عالم لم يعد يسمح بوجود عزلة ثقافية كالتي صُوِّرت عن قبائل بورنيو، لم تعد هذه الرؤى الأنثروبولوجية القديمة صالحة لتوجيه البحث المقارن، بل يصبح من الأجدى التوجّه إلى المنظورات السوسيولوجية لمفهوم الثقافة من أجل بناء تصوّر أوسع وأكثر عمقًا يعكس تعددية الثقافات وتشابكها وتداخلها في عالم يتّسم بازدياد التعددية والتنوع والاعتماد المتبادل والاندماج والتعقيد.
يتركّز أول الأسئلة المحورية حول ماهية الثقافة نفسها، إذ يُطرح التساؤل عمّا تشمله طبيعتها، وبأي وسائل يمكن إدراكها والتعرّف عليها، وما النتائج التي تخلّفها في السياقات الاجتماعية والتربوية، وكيف ينعكس تأثيرها في الممارسات والعمليات المختلفة.
اعتبر (رايموند وليامز)، الذي يُعَدّ في طليعة المنظّرين الكبار في ميدان الثقافة كما تشهد على ذلك مؤلفاته الصادرة أعوام 1981 و1982 و1985، أنّ كلمة "ثقافة" تمثل واحدة من أعقد الكلمات في اللغة الإنجليزية، وربما تدخل ضمن أكثر كلمتين أو ثلاث كلمات إثارة للتعقيد (1985، ص 87). وأوضح أنّ هذا التعقيد "ينشأ من سببين متداخلين؛ أولهما التطور التاريخي المركب للكلمة عبر عدد من اللغات الأوروبية، وثانيهما، وهو الأهم، أنّ الكلمة أصبحت تُستعمل للدلالة على مفاهيم رئيسية في مجالات فكرية متمايزة، بل ومتعارضة في كثير من الأحيان، وفي أنساق متعددة من التفكير يصعب التوفيق بينها".
ظهر مصطلح الثقافة في استعمالاته الأولى ليعني "رعاية شيء ما، وبوجه خاص المحاصيل أو الحيوانات" (وليامز 1985، ص 87). وبعد ذلك اتسع معناه عبر الاستعارة ليُستخدم في الإشارة إلى عملية التطور الإنساني، كما في قول (هوبز 1651) "ثقافة عقولهم"، إلا أنّ الكلمة لم تدخل التداول الشائع في اللغة الإنجليزية إلا في منتصف القرن التاسع عشر. ويبيّن (وليامز) أنّ مفهوم "تهذيب الذات" المعروف في تقاليد الإرث الكونفوشيوسي ظل حاضرًا بوصفه قيمة فكرية وأخلاقية، غير أنّ إنجلترا القرن الثامن عشر شهدت تطورًا مغايرًا حين اكتسبت كلمتا "التهذيب" و"المهذَّب" دلالات متصلة بالطبقة الاجتماعية، فتحوّل المفهوم من قيمة أخلاقية عامة إلى علامة على الانتماء الطبقي.
أخذت اللغة الألمانية الكلمة الفرنسية Culture ودوّنتها بصيغة Kultur، وكانت تحمل في دلالتها معنى الدخول في مسار التمدّن والتهذيب أو عملية الارتقاء نحو حالة أكثر تحضّرًا. ويشير (باومان 2011، ص 53)، مستندًا إلى أعمال (فيليب بينيتون)، إلى أنّ فكرة الثقافة في لحظة نشأتها الأولى قد تميّزت بجملة من الخصائص:
يقوم هذا التصور على مسلّمة مفادها أنّ المثال الأسمى للطبيعة الإنسانية يظل واحدًا لا يتغيّر باختلاف الأمم أو الأمكنة أو الأزمنة، وأنّ أوروبا هي التي اكتشفت هذا المثال وصاغت حدوده ورسخته من خلال نماذج الحياة الفردية والجماعية فيها، وهو ما يعبّر عن نزعة أورومركزية تجعل من التجربة الأوروبية مرجعًا وحيدًا لتحديد جوهر الإنسان.
برزت أهمية خاصة لموقف الفيلسوف الألماني (هيردر) في أواخر القرن الثامن عشر لأنه رفض الفكرة التي سادت آنذاك حول وجود مسار موحّد للتطور الإنساني. وقد وجّه نقدًا شديدًا حتى لمجرد التصور بوجود "ثقافة أوروبية متفوقة" (وليامز 1985، ص 89)، ولم يقبل أن تُرفع أوروبا إلى مرتبة النموذج الأعلى، بل انصرف إلى إبراز التمايزات بين الثقافات واختلاف مساراتها. وتمثل إسهامه الأكبر في إدخال مفهوم "الثقافات" بصيغة الجمع، وهو ما اعتبره (وليامز 1985، ص 89) ابتكارًا حاسمًا غيّر مسار التفكير في معنى الثقافة. فقد شدّد (هيردر) على أنّ لكل أمة ثقافة خاصة بها تختلف عن ثقافات الأمم الأخرى، وأنّ كل عصر يطبع ثقافته بطابعه، وأنّ الجماعات الاجتماعية والاقتصادية داخل الأمة الواحدة تمتلك هي الأخرى ثقافات متمايزة. وهكذا لم يعد الحديث ممكنًا عن ثقافة واحدة موحّدة، بل أصبح لا بد من الاعتراف بتعدد الثقافات واختلافها في المكان والزمان. ومن هذا المنطلق برزت أسئلة ملحّة حول إمكان إجراء المقارنة بين هذه الثقافات، وحول الأساليب التي تتيح دراسة الفوارق داخل الثقافة الواحدة نفسها بين طبقاتها وفئاتها المختلفة.
استخدمت الثقافة في أحد معانيها لوصف "عملية عامة من التطور العقلي والروحي والجمالي" (وليامز 1985، ص 87)، غير أنّ العلوم الاجتماعية الحديثة وظّفت هذا المصطلح في سياق آخر ارتبط بخط فكري يبدأ من (هيردر) ويمتد إلى كتاب (كلم) التاريخ الثقافي العام للبشرية (1843–1852) ثم إلى كتاب (تايلور) الثقافة البدائية (1870). وفي هذه المؤلفات ظهرت الثقافة اسمًا مستقلًا، تُستعمل أحيانًا على نحو عام وأحيانًا على نحو محدد، لتشير إلى أسلوب حياة بعينه، سواء أكان أسلوب حياة شعب بعينه أو عصر من العصور أو جماعة اجتماعية أو الإنسانية كلها. وكثيرًا ما استُعملت الكلمة أيضًا للدلالة على "الأعمال والممارسات الفكرية، وبخاصة النشاط الفني: فالثقافة هي الموسيقى والأدب والرسم والنحت والمسرح والسينما" (وليامز 1985، ص 90). غير أنّ هذا الاستعمال الفكري والجمالي ليس موضوع اهتمامنا المباشر هنا، ويكفينا أن نسجّل أنّ الثقافة، حين تعبر بهذه الصيغة عن قيم جماعة بعينها، فإنها تؤدي وظيفة أوضحها (كلكهون 1961)، إذ رأى أنّ الثقافة تستجيب لأسئلة إنسانية جوهرية تتصل بطبيعة النفس البشرية، وبعلاقة الإنسان بالطبيعة، وبعلاقة الإنسان بسائر البشر، وبعلاقة الإنسان بالعمل.
انطلقت معظم المحاولات الرامية إلى تحديد معنى "صحيح" أو "سليم" أو "علمي" لمصطلح الثقافة من اعتماد استعماله في الأنثروبولوجيا الأمريكية الشمالية معيارًا يُقاس عليه. ويُعد هذا الاعتماد أمرًا اعتباطيًا، وتكمن في هذا الاعتباطية بعض الأسباب التي دفعتني إلى الدفاع عن تبنّي المنظورات السوسيولوجية المعاصرة في دراسة التربية مقارنة بين الثقافات، بدلًا من الاقتصار مثلًا على المنظور الأنثروبولوجي الأمريكي الشمالي الذي تبنّته (ماسيمان). وعند السعي إلى بناء فهم لمفهوم الثقافة لأغراض المقارنة، يكتسب معنى خاصًا ما أشار إليه (وليامز 1985، ص 91) بقوله:
ركّزت الإشارة إلى الثقافة في علم الآثار والأنثروبولوجيا الثقافية على الإنتاج المادي، بينما ركّزت في التاريخ والدراسات الثقافية على النظم التي تُعنى بالمعنى والرمز.
تقتضي المقارنة بين النظم التعليمية في الثقافات المتعددة تناول جانبي الإنتاج المادي والنظم الرمزية في آن واحد. ويُعد المنهج الدراسي نموذجًا واضحًا يجمع بين البعد المادي والبعد الرمزي، وينطبق الأمر كذلك على السياسات التعليمية والمواد التعليمية التي تُستعمل في الممارسة التربوية.
خصّت الأنثروبولوجيا الرمزية اهتمامها الأساسي بالنظم الدلالية كما هو واضح في حقل الدراسات الثقافية، بخلاف الأنثروبولوجيا الثقافية التي ارتبطت بالإنتاج المادي. ويبرز كتاب (واجنر 1981) اختراع الثقافة بوصفه نصًا تأسيسيًا في هذا الاتجاه، إذ دعا إلى تجاوز النظرة التي ترى في الثقافة كيانًا ثابتًا يُحدّد حياة الأفراد، وأكّد على ضرورة النظر إليها كعملية جدلية دينامية ينخرط فيها الناس ضمن بيئاتهم الاجتماعية، ويشاركون في صياغة الثقافة عبر إعادة استخدام الرموز السائدة بطرائق جديدة تولّد معاني مختلفة. وتتضح هذه الجدلية في تنوّع الألفاظ التي استُخدمت عبر الأزمنة للدلالة على المتعلم، إذ قيل تلميذ أو صبي مدرسة أو فتاة مدرسة، وقيل متدرّب أو متعلم بالممارسة، كما استُعملت أوصاف أخرى مثل تابع أو مريد، واستُخدمت ألقاب أكاديمية مثل باحث أو ناقد أو طالب، بل ظهر في العصر الحديث تعبير متعلم مدى الحياة. وكل لفظ من هذه الألفاظ يرتبط بمنظومة قيم محددة ويمنح المتعلم دورًا مختلفًا تبعًا لتغير التصورات الثقافية عبر السياقات التاريخية والاجتماعية. ويعني ذلك أنّ الناس الذين يشتركون في ثقافة معينة هم الذين يصوغون هذه الرموز، ويضفون عليها معاني تتباين فيما بينهم، فتتجلّى الثقافة لا كيانًا مغلقًا بسمات ثابتة، بل قوة منتجة تتشكّل من تجمع واسع وغير متماسك تمامًا من العوامل المتداخلة التي تمارس تأثيرها على الأفراد وفي الوقت نفسه تتأثر بهم.
قاد هذا العرض إلى استخلاص تعريفين للثقافة يُنظر إليهما باعتبارهما الأكثر أهمية في اهتمامات علماء الاجتماع. فجاء التعريف الأول في إطار الأنثروبولوجيا، وهو التعريف الذي يشير إلى "أسلوب حياة مميز، سواء ارتبط بشعب من الشعوب أو بفترة تاريخية محددة أو بجماعة اجتماعية أو بالإنسانية جمعاء" (وليامز 1985، ص 90). ويحتوي هذا الأسلوب على القيم والمعاني التي يشترك فيها أعضاء الجماعة ويعبّرون من خلالها عن هويتهم. ووفقًا لرؤية (كيسنغ) فإنّ الثقافة "ترتبط بالأفعال والأفكار والمنتجات المادية التي يتعلّمها الأفراد في التقاليد التي ينتمون إليها، ويتبادلونها فيما بينهم، ويولونها التقدير" (1960، ص 25). وانطلاقًا من هذا الإطار، بنت (ماسيمان) مقاربتها الأنثروبولوجية للثقافة (2013، ص 114) على افتراض أساسه أنّ:
تمتد دلالة الثقافة لتشمل جميع جوانب الحياة الإنسانية، إذ تتضمن الأبعاد الذهنية التي تتجلى في طرائق التفكير والقيم، والأبعاد الاجتماعية التي تتمثل في أشكال العلاقات داخل الأسرة ومع المؤسسات الكبرى، والأبعاد اللغوية التي تتجسد في اللغات المنطوقة والمكتوبة، فضلًا عن الأبعاد المادية التي تظهر في جسد الإنسان وفي البيئة التي يعيش فيها. وتشمل الثقافة كذلك الرموز التي يتقاسمها الناس، مثل أشكال التعبير الكتابي أو الفني من موسيقى ورسم ونحت، كما تمتد إلى علاقة الأفراد بمحيطهم الطبيعي، وإلى التقنيات التي يبتكرها المجتمع ويعتمد عليها في تنظيم حياته.
انبثق التعريف الثاني للثقافة عن التوجه الأنثروبولوجي، غير أنّه لم يقف عند حدود الإشارة إلى المعاني المشتركة داخل الجماعات، بل ذهب أبعد من ذلك حين ركّز على "البعد الرمزي، وعلى ما تؤديه الثقافة من وظائف أكثر مما تُعرَّف به من ماهيات" (بوكوك 1992، ص 232). وفي الدراسات الثقافية بوجه خاص، تبرز الثقافة ليس بوصفها مجرد أسلوب حياة مميز يرتبط بالآثار المادية التي تُعرّف شعبًا أو فترة أو جماعة، بل بوصفها "نسقًا من الممارسات التي يتم من خلالها إنتاج المعاني وتبادلها داخل الجماعة" (بوكوك 1992، ص 233). وتقوم اللغة في قلب هذا النسق، لأنها تتيح من خلال نظامها المشترك إمكان التواصل الدالّ بين الأفراد. ويُفهم مصطلح اللغة هنا فهمًا موسعًا، إذ يشمل كل أنظمة العلامات والرموز التي تُنتج المعنى وتحوّله إلى وسيلة للتعبير: "فأي نظام للتواصل يستند إلى العلامات في الإشارة إلى الأشياء في العالم الواقعي يُعد عملية رمزية تتيح لنا أن نتخاطب تخاطبًا ذا معنى حول العالم" (بوكوك 1992، ص 233).
تُدرَك أنظمة العلامات والرموز عادةً في صورة الكلمات التي تتألف منها اللغة، غير أنّها تمتد أيضًا لتشمل الأشياء المادية. ويظهر الفارق بين المقاربة الرمزية للثقافة والمقاربة الأنثروبولوجية لها في الكيفية التي تُفسَّر بها الأهمية الكامنة وراء الشيء المادي. ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك الزي المدرسي الذي يُلزم به بعض الأطفال، أو الملابس التي يختارها التلاميذ حين يكونون في غياب إلزام بالزي الموحّد، بما تحمله أو لا تحمله من شعارات العلامات التجارية، إذ تتحول هذه الأزياء في حد ذاتها إلى علامات رمزية تنقل معاني وتُجسّد مضامين ثقافية.
تقدّم الأنثروبولوجيا الثقافية تعريفًا للثقافة باعتبارها "المعاني المشتركة وأنماط العيش التي تجمع الناس"، في حين تقدّم الدراسات الثقافية والفروع المرتبطة بها تعريفًا مغايرًا يركّز على أنّ الثقافة هي "الممارسات التي يُنتج من خلالها المعنى" (بوكوك 1992، ص 234). ويكشف التأمل في هذين التعريفين أنّهما ليسا متناقضين بقدر ما يختلفان في مجال التركيز؛ فالأول يولي عناية بالمحتويات الجوهرية للثقافة بوصفها أسلوب حياة متكامل يعكس قيماً ومعاني مشتركة، بينما يوجّه الثاني اهتمامه إلى الإجراءات والممارسات التي تتيح إنتاج هذه المعاني وتبادلها داخل الجماعة. ولهذا يتجه التحليل الثقافي الذي يميز الاتجاه الثاني إلى البحث عن طرائق إنتاج الدلالة عبر "ترتيب الحدث وبنيته الرمزية ونموذجه المنظم" (بوكوك 1992، ص 235)، الأمر الذي صاغ مفهوم البنيوية بوصفه إطارًا نظريًا يفسر كيفية توليد المعنى.
يظهر في المجتمعات الحديثة أنّ أبرز أشكال التعبير عن الهوية الثقافية يتمثل في الثقافة الوطنية، بينما كانت الهوية في المجتمعات ما قبل الحديثة تُصاغ في إطار الانتماء إلى قبيلة أو دين أو إقليم جغرافي. غير أنّ بروز الدولة القومية باعتبارها الكيان السياسي المهيمن في الحداثة أدى إلى تراجع تلك الأشكال من الانتماءات التقليدية وصعود هوية وطنية جامعة تستمد شرعيتها من فكرة الثقافة الوطنية. ولهذا السبب كثيرًا ما جرى الخلط بين مفهومي الأمة والثقافة في البحوث المقارنة في التربية، إذ حاول الباحثون أن يفسروا عبر هذا الدمج ما إذا كانت عوامل ثقافية محددة قد ساعدت مثلًا في تفسير نجاح فنلندا المتكرر في نتائج البرنامج الدولي لتقويم الطلبة (PISA). وبذلك يتجه النقاش إلى السؤال الجوهري المتعلق بدلالة مفهوم الثقافة الوطنية.
أتابع هنا طرح (هول) (1994، ص 292) الذي عرّف الثقافة الوطنية بأنها خطاب بالمعنى الواسع للكلمة، أي "طريقة في تشييد المعاني تؤثر في سلوك الأفراد وتعيد تنظيم تصوراتهم لأنفسهم". ويرى (أندرسون) (1983) أنّ الهوية الوطنية لا تتجاوز كونها "مجتمعًا متخيَّلًا". غير أنّ هذا التصور لا ينفي مطلقًا النتائج الواقعية المترتبة على الهوية الوطنية والثقافة، بل يسلّط الضوء على ضرورة أن يتأمل الباحثون في التربية المقارنة، قبل الشروع في إجراء المقارنات بين الثقافات، ليس فقط طرائق تمثيل خطاب الثقافة الوطنية، وإنما أيضًا القوة التي تمتلكها هذه التمثيلات في استقطاب الولاء الوطني وفي إعادة تعريف الهوية الثقافية ضمن حدود الدولة القومية.
انصبّ التركيز في هذه المناقشة على مفهوم الثقافة الوطنية والهوية الوطنية لما حظي به من عناية خاصة لدى الباحثين في ميدان التربية المقارنة. وإذا كان الواقع المعاصر يكشف عن وجود هويات ثقافية متعددة تتداخل في تشكيل الأفراد والجماعات، فإنّ مسار العولمة وما يرتبط به من تحولات اجتماعية وثقافية قد قلّل من مركزية الهوية الثقافية الوطنية وجعلها تندرج ضمن مجموعة واسعة من الخطابات الثقافية التي تصوغ الفرد في سياق الحداثة المتأخرة. ومع ذلك تظل الهوية الوطنية، رغم هذا التراجع النسبي، إحدى أكثر هذه الخطابات قوة ونفوذًا في المجتمعات الحديثة، بما تملكه من قدرة على حشد الانتماء وتوجيه الوعي الجمعي.
ما هي إذن الهوية الثقافية الوطنية؟ لقد أشار (هول) (1994، ص 292–293) إلى أنّ:
لا تُعد الهوية الوطنية معطًى طبيعيًا يولد به الإنسان، وإنما هي بناء اجتماعي وثقافي يتشكل عبر عمليات التمثيل ويتغير تبعًا لها. وما نملكه من تصور حول معنى "الإنجليزية" إنما يرجع إلى الطريقة التي أعادت بها الثقافة الوطنية الإنجليزية إنتاج "الإنجليزية" في صورة منظومة من المعاني التي تحدد ماهيتها. وهنا تبرز الأمة باعتبارها كيانًا سياسيًا يستند إلى الحدود والمؤسسات، وتعمل في الوقت نفسه على إنتاج الدلالة وإرساء نظام من التمثيلات الثقافية. فالانتماء إلى الأمة لا يتحدد من خلال المواطنة القانونية وحدها، بل من خلال المشاركة في فكرة الأمة كما تُجسَّد داخل خطاب ثقافتها الوطنية. وتبني الثقافة الوطنية الهوية عن طريق توليد معانٍ متصلة بـ"الأمة" يجد الأفراد فيها مجالًا للتماهي والانتماء، وهذه المعاني تتجلى في السرديات التي تُحكى عنها، وفي الذكريات التي تربط حاضرها بتاريخها، وفي الصور التي تُبتكر لها لتمنحها حضورًا رمزيًا متجددًا.
انبثقت الثقافة الوطنية في سياق نشوء الحداثة وأسهمت في بلورة ملامحها، إذ أخذت تعمل تدريجيًا على إزاحة خطابات الهوية التي سادت في العصور السابقة مثل الانتماءات القبلية والإثنية والدينية والإقليمية، وإن لم تُلغها بصورة كاملة. وتعاظم حضور خطابات الثقافة الوطنية مع ترسيخ الدولة القومية للغة مشتركة، وإنشاء نظام تعليمي وطني هدفه ضمان شمولية التعليم ونشر مهارات القراءة والكتابة في تلك اللغة التي أصبحت تُعَد لغة الأمة. وساهمت في تعزيز هذا الحضور أيضًا المتاحف والمسارح والفنون الأدائية، والرموز المعمارية الكبرى مثل القصور والقلاع والمباني البرلمانية التي جسدت سيادة الدولة وهيبتها، ثم جاء العصر اللاحق ليضيف إلى هذا المشهد الفرق الرياضية الوطنية والعلامات التجارية التي جرى تسويقها بهويات وطنية، الأمر الذي منح الثقافة الوطنية امتدادًا في الحياة اليومية والفضاء العام.
من أين تنبثق التمثيلات التي تُنشئ خطاب الثقافة الوطنية وتعبر عنه؟ قد تُشيَّد سردية الثقافة الوطنية من خلال "الاحتكام إلى جذور مشتركة وروح واحدة" (باومان 2011، ص 73) يتجسد فيها:
السرديات التي تُحكى وتُعاد حكايتها عن الأمة في كتب التاريخ الوطني وآدابه ووسائل إعلامه وثقافته الشعبية، وهي السرديات التي تُقدّم مجموعة من القصص والصور والمشاهد الطبيعية والسيناريوهات والأحداث التاريخية والرموز الوطنية والطقوس التي تمثل الخبرات المشتركة للأمة من آلام وانتصارات وكوارث، فتمنح الأمة معناها، وهي ذاتها التي تنسج الخيوط التي تربطنا على نحو غير مرئي بماضينا (هول 1994، ص 293؛ شفارتس 1986، ص 155).
إبراز مفهوم "الأصول والاستمرارية والتقليد والخلود" (هول 1994، ص 294)، بحيث تُصوَّر الهوية الوطنية كأنها كيان بدئي مترسخ "في طبيعة الأشياء نفسها" (غيلنر 1983، ص 48).
مفهوم "اختراع التقليد"، حيث أشار (هوبزباوم) و(رانجر) (1983، ص 1) إلى أنّ كثيرًا من التقاليد التي تُقدَّم على أنها عريقة أو تُظهِر نفسها كذلك إنما نشأت في فترات حديثة، وبعضها اختُلق اختلاقًا.
بناء "أسطورة تأسيسية" تحدد نشأة الأمة والشعب وطباعهم القومية في مرحلة موغلة في القدم بحيث تضيع معالمها في ضباب زمن أسطوري لا ينتمي إلى التاريخ الواقعي (هول 1994، ص 295؛ هوبزباوم ورانجر 1983، ص 1).
إسناد الهوية الوطنية إلى مرتكز رمزي يقوم على تصور "شعب نقي في أصله وأصيل في جذوره" (هول 1994، ص 295؛ غيلنر 1983، ص 61).
أردتُ من الاستعانة بآراء هؤلاء المفكرين أن أبيّن أنّ الهوية الثقافية الوطنية ليست حقيقة طبيعية راسخة بقدر ما هي بناء اجتماعي وخطابي، وأنّها لا تقوم على مرتكزات مادية صلبة بقدر ما تتشكل عبر التمثيلات والدلالات، وذلك بهدف تحذير الباحثين في ميدان التربية المقارنة من هشاشة الأسس التي تُقدَّم على أنها دعائم للهوية الثقافية ومن طابعها الاعتباطي. وإذا كان البحث المقارن يقتضي في خطوته الأولى عزل الكيانات موضع المقارنة وتعريفها تعريفًا دقيقًا، فإنّ الواقع يكشف أنّ الثقافة من أكثر "الوحدات" استعصاءً على التحديد وأشدها صعوبة في الوصف والتحليل الإجرائي. صحيح أنّ الهوية الثقافية بالغة الأهمية وتترك آثارًا حقيقية في حياة الأفراد والمجتمعات، لكن إرجاع الدلالة الكامنة في هذه الآثار إلى مصدر محدد في الثقافة يظل أمرًا بالغ التعقيد ويثير إشكالات معرفية ومنهجية كبرى.
تتجاوز الأسئلة المتعلقة بالطابع الاعتباطي في بناء تاريخ الهوية الثقافية الوطنية إشكالية أخرى، وهي ما إذا كانت الهويات الوطنية فعلًا موحّدة ومنسجمة ومتسقة ومتجانسة بالقدر الذي تصوّره تمثيلات "الثقافة الوطنية". والإجابة بوضوح أنها ليست كذلك. فقد أشار (هول) (1994، ص 297) إلى أنّ "الأمم الحديثة جميعها كيانات ثقافية هجينة". ولا غرابة في ذلك، إذ إنّ معظم الأمم الحديثة نشأت نتيجة إخضاع مجموعة أو أكثر بالقوة لمجموعة أخرى. وقد ذكّر (غيلنر) (1983) بأنّ أوروبا في بدايات القرن التاسع عشر ضمّت طيفًا واسعًا من الجماعات العرقية والدينية واللغوية، لكن القليل منها فقط هو الذي تحوّل إلى "أمم"، في حين جرى تحويل غيرها من الطامحين إلى منزلة الأمة إلى أقليات عرقية، وغيرهم من الطامحين إلى شرف اللغة الوطنية الرسمية إلى لهجات، وغيرهم من الطامحين إلى مرتبة الكنيسة الوطنية إلى مجرد طوائف (باومان 2011، ص 72).
كثيرًا ما تُنشأ الهوية الثقافية الوطنية على أساس وهمي يقوم على فكرة العرق، إذ يُوضَع المختلفون في جماعات عرقية متباينة ويُشار إليهم بوصفهم آخرين. وتتسم الهوية الوطنية أيضًا بطابع جندري صارم يستبعد النساء ضمن منظومة معاييرها الأبوية. وتشكّل الطبقة عامل انقسام قوي، حيث يُرفع الرأسمال الثقافي للنخب ليصبح هو النموذج المهيمن الذي ينبغي على الجميع احتذاؤه. وينتج عن تعميم معايير النخب باعتبارها "الهوية الثقافية الوطنية" ما وصفه (بورديو) بـ"العنف الرمزي"، إذ تتحول تمثيلات الهوية الثقافية الخاصة بالفئات الأخرى إلى مجرد "نزعات محلية ضيقة أو انحرافات إقليمية" (باومان 2011، ص 73). كما ترسم الفروق القائمة في اللغة والموقع الجغرافي والدين والتقاليد والعادات حدودًا جديدة للتمايز والإقصاء. ويتمثل هدف جوهري في مشروع بناء الأمة، وفقًا لـ(باومان)، في "تجريد الآخرين من صفتهم كآخرين" (2011، ص 75). وتنهض الأسطورة الوطنية بمهمة جمع الهويات المتعددة والجماعات المحلية المكوِّنة للدولة القومية، والسعي إلى "توحيد الثقافة مع السياسة" تحت "مظلة سياسية واحدة" (غيلنر 1983، ص 43)، وإخفاء الانقسامات التي تفصل بين من يندرجون في ما أسماه (أندرسون) "المجتمع المتخيَّل" وبين من يظلون خارجه. ومن هنا يبدو التجرؤ على مقارنة المقاربات الثقافية للتعلم في جنوب إفريقيا ونيجيريا أو إندونيسيا أو الصين عملًا محفوفًا بالتحدي.
أوضحتُ في ما سبق أنّ ما يُسمى "الثقافة الوطنية" ليس إلا بناءً اعتباطيًا تُضفى عليه طابع الأسطورة أكثر مما يقوم على مرتكزات واقعية، وأنه لم ينجح في حجب الانقسامات الاجتماعية العميقة والمتداخلة. غير أنّ مسار العولمة أضفى على هذا الوضع مزيدًا من التعقيد، وهو ما يدفعني الآن إلى بحث الآثار التي تركتها العولمة وعملياتها المتشابكة على الهوية الثقافية الوطنية. فبمجاز جيولوجي متداخل، يمكن القول إنّ العولمة قد أعادت تشكيل ما كان قد تراكم في صورة طبقات رسوبية مستقرة أُعيد إنتاجها على أنها حقائق مسلّم بها حول الهوية الوطنية. وإنّ الطبيعة الهجينة للدولة القومية الحديثة، التي جرى التغطية عليها بخطاب التجانس الوهمي في أساطير الثقافة الوطنية، قد ازدادت وضوحًا بفعل العولمة حتى وصلت إلى حد يكاد يزيح الثقافة الوطنية ذاتها لصالح أنماط أخرى من الانتماء. ويتضح ذلك خصوصًا في ظاهرة الهجرة الجماعية غير المخطط لها، الناجمة عن الفجوة المتفاقمة بين عالم الأغنياء وعالم الفقراء، والتي تُعَد من أبرز نتائج العولمة وأكثرها قسوة، حيث اتجهت أعداد كبيرة من شعوب البلدان المستعمَرة سابقًا في العالم النامي إلى بلدان العالم المتقدم، وغالبًا إلى القوى الاستعمارية السابقة ذاتها. وإذا كانت الهوية الثقافية الوطنية قد بُنيت على فكرة الانتماء إلى مجتمع متخيَّل قائم على الإحساس بالمكان المشترك والسردية التاريخية والرموز التي تُصاغ خطابيا، فإنّ العولمة تُنتج في المقابل أشكالًا من الهوية أكثر كونية وتحررًا من الجغرافيا.
يرى (واترز 1995، ص 3) أنّ العولمة تُفهم باعتبارها "عملية اجتماعية تتلاشى فيها القيود التي تفرضها الجغرافيا على الأنماط الاجتماعية والثقافية، ويزداد إدراك البشر لهذا التلاشي مع مرور الزمن". وقد طوّر (ديلانتي 2000، ص 81) هذه الرؤية حين وصفها بأنها انحسار الأهمية التي تضطلع بها الجغرافيا في تحديد طبيعة التفاعلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، أي إعادة صياغة لمفهوم الفضاء، أو بعبارة أوضح "إزالة الطابع الإقليمي عن الفضاء". وبهذا المعنى، باتت الثقافات والحضارات أكثر انفتاحًا بعضها على بعض، وأكثر عرضة للتقاطع والتأثير المتبادل، بحيث يمكن أن تنشأ بينها حالات صدام، أو عمليات اندماج، أو أشكال هجينة جديدة، وربما ملامح ثقافة كونية، وكل ذلك يترك آثاره بالتساوي على المستويات المحلية المحدودة وعلى المستويات الكونية الشاملة، نتيجة تقلص الحدود المكانية. ومع ذلك، لا يمكن القول إنّ العولمة تقود بالضرورة إلى قيام مجتمع عالمي متجانس أو إلى بروز ثقافة واحدة مشتركة بين الجميع، اللهم إلا ما يتمثل في سيطرة منطق السوق وتوجهاته نحو النخب العابرة للحدود، باعتبار ذلك من أبرز انعكاسات عولمة الرأسمالية. وتشير مجموعة واسعة من الدراسات إلى أنّ العولمة تمثل مسارًا مزدوجًا، فهي تنتج في الوقت ذاته أشكالًا متزايدة من التنوع والانقسام، إلى جانب تعزيزها أشكالًا من التشابه والتجانس.
تبدو النزعات نحو التعددية والتجزؤ ماثلة في مظاهر شتى، من أبرزها رفض تنظيم القاعدة لمجتمع الاستهلاك الغربي وما يحمله من قيم ثقافية، وإصراره في المقابل على تأكيد الهوية والثقافة الإسلامية. كما تتبدّى هذه النزعات بوضوح في عودة التعبيرات القومية بقوة إلى الواجهة في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية منذ أواخر عقد الثمانينيات، حيث مثّلت القوميات الإستونية واللاتفية والجورجية والكازاخية والأوزبكية والطاجيكية نماذج حية أسهمت في تفكك الاتحاد السوفيتي، بينما أسهمت النزعات القومية السلوفينية والكرواتية والبوسنية والصربية في تفكك يوغوسلافيا. إنّ هذه الصراعات على إعادة فرض هوية ثقافية قومية لم تكن سوى محاولة للبحث عن إرث يُفترض أنّه "نقي إثنيًا" وفُقد عبر التاريخ، وقد وجدت تلك المحاولة تجسيدها الأكثر إيجازًا ورعبًا في المصطلح الذي ارتبط ارتباطًا وثيقًا بحروب البلقان الأخيرة: "التطهير العرقي". وهو ما صاغه (باومان 1990، ص 167) بأوجز العبارات وأكثرها دلالة:
إنّ ما يُعرف بعودة الإثنية قد وضع في الواجهة مظاهر الازدهار غير المتوقع للولاءات العرقية داخل الأقليات الوطنية، حتى غدت الإثنية إحدى العلامات أو الرموز التي تُبنى حولها الجماعات البشرية، ويُعاد في ضوئها تشكيل الهويات الفردية وتأكيدها.
تتجلّى مظاهر تجانس الثقافة في أوضح صورها داخل ثقافة الاستهلاك. فقد اتجه الشباب في معظم المجتمعات إلى صياغة هويتهم، أو جزء جوهري منها، من خلال ما يرتبط بالمراكز التجارية وما يرمز إليه ارتداء الجينز والقمصان الغربية الطابع واقتناء أحذية "نايكي" الرياضية والتردّد على مقاهي "ستاربكس" وغيرها من مظاهر العولمة الاستهلاكية. ويعيش الإنسان المعاصر في مجتمع استهلاكي، حيث تُفهم الثقافة وفق تعبير (باومان 2011، ص 14) بوصفها مستودعًا من السلع المعدّة للاستهلاك. وأسهمت نزعة تحويل كل ما يمكن إعادة إنتاجه أو تغليفه أو تسويقه إلى سلعة تُضاف إليها قيمة ربحية، فيما يُعرف بعملية التسليع، في تكريس هذا النمط من التجانس الثقافي. وهكذا أضحت الهوية محكومة بمنطق الاستهلاك، ومُعرَّفة بالخيارات التي تُمارس في فضاءات السوق، ولا سيما في المراكز التجارية، وهو ما لخّصه (هول 1994، ص 303) بعبارة جامعة:
كلما ازدادت هيمنة تسويق أنماط العيش والأمكنة والصور على المستوى العالمي، وتوسعت حركة السفر الدولي، وتشابكت وسائط الإعلام والاتصال العابرة للقارات، انفصلت الهويات أكثر فأكثر عن الأزمنة والأمكنة والوقائع التاريخية والتقاليد التي نشأت فيها، حتى بدت وكأنها هويات طافية حرة من أي جذور. ويجد الإنسان نفسه أمام طيف واسع من الهويات المتنوعة التي تستميله، أو بالأحرى تستميل جوانب مختلفة من ذاته، بحيث يبدو وكأنّ الاختيار بينها أمر ممكن. وقد أسهم انتشار النزعة الاستهلاكية، واقعًا كان أو حلمًا، في تكريس هذا الأثر الذي يشبه "سوق التنوع الثقافي".
ومع ذلك تبقى نتائج العولمة غير متكافئة التوزيع بين مختلف الدول والمجتمعات. ويؤكد أنصار المقاربة الأنثروبولوجية للثقافة أنّ ثقافات الاستهلاك الوافدة من الولايات المتحدة واليابان تمارس تأثيرًا قويًا في أماكن مثل المكسيك وهونغ كونغ، في حين يظل أثرها محدودًا في بلدان مثل بوتان وميانمار. وباستخدام المفاهيم التي صاغها (والرشتاين 1974)، يمكن القول إنّ الإنتاج الثقافي للمركز الغربي – الذي يضم بطبيعة الحال الرأسمال الثقافي الياباني – يهيمن على إنتاج الأطراف. وفي فضاء المركز تتاح إمكانية الاختيار بين أشكال متعددة من الهويات الكوزموبوليتية أو الهويات الهجينة الخاصة، بينما تبقى هذه الإمكانية بعيدة المنال في الأطراف.
تنبثق من ظاهرة العولمة ثلاثة مسارات رئيسة تهم موضوع هذا الفصل: المسار الأول يتمثل في تزايد هشاشة الهويات الثقافية الوطنية إلى حد غير مسبوق، والمسار الثاني يتمثل في صعود الهويات المحلية والجزئية التي تستمد قوتها من مناهضة آليات العولمة ومقاومة آثارها، أما المسار الثالث فيتجلى في بروز هويات هجينة جديدة أخذت تحظى بوضوح أكبر على حساب الهويات الوطنية. وقد ذهب (باومان 2011، ص 35 و37) إلى أنّ عصرنا هو "عصر الشتات"، حيث تتوزع البشرية على أرخبيل غير متناهٍ من التجمعات الإثنية والدينية واللغوية، وتتجه أنماط الحياة في مسارات شتى لا يربطها تنسيق أو انتظام، فتظل في حالة تيه أو تعليق داخل فضاء يتخلله تداخل ثقافي دائم. ومن هذا المنطلق يصف (باومان 2011، ص 11 و87) ما أطلق عليه بعض الباحثين "ما بعد الحداثة" أو "الحداثة المتأخرة" ﺑ"الحداثة السائلة"، إذ إنّ "الحياة الاجتماعية في صورها المعاصرة تشبه السائل، فهي لا تحتفظ بشكل واحد مدة طويلة" (ص 11). والخلاصة أنّ التعريف الأنثروبولوجي للثقافة يصبح موضع شك منهجي، ولا يكاد يصلح إلا عند الحديث عن المجتمعات الأكثر تجانسًا وعزلة، وهي إن وُجدت في الماضي، فوجودها في الحاضر يكاد يكون مستحيلًا. ولذلك فإنّ المقاربات الأكثر وجاهة في بحوث التربية المقارنة هي تلك التي تنطلق من الدراسات الثقافية والفهم السوسيولوجي للثقافة، أكثر من اعتمادها على التصورات الأنثروبولوجية الكلاسيكية. ومع ذلك أجدني مضطرًا إلى استعمال مصطلح "ثقافة" فيما يلي من الصفحات، على الرغم من كل ما أشرت إليه من محدودية دلالته، لأنّ غياب بديل عربي جامع ودقيق يحول دون تجاوزه، وعلى القارئ أن يضع في اعتباره أنّ الكلمة ينبغي أن تُفهم دائمًا بين علامتي اقتباس دلاليتين بوصفها "ثقافة".
ينصرف السؤال الثاني الجوهري إلى الكيفية التي يتعيّن على الباحثين اعتمادها عند الانخراط في دراسة مقارنة للتربية بين ثقافات متباينة. فالمسألة تتجاوز حدود الرغبة في المقارنة لتطرح تحديًا معرفيًا ومنهجيًا يتمثل في كيفية الكشف عن الأثر الذي تمارسه الثقافة داخل مؤسسات التعليم وتنظيماته وممارساته، ثم التمكّن من عزله وتحليله على نحو يسمح بفهم طبيعته ومدى تأثيره. ومن ثم يصبح ممكنًا وضع هذه النتائج في سياق مقارن مع النظم التربوية في مجتمعات أخرى، بما يفتح المجال لتكوين رؤية أوضح حول مواضع الالتقاء والاختلاف بين التجارب التربوية عالميًا.
تواجه البحوث المقارنة في المؤسسات والممارسات التربوية عبر الثقافات الإشكالية نفسها التي كثيرًا ما تعترض الباحثين في الدراسات الإثنوغرافية، وهي إشكالية السياق. فحين يسعى باحثو التربية المقارنة إلى تحديد أثر الثقافة في التربية، يتضح أنّ جوهر المعضلة، كما جرى التلميح إليه في معظم أجزاء هذا الفصل، يكمن في السياق نفسه: ما هو الإطار الثقافي الذي يُنتج المؤسسات والممارسات التربوية موضع الدراسة؟ وقد طرح (هامرزلي 2006، ص 6) سؤالين يُعدّان من المسائل الجوهرية في نظر الإثنوغرافيين:
* بأي طريقة نستطيع تبيّن الإطار العام الذي يلزم أن نضع ضمنه موضوع الدراسة؟
* بأي سبيل نستطيع الحصول على الفهم المطلوب لذلك الإطار؟
* هل يمكن حصر هذا السياق الأوسع في الإطار الثقافي المحلي؟ لقد دلّت شواهدي على ضيق هذا التصوّر وعجزه عن تفسير الديناميات القائمة، وهل يمكن عزل السياق في الإطار الثقافي الوطني؟ لقد أشرتُ إلى أنّ هذا أمر متعذّر، بفعل ما تقوم به العولمة من تقويض للهويات الوطنية وتعزيز للهويات الهجينة، ومع ذلك فإن الاكتفاء بالحديث عن "السياق الثقافي المعولم" يؤدّي إلى إغفال ما اكتسبته الهويات المحلية والخصوصية من قوة متزايدة في مقاومة ضغوط العولمة، ويعني كذلك التراجع عن السعي للكشف عن الحقائق المتعلقة بأثر الثقافة في التربية، وهو أثر ظاهر للعيان ومصدر لإضاءات معرفية مثيرة للاهتمام.
أثار (هامرزلي 2006، ص 6) في معرض إجابته عن سؤاله الأول سؤالًا إضافيًا يتّصل اتصالًا مباشرًا بالهدف الرئيس الذي سعيت من خلال هذا الفصل إلى تحليله وتفكيكه، وهو السؤال عن طبيعة السياق: هل يُكتشف السياق اكتشافًا أم يُبنى بناءً؟ وإذا كان يُبنى، فمن الذي يتولى عملية البناء: هل هم المشاركون في الممارسة الاجتماعية أم الباحث الذي يحاول قراءتها؟ وقد بيّنت أنّ الثقافة أو السياق الثقافي لا ينبغي أن تُفهم من خلال ماهيتها الجامدة، بل من خلال أفعالها وما تتركه من آثار واقعية، وأنّ العلاقة بينها وبين الأفراد علاقة تبادلية، فهي تؤثر فيهم بقدر ما يعيدون هم تشكيلها. ولفت (هامرزلي) إلى وجود اتجاه إثنوغرافي يرى أنّ السياق يتولّد من الممارسات التي يقوم بها الناس أنفسهم، وأنّ مهمة الباحث تنحصر في اكتشافه وتوثيقه في ضوء ما يتجسد داخل عمليات التفاعل الاجتماعي التي يخوضها المشاركون. ويرى أنصار هذا التوجّه أنّ فرض الباحث لأطره النظرية على المعاني الثقافية التي ينتجها الناس يُعد شكلاً من أشكال العنف الرمزي الذي يشوّه دلالة تلك المعاني. غير أنّ (هامرزلي، ص 6) عاد ليطرح سؤالين إضافيين أكثر عمقًا: هل يعبّر الناس فعلًا وبشكل صريح عن السياق الذي يتصوّرون أنّهم يتحركون في إطاره؟ وهل يجوز أن نفترض أنّ لديهم وعيًا كافيًا بالسياق الأمثل الذي يمكن أن تُفهم فيه أفعالهم وأنشطتهم بما يخدم أغراض التفسير في العلوم الاجتماعية؟
عالج (هامرزلي 2006، ص 6–7) في إطار سؤاله الثاني المتصل بسبل حصول الباحثين على المعرفة التي تمكّنهم من إدراك السياق الأوسع قضية جوهرية تتعلق بموقع البحث الإثنوغرافي بين النظريات الاجتماعية والبحوث الأخرى، فتساءل عمّا إذا كان الأنسب أن يُبنى هذا النمط من البحوث على ما تراكم من نظريات اجتماعية قائمة، أم أن يُدمج ضمن مقاربات أخرى من البحوث في العلوم الاجتماعية تتوافر لها أدوات أنسب لدراسة البنى المؤسسية الكاملة والمجتمعات الوطنية والقوى العالمية، محذرًا من أنّ هذا المسار قد يفضي إلى تضييق مجال إنتاج نظريات راسخة في الواقع الميداني وقائمة على المعايشة المباشرة. وقد أوضحتُ من خلال هذا الفصل أنّ الربط بين البحث المقارن عبر الثقافات والنظرية الاجتماعية المعاصرة هو المسلك الذي أتبناه وأجد فيه إمكانًا لتفسير أعمق، غير أنّ هذا المسلك يثير بالضرورة سؤالًا آخر لا يقل أهمية، وهو: أيّ منظور من مناظير النظرية الاجتماعية هو الأجدر بأن يشكّل مرجعًا أساسًا لدراسات التربية المقارنة عبر الثقافات ويزوّدها بالأدوات المفهومية والمنهجية اللازمة؟
انطلق البحث الإثنوغرافي عبر تاريخه من روافد نظرية متعددة تنوّعت بين الاتجاه الوظيفي الذي يسعى إلى تفسير الظواهر من خلال أدوار المؤسسات ووظائفها، والاتجاه البنيوي الذي ينظر إلى البنى والعلاقات الكامنة، والمقاربة التفاعلية الرمزية التي تركز على إنتاج المعاني في سياق التفاعلات الاجتماعية، بالإضافة إلى مناهج الصراع أو النقد التي شملت الماركسية والنيوماركسية والنسوية وغيرها من الرؤى النقدية. ويرى المؤلف أنّ مسألة الاختيار بين هذه المقاربات لا يمكن أن تُحسم ببساطة عبر الاحتكام إلى الأدلة وحدها، إذ يظل السؤال مطروحًا حول طبيعة الأساس البرهاني الذي يسمح للباحثين بالتمييز الحاسم بين هذه المناهج، بل إنّ المحدّد الأهم هو الالتزامات القيمية التي يتبناها الباحث في مسار بحثه (انظر سايكس وآخرون 2003). فإذا انطلق الباحث مثلًا من التزام واضح بمبدأ العدالة التعليمية، فسيسعى في بحوثه الإثنوغرافية إلى الكشف عن خطوط التفاوت في توزيع المنافع التعليمية والموارد الأكاديمية بين الفئات. وقد اختارت (ماسيمان) أن توضّح موقفها في هذا الجدل، فاعتبرت أنّ المنظور الأجدر بترسيخ البحث الإثنوغرافي في سياقه الأوسع هو إطار نظرية الصراع، ودعت إلى صياغة ما أسمته "إثنوغرافيا نقدية"، وهي مقاربة أنثروبولوجية تسترشد بالنظرية النقدية وتعمل على تفكيك الأسس التي تنطلق منها المناهج الوظيفية والوضعية في افتراضها الحياد والموضوعية، لتؤكد في طرحها (2013، ص 113) أنّ:
يقوم النهج الإثنوغرافي بدور أساسي في الكشف عن آليات الثقافة داخل الفصول الدراسية وفي بيئات المدارس وفي الأنظمة الإدارية التي تحتضنها، غير أنّ الاعتماد عليه لا ينبغي أن يقتصر على مقاربات ظاهراتية أو على التركيز في التجربة الذاتية للمشاركين وحدها، لأنّ مثل هذا الحصر يضيّق أفق الفهم ويُغفل الأبعاد الأوسع. ومن هنا تبرز ضرورة الانفتاح على منظور نقدي أو نيوماركسي، إذ يتيح هذا المنظور رسم خريطة دقيقة للعلاقات التي تربط بين المستوى الجزئي المتمثّل في تفاصيل التجربة التعليمية داخل المدرسة المحلية، والمستوى الكلي للقوى البنيوية العالمية التي تُعيد تشكيل طرائق تقديم التعليم وأنماط الخبرة التعليمية في مختلف الأقطار، وصولًا إلى أشدّ المناطق بُعدًا.
أجد نفسي متفقًا مع (ماسيمان) في موقف مزدوج؛ فمن جهة ترى أنّ البحث في ميدان التربية المقارنة حين يتناول الثقافة لا يجوز أن يُقيَّد بمقاربات ظاهراتية محصورة في التجربة الذاتية، بل ينبغي أن يُرسى في إطار أوسع قوامه النظريات الاجتماعية التي تفسّر السياقات الكبرى وتربط الجزئي بالكلي، ومن جهة أخرى تؤكد أنّ المنظورات النظرية الأجدر بالاعتماد والأكثر إنتاجًا للمعرفة، فضلًا عن كونها الأرسخ من حيث المبررات الأخلاقية، هي تلك المنبثقة من حقل نظرية الصراع والتيارات النقدية. وقد استعانت (ماسيمان) في ترسيخ موقفها هذا بآراء (دوركهايم) و(برنستين) (2013، ص 117–118)، لتستدلّ على أنّ:
يحكم الموقع الطبقي للطلاب في البنية الاجتماعية مصائرهم التربوية ويحدّد في النهاية أسلوب تلقيهم لأي صيغة من صيغ البيداغوجيا، إذ إنّ التباينات التي قد تبدو في القيم والمعايير لا يمكن تفسيرها تفسيرًا ثقافيًا بحتًا، وإنما تكشف عن خلفيات طبقية راسخة. ومن هذا المنظور يتضح أنّ العلاقة بين التعليم والثقافة والطبقة هي علاقة ملازمة في كل مجتمع من المجتمعات. وإذا كان التقليد الليبرالي قد اعتاد النظر إلى تجارب الأطفال التعليمية وردود أفعالهم تجاهها على أنّها نتاج الثقافة والقيم وحدها، أي باعتبارها كيانات مفصولة عن الأساس المادي للحياة الاجتماعية ممثَّلًا في عالم العمل والإنتاج، فإنّ التحليل الأعمق يبين أنّ تلك التجارب تتشكل بصورة جوهرية من البنية الاقتصادية للمكان الذي ينشأ فيه الطفل، سواء أكان حيًّا سكنيًا أو جماعة محلية أو إقليمًا أو دولة كاملة، بل ومن حركة الاقتصاد العالمي الذي يفرض هيمنته في نهاية المطاف على كل هذه المستويات، ليترك أثره الحاسم على تشكّل التجربة التعليمية نفسها.
أضيف في هذا الموضع أنّ خطأً منهجيًا بالغًا يقع فيه بعض الباحثين في الدراسات الإثنوغرافية حين يتصورون أنّ توليدهم للنظرية الميدانية عبر الاستقراء المبني على الملاحظات التجريبية يمكن أن يتم بصورة محايدة تمامًا، من غير الاستناد إلى أي إطار نظري سابق، وكأنّهم قادرون على دخول موقع الدراسة بوعي خالٍ من كل منظومة فكرية أو افتراض مُسبق. والحقيقة التي لا مجال لإنكارها أنّ الرؤية ذاتها لا تنفصل عن النظرية، وأنّ إدراكنا للوقائع وتحليلنا لها يظل مشروطًا دائمًا بالخلفية النظرية التي ننطلق منها. وبكلمات أكثر حسمًا، لا يمكننا أن نرى من دون نظرية.
يستلزم البحث الإثنوغرافي اعتماد منظور نظري يوجّه الباحث في انتقاء ما يلاحظه وفي تأويل ما يشاهده، غير أنّ هذا المنظور نفسه يتحدد في نهاية الأمر عبر التزامات قيمية يتبناها الباحثون في ممارستهم العلمية، وهو ما يضعهم أمام خطر الانزلاق إلى انحياز منهجي منظم ما لم يكونوا على وعي كافٍ بذلك. وربما يستحيل على الباحث أن يتجنب تمامًا ما وصفه (هامرسلي) (2006، ص 11) بالتوتر البنيوي الملازم لهذا النمط من البحث، المتمثل في الجمع بين محاولة استيعاب رؤى المشاركين من الداخل والسعي إلى النظر إليهم وإلى سلوكهم من موقع خارجي أوسع قد يبدو غريبًا عنهم أو مثيرًا لرفضهم. ويغدو التعامل مع هذا التوتر على المستوى المنهجي أحد أبرز التحديات التي يطرحها هذا الفصل، وهو التحدي الذي سأكرّس له اهتمامي في القسم اللاحق.
يظهر خطر موازٍ يتمثل في تقصير الباحثين أحيانًا عن الانتباه إلى نزعاتهم الإثنومركزية التي قد تؤثر في مسار دراستهم. ولا يقتصر التحدي على ضرورة صياغة أدوات بحثية صالحة للتطبيق في بيئات متعددة الثقافات، بل يتعداه إلى ما نبّه إليه (فاغنر) في كتابه اختراع الثقافة (1981، ص 2–4)، حيث أكّد أنّ:
حين يُطلق على مجمل قدرات الإنسان الذهنية والاجتماعية والعملية اسم الثقافة، فإنّ الباحث في الأنثروبولوجيا يجد نفسه مضطرًا إلى أن يستعين بالثقافة التي ينتمي إليها لكي يدرس الآخرين ولكي يفسّر مفهوم الثقافة ذاته في معناه الأوسع. وهذا الوعي بالثقافة يفرض تحوّلًا عميقًا في أهداف الباحث ورؤيته العلمية، إذ يفرض عليه أن يتخلى عن الادعاء الموروث في العقلانية الكلاسيكية بوجود موضوعية مطلقة يمكن بلوغها، ويُرغمه على تبني تصور بديل قوامه موضوعية نسبية تتحدد من خلال خصائص ثقافته الذاتية. ولا ريب أنّ مسؤولية الباحث العلمية تحتم عليه أن يسعى إلى الحياد بقدر ما يستطيع إدراك افتراضاته، إلا أنّ الواقع يُظهر أنّ الإنسان يميل إلى التعامل مع المسلّمات الجوهرية في ثقافته تعاملًا بديهيًا يخرجه من دائرة الوعي. ولا سبيل إلى بلوغ الحياد النسبي إلا بالكشف عن هذه النزعات الكامنة، وعن السبل التي تسمح بها الثقافة لفهم الثقافات الأخرى، وعن الحدود التي تفرضها هذه الثقافة على عملية الفهم ذاتها (ص 2). ومن هنا تأتي أهمية مفهوم "العلاقة"، إذ إنّه يعبّر عن الجمع بين كيانين أو منظورين متكافئين على نحو أعمق من مصطلحات مثل "التحليل" أو "الفحص" التي ما زالت ترتبط بادعاء الموضوعية المطلقة (ص 3).
لا يجد الباحث سبيلًا إلى بناء علاقة بين كيانين متمايزين إلا بأن يُحكم معرفته بهما معًا في اللحظة نفسها، ويستوعب نسبية ثقافته عبر صياغة ملموسة لثقافة مغايرة. ومن هذا المنطلق يمكن القول إنّ عالم الأنثروبولوجيا لا يكتفي بدراسة الثقافة التي يعتقد أنّه بصددها، بل "يبتكرها" ابتكارًا، لأنّ الدلالة المجرّدة للثقافة لا تُدرك إلا عبر هذا الابتكار، ولأنّ ثقافته هو لا تنكشف له إلا من خلال المقارنة الملموسة مع ثقافة أخرى. وفي أثناء هذه العملية لا يقتصر الأمر على "اختراع" ثقافة الآخرين، بل يمتد ليشمل إعادة صياغة ثقافته الخاصة، بل وحتى إعادة اختراع مفهوم الثقافة ذاته (ص 4).
تتّسع البحوث المقارنة عبر الثقافات لتشمل المنهج الفينومينولوجي، وهو المسار الفلسفي الذي يسعى إلى فهم الواقع كما يظهر في التجربة الحيّة للآخرين، بحيث يُدرك الباحث العالم من خلال أعينهم كما يعيشونه ويصفونه. غير أنّ الدراسات الفينومينولوجية للقيم تُحَمِّل الباحث مسؤولية مضاعفة، إذ تفرض عليه أن يظلّ واعيًا بأنّ منظومته القيمية الذاتية تؤثر بدرجة ملحوظة في طريقة ملاحظته ووصفه وتصنيفه، وفي ما يصوغه من مفاهيم وما يستنتجه من نتائج أو يتنبأ به من احتمالات، وأن يتّخذ في سبيل ذلك إجراءات منهجية تقلل من هذه التأثيرات بقدر المستطاع. ولا يقتصر الأمر على القيم فحسب، بل يتصل أيضًا باللغة ذاتها التي يستخدمها الباحث، لما لها من أثر مباشر في تشكيل صورته عن الواقع وحدوده. وتزداد هذه الإشكالية تعقيدًا عندما يدخل عامل الترجمة، سواء في ترجمة أدوات القياس أو في نقل النصوص المكتوبة، لتضيف مستوى آخر من التحدي، وهنا يأتي دور الترجمة العكسية باعتبارها أداة ضرورية للتحقق من صدقية النصوص المترجمة وتكافؤها عبر اللغات.
يشكّل كتاب (هوفستد) عواقب الثقافة الصادر سنة 2001 علامة فارقة في دراسات المقارنة عبر الثقافات، حتى إنّ أي معالجة جادّة لهذا الميدان تبدو ناقصة ما لم تتطرق إليه. وقد انطلق (هوفستد) من دراسة اختلافات ثقافية بين موظفين يعملون في شركة عالمية كبرى هي (آي بي إم)، عبر فروعها المنتشرة في أكثر من خمسين بلدًا. وخلص إلى أنّ الفوارق الثقافية يمكن تحليلها في ضوء خمسة أبعاد مستقلة للثقافة الوطنية، كل بُعد منها متجذّر في معضلة أساسية تواجهها المجتمعات كافة في مسارها (ص 29):
بُعد مسافة السلطة: يقيس الحد الذي يقبل عنده الأفراد الأقل قوة في المجتمع فكرة التوزيع غير العادل للسلطة ويتوقعونها، بما يعكس مستوى التفاوت الإنساني الذي يشكّل الأساس في عمل البُنى الاجتماعية.
تجنّب عدم اليقين: وهو ما يرتبط بمستويات التوتر والقلق التي يظهرها أفراد المجتمع عند مواجهة ظروف يسودها الغموض.
الفردية مقابل الجماعية: يوضّح العلاقة التي تنشأ بين الفرد والجماعة، ومدى تغليب المجتمع لقيمة الاستقلال الذاتي والمسؤولية الفردية أو لقيمة الانتماء والولاء للجماعة التي ينتمي إليها الفرد.
الذكورة مقابل الأنوثة: يشير إلى مدى تأثير الفوارق البيولوجية بين الجنسين في توزيع الأدوار العاطفية والاجتماعية، بحيث تتجه بعض المجتمعات نحو تعزيز قيم التنافس والإنجاز، بينما تبرز مجتمعات أخرى قيم الرعاية والعلاقات الإنسانية.
التوجّه طويل الأمد مقابل قصير الأمد: يتناول هذا البعد الاتجاه الذي تركّز فيه المجتمعات جهودها، فبعضها يستثمر في المستقبل ويضع أهدافًا بعيدة المدى، في حين ينصرف بعضها الآخر إلى تلبية الحاجات الراهنة وإعطاء الأولوية للحاضر.
تثار تساؤلات عدّة حول ما إذا كانت الأبعاد الخمسة التي وضعها (هوفستد) تُعد بالفعل مداخل مثمرة لاستجلاء نتائج الثقافة، وحول احتمال وجود أبعاد أخرى قائمة بذاتها من الناحية المفهومية والإحصائية، أو أدوات تحليلية أكثر تركيزًا قد تكون أوفر فائدة للباحثين في مجال التربية. غير أنّ ما يهمنا هنا ليس هذه الأسئلة بقدر ما يهمنا المنهج الذي اعتمده (هوفستد) في بحثه. وقد تعرّض هذا المنهج لانتقادات، أبرزها اعتماده على الدول كوحدات للتحليل عند دراسة الثقافات، وهو ما أقرّه (هوفستد) نفسه (2001، ص 23) بصعوبته، لكون الدول الحديثة كيانات بالغة التعقيد، ومتعددة البُنى الداخلية، ومتنوعة إلى درجة لا تسمح بوصف ثقافتها بدقة استنادًا إلى استنتاجات استقرائية من عينات صغيرة يجري التعمق فيها، كما هو الحال في المنهج الأنثروبولوجي الكلاسيكي. وأكّد (جاكوب 2005، ص 515) هذا الانتقاد، مبيّنًا أنّ:
تظهر التعدديات الثقافية داخل حدود الدولة الواحدة كما تظهر في العلاقات بين الدول، ومع ذلك فقد بنت معظم الدراسات الأساسية تصنيفاتها على افتراض أنّ الدول وحدات ثقافية متجانسة، بينما الواقع يبرهن أنّ ما من ثقافة خالصة أو نقية، بل يتوجّب التركيز على أنّ الدول تتشكل من تركيبات ثقافية متداخلة، وأنّ الأفراد أنفسهم يتحوّلون إلى كائنات هجينة بالمعنى الثقافي، إذ ينتمون في اللحظة الواحدة إلى جماعات متعددة، ويزاوجون بين قيم ومعانٍ ورموز مستمدّة من بيئات متنوّعة.
يظهر بجلاء أنّ التباينات داخل المجتمع الثقافي الواحد قد تتجاوز في شدّتها التباينات القائمة بين المجتمعات المختلفة، وفي المقابل تكشف الدراسات عن وجود ثوابت عابرة للثقافات، ومن أمثلتها ما سجّله (جاكوب 2005، ص 516) بأنّ القادة الذين يتعاملون برفق ورعاية يحظون بقبول أوسع بكثير من أولئك الذين يفتقرون إلى ذلك، وذلك بصرف النظر عن الثقافة التي ينتمون إليها، وإذا كان التنوع الداخلي يطغى في أغلب الأحيان على التنوع الخارجي، وإذا كانت الثوابت العابرة للثقافات تنزع من جهة أخرى إلى تقويض فكرة الاختلاف الثقافي ذاتها، فإنّ الشك يثور بشأن قيمة التحليل الذي ينطلق من وحدة الثقافة، ومع ذلك فإنّي أؤكّد في هذا السياق أنّ المقارنة بين الثقافات تكشف حقائق عميقة عن اختلافات التربية والتعليم حين تُدار بوعي وحساسية وبالتزام بالتحليل المتأنّي.
تتضح المخاطر المنهجية التي نبّه إليها (هوفستد 2001، ص 463) عند إعادة تطبيق دراسته، وأوّلها الخلط بين الثقافة والفرد، وهو خطأ يغري به الباحثون النفسيون المنتمون إلى مجتمعات يغلب عليها الطابع الفرداني، إذ أكّد (هوفستد، ص 17) أنّ الثقافة ليست نسخة موسّعة من الفرد، ولا يجوز تفسير منطقها الداخلي من خلال أدوات تحليل الشخصية، بل ينبغي النظر إليها بوصفها نسقًا متكاملاً له قواعده وخصائصه الخاصة، وقد أشار كذلك إلى خطأ آخر هو الخلط بين الثقافة الوطنية والمستويات الثقافية الأخرى كالعرقية أو الجهوية (هوفستد، ص 464)، ولهذا يبدو من غير المقبول أن يعقد الباحث مقارنة بين مقاربات التعلّم في بريطانيا وتلك الموجودة في جنوب آسيا، بينما تكتسب المقارنة وجاهتها حين تجرى بين أساليب التعلّم في الجاليات الباكستانية المهاجرة بمدن إنجلترا الصناعية وبين المجتمعات الباكستانية التقليدية في ريف وزيرستان الشمالية.
رأى (هوفستد 2001، ص 20) أنّ النهج المنهجية الأجدر بالاعتماد في بحوث المقارنة بين الثقافات هي النهج المتعدد التخصصات، لما توفّره من زوايا تحليلية متكاملة تسمح بفهم أعمق وأشمل للظواهر، إذ إنّ:
تظهر على مستوى الثقافات الوطنية أهمية النظر إلى الظواهر في كل مستوياتها، بدءًا من الأفراد مرورًا بالجماعات والمؤسسات ووصولًا إلى المجتمع بأسره، فضلًا عن الظواهر المرتبطة بجوانب التنظيم والنظام السياسي وأنماط التبادل. وهذا كلّه يفرض على الباحث أن يتجاوز حدود التخصص الواحد وأن ينفتح على مهج متعددة التخصصات.
تبرز أهمية التربية المقارنة في هذا السياق من كونها ميدانًا معرفيًا يتجاوز حدود الانغلاق التخصّصي، إذ يتميّز بمرونة تتيح للباحثين فيه الانفتاح على أكثر من منظور نظري ومنهجي. وهذا ما يجعلهم أكثر استعدادًا من غيرهم لتحمّل أعباء المقارنات بين الثقافات، حيث يتطلّب الأمر مقاربة متعدّدة التخصّصات قادرة على رصد الجوانب المتشابكة للتعليم في سياقاته المختلفة. ومن ثمّ يُستحسن أن تُضطلع بمهام هذا النوع من البحوث فرق علمية متكاملة، يجمع أعضاؤها بين خبرات في مجالات الفلسفة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعلوم السياسية والنظرية الاجتماعية وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية، فضلًا عن علم النفس واللاهوت واللسانيات والدراسات التربوية، بما يسمح بتشييد رؤية تحليلية شاملة قادرة على النفاذ إلى أعمق أبعاد الظاهرة التعليمية.
تناول (ألكسندر) في كتابه الثقافة والبيداغوجيا (2000) دراسة مقارنة للتعليم الابتدائي في خمس دول هي إنجلترا وفرنسا والهند وروسيا والولايات المتحدة. وقد بيّن أنّ هذه الدول تجمع بين اختلافات صارخة في خصائصها الجغرافية والديموغرافية والاقتصادية والثقافية، وبين وحدة ظاهرية متمثلة في التزامها الدستوري بقيم الديمقراطية (ص 4). وبتحليله لسياساتها وبُناها التعليمية من جهة، ولممارساتها الصفّية والمدرسية من جهة أخرى، حاول أن يوضح كيف تتشابك هذه العناصر مع الثقافة والقيم والبيداغوجيا في شبكة معقّدة (ص 4). وتوصّل من خلال عمله إلى أنّ الباحثين في الثقافات الأجنبية عنهم غالبًا ما يشعرون بمدى ضآلة معارفهم، ويخافون أن يُنظر إليهم بسذاجة أو بتعجّل أو بتبسيط مُخلّ إزاء ما يعجز حتى أبناؤها عن تفسيره أو يجدونه متناقضًا. وأكد أن أكثر ما يصعب القبض عليه هو الكيفية التي ترتبط بها ممارسات التعليم والتعلّم بسياق الثقافة والبنية والسياسة الذي يُشكّل إطارها (ص 3).
استند نجاح (ألكسندر) في تفادي الاتهامات بالسذاجة أو التجرؤ أو المبالغة في التبسيط إلى دقته المنهجية وحرصه على جمع بيانات شاملة من أكبر عدد ممكن من المصادر. فقد قام بجمع بياناته على ثلاثة مستويات متكاملة هي: مستوى النظام التعليمي، ومستوى المدرسة، ومستوى الصف الدراسي. واعتمد في ذلك على مزيج من المقابلات والملاحظات شبه المنهجية، إلى جانب استخدام التسجيلين المرئي والسمعي الذي أُخضع لاحقًا للتفريغ والتحليل. كما دعّم مادته البحثية بوثائق المدارس والبلدان، وبالصور الفوتوغرافية، وبالمذكرات اليومية التي كان يدوّنها بانتظام.
أبرز (ألكسندر) فكرة جديرة بالاهتمام مفادها أن تحديد عدد الثقافات أو الدول التي تُدرَس في إطار البحث ينعكس مباشرة على طبيعة النتائج التي يمكن استنتاجها وعلى مدى شمولها. وقد تناول في هذا السياق السؤال المتكرر حول دوافعه في اختيار خمس دول للمقارنة بدلًا من الاقتصار على اثنتين أو ثلاث، موضحًا في الصفحة 44 رؤيته في هذا الشأن على النحو الآتي:
يؤدي حصر المقارنة في بلدين إلى دفع الباحث نحو عقلية استقطابية تقسم الظواهر إلى ثنائيات متعارضة يصعب تجاوزها. وعند إدخال بلد ثالث تنشأ الظاهرة التي أطلق عليها (توبين 1999) "تأثير غولديلوكس"، حيث يُقال إنّ نظام التعليم في بلد ما حسن، وفي بلد آخر سيئ، أمّا البلد الثالث فيبدو "المناسب تمامًا". بيد أنّ اعتماد المقارنة على خمسة بلدان يطرح تحديًا أكبر من حيث التعقيد، غير أنّه يوفّر في المقابل ميزة جوهرية تتمثل في إمكانية معالجة أوجه الشبه والاختلاف بوصفها متصلة ومتدرجة على محور واحد، بدلًا من اقتصارها على ثنائية الأقطاب. وإذا كانت البلدان المختارة متباينة بما فيه الكفاية، فإنّ هذا التوسّع يفتح المجال أمام مقاربة أكثر واقعية في البحث عن القواسم التعليمية المشتركة أو الكونية.
تناول (ليفين 1966) مسألة بالغة الأهمية تتعلق بأحكام الباحثين من خارج المجتمع محل الدراسة، مبيّنًا أنّ القيمة الحقيقية لهذه الأحكام لا تكمن في فردانيتها، بل في نقاط الالتقاء التي تبرز عند تحليل تصوّرات الجماعات المختلفة حول الثقافة المدروسة. ورأى أنّ الطريق إلى مقاربة الحقيقة في هذا السياق يمرّ عبر تعزيز الصدقية باستخدام التثليث المنهجي. وقد أخذ (توبيـن) و(وو) و(ديفيدسون) هذه الرؤية في دراستهم عام 1989 لرياض الأطفال في اليابان والصين والولايات المتحدة، ثم تابعها (توبيـن) و(هسويه) و(كاراساوا) في دراستهم عام 2009، حيث نظروا إلى رياض الأطفال في البلدان الثلاثة باعتبارها انعكاسًا لثقافات هذه المجتمعات ونافذة لمقارنتها. واستنادًا إلى أفكار (ليفين) وإلى إسهام (ميخائيل باختين) المنظّر الأدبي الروسي (انظر: توبيـن وآخرون 2009، ص 7)، سعى هؤلاء الباحثون إلى صياغة "إثنوغرافيا متعددة الأصوات" (1989، ص 4) بهدف تقوية استنتاجاتهم وإضفاء الموثوقية عليها من خلال اعتماد التثليث في تحليل النتائج.
وشمل هذا النهج المعروفة بـ"الإثنوغرافيا المتعددة الأصوات" (1989، ص 4–5) العناصر التالية:
برزت في هذه المقاربة أصوات معلمي رياض الأطفال وأولياء أمور التلاميذ والإداريين، حيث تولّى كل طرف منهم رواية قصته الخاصة وكتابة نصوصه الذاتية. وقد صيغت هذه النصوص في صورة شروح على الأشرطة المصوّرة لرياض الأطفال المدروسة، سواء داخل مجتمعاتهم أو في مجتمعات أخرى، فتحوّلت إلى فضاء للنقاش والتفكيك والنقد الموجّه لرواية الباحثين عن المدارس. ولم يكن أي نص لاحق بديلًا عن النصوص السابقة أو نافيًا لها، بل كان يتفاعل معها ويكمّلها ضمن حوار متواصل يثري تعددية الأصوات ويكشف أبعادًا جديدة للتجربة.
عمل (توبيـن وآخرون) على إيجاد توازن بين أحكامهم العلمية المستندة إلى خلفيتهم الأنثروبولوجية وبين التصوّرات التي يقدّمها المنتمون إلى الثقافة ذاتها أو القادمون من خارجها. وبنوا مقاربتهم البحثية على أربع روايات رئيسية على الأقل، عُرضت بطريقة بيانية في الشكل لتوضيح كيفية تداخل المنظورات المختلفة وتكاملها في بناء الصورة الكلية.
الشكل 8.1: تصنيف الداخلين والخارجيين في البحث الإثنوغرافي إلى فئات أولية وثانوية
الغرباء | المطلعون | |
الأساسي | يشرع الباحثون في الإثنوغرافيا بدخول سياق ثقافي محدّد، يتمثّل هنا في قاعة دراسية لرياض الأطفال بدولة أخرى، ليقوموا بتصويره وتحليله من موقع المراقب الخارجي. (السرديات من المستوى الأول) | المعلّم الذي دُرس صفّه، إلى جانب زملائه من معلمي الطفولة المبكرة في المدرسة ذاتها، يتبادلون النقاش حول الشريط المصوَّر في أحد فصول المدرسة. (السرديات من المستوى الثاني) |
الثانوي | يقدّم معلمو الطفولة المبكرة تعليقاتهم على تسجيلات مصوّرة برياض أطفال خارج بلدانهم، وفي الوقت نفسه يزوّدون الباحثين بملاحظات تتيح فهمًا أعمق لزوايا نظرهم الثقافية. (السرديات من المستوى الرابع) | يشارك معلمو الطفولة المبكرة القادمون من مدن مختلفة داخل الدولة ذاتها في مناقشة الفيديو المصوَّر بإحدى مدارسها، مسهمين بملاحظاتهم التي تمنح الباحثين فهمًا أعمق لمسألة مدى تمثيلية هذه الحالات. (السرديات من المستوى الثالث) |
تحدّد مضمون المشاهد التي صوّرها الباحثون في دراستهم الإثنوغرافية البصرية لرياض الأطفال عبر سلسلة من الحوارات مع مضيفيهم، فانتهى الأمر إلى "حل توفيقي يجمع بين ما كان الباحثون يتطلّعون إلى توثيقه منذ البداية، وما اعتبره المضيفون أكثر أهمية وملاءمة للعرض عليهم". وقد أوضح الباحثون في تقريرهم (1989، ص 5) أنّ:
إنّ حدود ما يمكن أن يقوله أو يُظهره معلمو رياض الأطفال والإداريون والأهالي والأطفال للأنثروبولوجيين القادمين من الخارج تتحدّد في معظمها وفق الإطار الثقافي. فالتصوّرات عمّا يعنيه الصدق في القول، وعن ما ينبغي إظهاره أو حجبه أمام الضيف، وعن درجة الانفتاح في توجيه النقد للنفس أو للآخرين، تختلف باختلاف البيئات الثقافية وتتأثر كذلك بالظروف السياسية المتغيّرة.
فرضت "الإثنوغرافيا المتعددة الأصوات" الحاجة إلى إبراز تعدّد المنظورات، لأنّ عملية الرؤية نفسها عند الباحثين لم تكن محايدة بل مشروطة بخلفياتهم الثقافية، وهو ما انعكس في اختيارهم للقطات وتركيزهم أثناء التصوير. وفي الدراسة الأولى (1989) أدرك الباحثون بعد مراجعة التسجيلات أنّ الفريق الأمريكي ركّز عدسته على أفراد التلاميذ، في حين لجأ الفريق الصيني إلى تصوير مشاهد واسعة لمجموعات كاملة من الأطفال. وأقرّ الباحثون بأنّ النتيجة كانت ثلاثة أشرطة فيديو "ذاتية الطابع، ومتفردة في منظورها، ومقيّدة بحدود الثقافة" (1989، ص 7).
بدأت الدراسة بتصوير ثلاث مدارس لمرحلة رياض الأطفال في ثلاث ثقافات مختلفة، وهو ما عُدّ بمثابة رواية أولى لملاحظات الباحثين كغرباء إثنوغرافيين. ثم اتجه (توبيـن وآخرون 1989) إلى بناء رواية ثانية تمنح هذا التصوير بُعدًا إضافيًا. فكان ذلك عبر "تفسيرات وتفاعلات المديرين والمعلمين وأولياء الأمور والأطفال في رياض الأطفال اليابانية والصينية والأمريكية تجاه الأشرطة التي التقطها الباحثون في مدارسهم" (1989، ص 7). وقد طُلب من هؤلاء أن يشاهدوا التسجيلات وأن يقدّموا شروحًا حيّة وتعليقات متواصلة تجمع بين الحكي والتفكيك التحليلي لما دار أمامهم على الشاشة.
سعى الباحثون بعد ذلك إلى صياغة سردية ثالثة ضمن منهجهم في الإثنوغرافيا المتعددة الأصوات، وهي تفسيرات يقدّمها "الداخلون الثانويون" يمكن أن تسهم في معالجة مسألة النمطية. فطلبوا من جماعات أخرى مرتبطة برياض الأطفال في البلد نفسه أن يوضّحوا مدى تمثيل هذه الروضة لغيرها من رياض الأطفال في مجتمعهم، ومدى خصوصيتها أو اختلافها عنها. وقد وجّه (توبيـن وزملاؤه 1989) إلى المشاركين في هذه السردية الثالثة، بعد أن عرضوا عليهم مقاطع من الأشرطة المصوّرة التي التُقطت في المدرسة في مجتمعهم نفسه وتُظهر المعلمين وهم يتعاملون مع مسائل الانضباط، أسئلة من قبيل: "هل كان المعلّمون صارمين أكثر من اللازم، أم على القدر المناسب، أم أقل من المطلوب؟" (1989، ص 9). وقد عرض الباحثون نتائج هذه السردية الثالثة بأسلوبين: أحدهما إحصائي باستخدام بطاقات تقييم للإجابات على الأسئلة (مثل هذا السؤال عن مستوى الصرامة)، والآخر وصفي من خلال استبيانات استطلعت آراء المشاركين حول أهداف مرحلة رياض الأطفال في المجتمع، وما الذي ينبغي أن يتعلمه الأطفال فيها، وما الصفات التي يجب أن يتحلى بها معلم الروضة الجيد، وغير ذلك. وأسهمت هذه السرديات الثالثة، أي سرديات الداخلين الثانويين، في وضع سرديات الباحثين (الذين يمكن وصفهم بالـ"خارجين الأوائل") والسرديات الثانية للداخلين الأوائل في سياق أشمل وأوسع. وقد وفّر هذا النهج للباحثين فهمًا أفضل لمدى التجانس أو لاختلافات الممارسات والمعتقدات المرتبطة بالمؤسسات أو الترتيبات الاجتماعية في مجتمعات معينة، كما مكّنهم من إدخال مسألة التباينات داخل رياض الأطفال في كل بلد في الحسبان (انظر: توبيـن وآخرون 2009، ص 10).
رأى (ألكسندر) أنّ قوة الأسلوب الذي اتبعه (توبيـن وزملاؤه) في بحثهم تظهر في قدرتهم على كشف القيم والأفكار والتجارب الثقافية الكامنة خلف الممارسات التعليمية، إذ انطلقوا من أنّ الثقافة عنصر أصيل فيما يجري داخل المدارس والفصول وليست إضافة عرضية من خارجها. وأشار إلى أنّ ملاحظاتهم في إحدى رياض الأطفال اليابانية أثبتت لهم أنّ هذا المنهج يمكّن الباحث من التحقّق من أصالة الممارسات المرصودة وتميّزها بما يجعلها تمثيلاً صادقًا لما هو شائع في تلك البيئة التعليمية، أي أنّهم واجهوا إشكالية النمطية بتحديد مدى أصالة التفرّد من خلال اعتمادهم على السرديات المتعددة: الأولى والثانية والثالثة والرابعة، من الداخلين الأساسيين والثانويين والخارجين كذلك. وأضاف (ألكسندر) (2000، ص 267) أنّ:
عاين فريق الباحثين في (كيوتو) أنماطًا تعليمية لم تتطابق بحذافيرها مع ما هو قائم في روضة مجاورة، بل ولا مع ما قد يوجد على مسافة مئتي ميل، لكنّ قيمتها الأصيلة وتميّزها في إطار التربية اليابانية ظهر في أنّ ما يبدو على السطح من اختلافات قد غطّت عليه أوجه تشابه أعمق وأكثر دوامًا، تشابهات متجذّرة في القيم والأفكار والتجارب التي يشترك فيها المعلمون والآباء والأطفال، وقد ساعدهم منهجهم البحثي الدقيق، القائم على الملاحظة المباشرة والتفصيلية، في الكشف عن هذه الأبعاد المشتركة وصياغتها في صورة متكاملة
أوضح (ألكسندر) أنّ مواجهة مسألة النمطية وجعل الحالة المعيّنة تحمل قيمة تفسيرية لا يتحقق إلا بالاعتماد على فرضيتين بارزتين متضمنتين في ما سبقت الإشارة إليه، وتتمثل الفرضية الأولى في أنّ:
يُدرك الباحث أنّ الثقافة التي تنتظم المدارس في إطارها ويتقاسمها المعلّمون والطلاب تُمارس أثرًا حاسمًا يعادل في قوته أثر العوامل المؤسسية الخاصة والظروف المحلية والتفاعلات الإنسانية التي تفرّق بين مدرسة وأخرى وبين صف وآخر، فالثقافة لا تُفهم كعامل خارجي ولا كمتغيّر من بين متغيرات قابلة للتصنيف والتحليل، بل تُنظر إليها بوصفها طاقة فاعلة تسري في نسيج المدرسة وتنعكس في تفاصيلها من الرموز المرئية على الجدران إلى العمليات الذهنية الخفية التي تتشكل في عقول الأطفال
يقدّم (ألكسندر) في مقولته الثانية (2000، ص 266)، التي دلّل عليها بعمق من خلال دراسته ومن خلال عمل (توبيـن وآخرين)، رؤية نقدية تؤكد أنّ المناهج البحثية الرصينة لا يجوز أن تقف عند حدود ما يمكن رصده من ممارسات صفية وحركات بيداغوجية ظاهرية، بل ينبغي أن تمتلك أدوات تمكّنها من التغلغل في البنية الرمزية والقيمية الكامنة خلف تلك الممارسات، فيكشف الباحث من خلالها المعاني المتجذّرة في خبرات المعلّمين والمتعلّمين على السواء، وتظهر أهمية هذا المنظور في أنّه يرسّخ القناعة بأنّ الثقافة تمثل عنصرًا بنيويًا داخل المدرسة والصف وليست مجرد عامل خارجي يسهم في تفسير ما يحدث، الأمر الذي يتيح للباحث مقاربة شمولية تنفذ إلى جوهر العلاقة بين الثقافة والتربية.
استفاد (توبيـن وآخرون) في دراستهم عام 1989 من فكرة (ليفـاين) عن أحكام من هم خارج السياق الثقافي (1966)، فأدخلوا مستوى رابعًا من السرد عن طريق عرض تسجيلات مصوّرة لرياض أطفال تنتمي إلى مجتمعين آخرين على مشاركين من الصين واليابان والولايات المتحدة، طالبين منهم تقديم تفسيراتهم وانطباعاتهم. وقد سبق لهؤلاء المشاركين أن قدّموا منظورًا ثالثًا باعتبارهم مطّلعين ثانويين على تسجيلات مدارسهم، غير أنّهم هنا انتقلوا إلى موقع الغرباء الثانويين، فصاروا يقدّمون قراءة نقدية ومقارنات ثقافية تعكس الفروق والإمكانات المشتركة بين النظم التربوية. وقد جُمعت استجاباتهم وفق الآلية نفسها التي استُخدمت في المنظورات السابقة، مما أتاح للباحثين أداة إضافية لتقوية صلاحية النتائج عبر توسيع دائرة السرد وتعدد الأصوات.
اقتضى الاهتمام المنهجي بتعدد السرديات من وجهة نظر المراقبين ألّا يهمل الباحثون الحوار مع الأفراد الخاضعين للملاحظة المباشرة والإنصات إليهم، فاللغة تُعدّ أداة أساسية في تشكيل الدلالات داخل كل ثقافة، ومن ثم وجب على الباحثين أن يتفحصوا بعناية اللغة المتداولة بين المعلّمين والمتعلمين والإداريين وأولياء الأمور وغيرهم، وقد عالج (ألكسندر) في دراسته (2000، ص 427) "خصائص اللغة داخل الصف، والكيفية التي يُلقَّن بها الأطفال طرائق استعمالها، وأنماط التعلم التي تنشّطها، وصلتها بالخطابات الثقافية الواسعة التي تحدد طبيعة التعليم الابتدائي وأهدافه".
قدّمت السرديات الرابعة التي صاغها المشاركون من خارج الثقافة الثانويون في دراسة (توبيـن وآخرون 1989) رؤىً حول المعتقدات والممارسات المرتبطة بالثقافة الموصوفة، كما قدّمت رؤىً موازية تتعلّق بالمعتقدات الثقافية لدى من يتولّون عملية الوصف أنفسهم، وقد أتاح هذان المستويان من الرؤى للباحثين أن يعودوا من جديد إلى منظور المشاركين من خارج الثقافة الأوليين ليتبيّنوا طبيعة تصوّراتهم المتأثرة بالتحيّز الثقافي، أي مشكلة النزعة الإثنومركزية عند الباحث، وقد لخّص (توبيـن وآخرون 1989، ص 9) ذلك بقوله:
تُظهر الأحكام الإثنوغرافية، سواء جاءت من فرد عادي أو من باحث أنثروبولوجي، تمازجًا بين الثقافة موضوع الوصف والثقافة التي تباشر عملية الوصف، ومن هنا فإنّ ما يقوله أولياء الأمور والمعلمون في رياض الأطفال الأمريكية بشأن روضة في الصين يكشف لنا أبعادًا من المعتقدات والقيم الأمريكية بقدر ما يكشف عن المعتقدات والقيم الصينية
يستمد البحث التربوي المقارن عبر الثقافات قوته حين يُقرّ بأنّه يتجاوز حدود دراسة ثقافتين أو أكثر بوصفها موضوعات منفصلة، ليصبح في جوهره بحثًا بين–ثقافيًا، إذ يتناول رؤى الثقافات المدروسة إلى جانب الرؤى الثقافية للباحثين، وقد جسّدت دراسات (توبيـن وآخرون) هذا التوجه بامتياز وكان ذلك مقصدهم، وقد أشاروا في هذا الصدد إلى ما أورده (ماركوس) و(فيشر) سنة 1986 من أنّ دراسة الثقافات الأخرى تؤدي أيضًا وظيفة "النقد الثقافي للذات".
أخذ الباحثون في الحسبان عند إعداد دراساتهم ضرورة أن تنحصر المقارنات بين الثقافات في أوجه التشابه القابلة فعلًا للمقارنة. ولهذا لا يكون من المجدي مثلًا مقارنة رياض الأطفال في (الصين) برياض الأطفال في (جبل طارق). وقد اجتهد (توبيـن وآخرون) في تسجيل مواقف متماثلة تشمل أطفالًا في أعمار متقاربة داخل مؤسسات تعليمية متماثلة في ثلاث مجتمعات مختلفة، لكنهم أقرّوا (1989، ص 7) بأنّ "المقارنة عبر الثقافات لا يمكن أن تتجاوز كونها تقريبية". وفي محاولتهم تسجيل حالة شجار بين الأطفال في كل ثقافة، وحالة لتأديب أحد الأطفال من معلم، تبيّن لهم أنّ معاني هذه الأفعال ذاتها تختلف جذريًا من ثقافة إلى أخرى.
أعاد (توبيـن وآخرون 1989) طرح النقاش حول الانتقادات المتكرّرة الموجّهة للبحوث الإثنوغرافية، والتي ترى أنّ هذا النوع من البحوث لا يتجاوز تسجيل مشهد آني لممارسات ثقافية في لحظة زمنية محدودة، وهو ما قد يفضي إلى توصيفها توصيفًا مثاليًا مبالغًا فيه، وإلى التعامل مع الثقافة كما لو كانت كيانًا ساكنًا. غير أنّ الفريق البحثي تجاوز هذه الإشكالية من خلال إنجاز دراسة جديدة في رياض الأطفال داخل (الصين) و(اليابان) و(الولايات المتحدة الأمريكية) بعد عقدين من الزمن، فأضافوا بذلك "البعد التاريخي الذي غاب عن عملهم الأول" (2009، ص ix). وقد تركز اهتمامهم – في ظل موجات العولمة التي تدفع نحو التماثل – على التساؤل عمّا إذا كانت "التصورات والممارسات التربوية في تلك البلدان قد ازدادت تقاربًا" (2009، ص 4) مقارنة بما وثّقوه سابقًا. ومع أنّ نتائج البحث جاءت ذات قيمة، إلا أنّ ما يعنينا في هذا الفصل هو ما قدّمته من دلالات منهجية أعمق. فأول تحذير أورده (توبيـن وزملاؤه) حول الإثنوغرافيا التعاقبية يتمثّل في صعوبة إدخال البعد التاريخي من دون الوقوع في مأزق إسقاط خط زمني واحد على جميع الثقافات (2009، ص 4). ولعل القارئ يستفيد كثيرًا من ملاحظات (سويتنغ) في هذا السياق، إذ يفرض البحث المقارن بين الثقافات وعبر الأزمنة وعيًا بضرورة تفادي الاعتقاد بأنّ جميع المجتمعات تسير وفق مسارات متطابقة من "التحديث أو العقلنة أو العولمة" (2009، ص 5)، بل يتطلّب مقاربة متوازنة تعالج المكان والسياق والزمن في آن واحد وبالقدر نفسه من الاعتبار.
أدرك الباحثون الذين يخوضون غمار المقارنة بين الأنظمة التعليمية في ثقافات مختلفة وعبر مراحل زمنية متباينة أنّ الحكم على التغيّر يحمل دائمًا قدرًا من المجازفة، فليس من السهل إثبات أنّ الأوضاع قد تدهورت أو أنّها تحسّنت على نحو مطّرد بمرور الزمن. وغالبًا ما يتجلّى أي تحوّل في النظام التعليمي بوصفه انعكاسًا مباشرًا للقوى الاجتماعية، وللعمليات التاريخية، وللاتجاهات الثقافية التي تسود المجتمع في تلك المرحلة. ومن هذا المنطلق جاء تنبيه (توبيـن وزملاؤه 2009، ص 247) لتذكير القرّاء بضرورة التعامل بحذر مع مسألة الحكم على التغيّر.
تلزم النسبية الثقافية التي تشكّل أساس الإثنوغرافيا الباحث بأن يترفّع عن النظر إلى ثقافة بعينها على أنّها أسمى من غيرها، فيما تدعو النسبية التاريخية بدورها إلى الحذر من الوقوع في أوهام السرديات التي تُضخّم صورة التدهور أو ترسم التاريخ في صورة خطّ مستقيم من التقدّم المستمر. فإذا كانت النسبية الثقافية تصدّ غلوّ التمركز حول الذات، فإنّ النسبية التاريخية تُذكّر بضرورة تجنّب محاكمة عصر من العصور استنادًا إلى مقاييس عصر آخر، سواء جاء الحكم في صورة تمجيد أو في صورة ازدراء.
أجرى (توبيـن وزملاؤه) في دراستهم الثانية تحوّلًا منهجيًا بارزًا حين وسّعوا نطاق الملاحظة من روضة واحدة إلى روضتين في كل بلد، ولم يكن قصدهم الوصول إلى عيّنة ممثّلة بقدر ما كان هدفهم بناء منظور قادر على الإمساك بخيوط المكان والسياق والزمن معًا. فجاءت الروضة الثانية لتشكّل نافذة إضافية على أسئلة الاستمرارية والتغيير، ولتكشف عن طبيعة الاتجاهات التي سلكها التحوّل، وسرعته، ومنطقه، وخصوصياته الإقليمية، وآلياته، فضلًا عن أنها مكّنت الفريق من معاينة ما إذا كانت الممارسات الموثقة تعبّر عن أنماط متكرّرة أم عن تباينات جوهرية داخل الثقافة الواحدة.
اختار (توبيـن وزملاؤه) كل روضة من الروضات الثلاث الجديدة وفق معيار واحد، هو أن يُنظر إلى برنامجها التعليمي من داخلها وخارجها بوصفه يمثّل مسارًا جديدًا في تعليم الطفولة المبكرة (2009، ص 10). وهكذا أضافوا إلى موقعهم الأصلي في الصين، روضة (داغوان) في (كونمينغ) عاصمة (يونّان) ذات الطابع الريفي البعيد في الجنوب الغربي، موقعًا آخر في قلب (شنغهاي)، المدينة التي اشتهرت بكونها الأكثر تطورًا اقتصاديًا، والأكثر جرأة في إبراز هويتها التقدمية والمنفتحة على العالم (2009، ص 11). وقد كشف هذا التباين، حين قورن بما ورد في أشرطة الفيديو الأولى عام 1989 ثم بما أُعيد عرضه على المشاركين أنفسهم بعد عقدين من الزمن، عن مستويات متباينة من الاستمرارية والتغيير، وألقى الضوء على أثر العولمة في الدفع نحو التجانس، وفي الوقت ذاته على قضايا النمطية والتباين، إذ بيّن أن السلوكيات والممارسات "النمطية" هي الأقدر على البقاء والاستمرار مقارنة بغيرها "غير النمطية".
سعى (توبيـن وزملاؤه 2009) إلى الكشف عن آليات الاستمرارية والتغيير في الثقافات الثلاث التي خضعت للبحث عبر ثلاث مقاربات متكاملة. فأعادوا أولًا تكرار دراستهم الأصلية لعام 1989 في الروضات نفسها لتأمين عنصر المقارنة المباشرة. ثم قاموا ثانيًا بعرض الأشرطة القديمة على المعلّمين والإداريين، سواء من العاملين آنذاك أو من الذين تقاعدوا، ووجّهوا لهم أسئلة دقيقة عمّا بدا متغيرًا وما بقي ثابتًا، مع التوقف عند الأسباب التي تفسّر ذلك. ثم أضافوا ثالثًا إلى دراسة 2009 روضة ثانية في كل مجتمع من المجتمعات الثلاث، بحيث تمثل كل واحدة منها اتجاهًا جديدًا في مسار تعليم الطفولة المبكرة داخل ذلك البلد. وأطلقوا على هذه المقاربة المنهجية، التي تزاوج بين البعد الزمني والبعد الثقافي عبر الاستعانة بمشاهد مصوّرة، مصطلح "الإثنوغرافيا الطولية متعددة الأصوات الموجّهة بالفيديو" (2009، ص 21).
بيّن البحث أنّ الثقافة لم تكن يومًا مجرّد خلفية محايدة، بل هي القوّة التي تُرسّخ الاستمرار وتمنع الانجراف الكامل وراء العولمة والعقلنة وتقلبات الاقتصاد. وأكدت الدراسة أنّ الممارسات الثقافية أبقى أثرًا وأشدّ رسوخًا من أن تذيبها تصوّرات الحتمية الاقتصادية أو مشاريع التحديث والعولمة (2009، ص 224–225). كما برهنت أنّ رياض الأطفال ليست مجرد فضاء للتعليم، بل مرآة للمجتمع ووعاء لقيمه، تواصل حملها إلى الأجيال وتغذيتها بها لتظل حيّة في حياتهم اليومية (2009، ص 225).
تناولت الفقرة السابقة من هذا الفصل القضايا المنهجية المرتبطة بمقارنة التربية عبر الثقافات، مع تركيز ملحوظ على الإشكاليات الإثنوغرافية وأدوات البحث المرتبطة بها. وفي هذا القسم الختامي يصبح من المناسب التوقف عند بعض الاعتراضات الجادة التي وُجّهت إلى الإثنوغرافيا باعتبارها منهجًا للبحث، وفي مقدمتها نزعتها إلى تقديم صورٍ خارج سياقها التاريخي، وهي الملاحظة التي سبقت الإشارة إليها. وقد لخّص (توبيـن وزملاؤه 1989، ص 9) عددًا من هذه الاعتراضات على النحو الآتي:
يتعرض المنهج الإثنوغرافي في البحث والتمثيل لانتقادات حادة، إذ يُنظر إليه أحيانًا على أنّه منهج ساكن لا يراعي حركة التاريخ، وأنه يقدّم تصوّرات مثالية ونماذج نمطية تُعيد إنتاج الوضع القائم بطريقة محافظة. ففي سعيه إلى إبراز مظاهر النظام والانسجام والوظائف داخل المؤسسات، يغفل كثيرًا عن رصد التناقضات والصراعات والاختلالات التي تعتريها، كما ينصرف إلى الطقوس والمعتقدات وما يُعبّر عن روح الجماعة، في حين يتراجع اهتمامه بتحليل الأبعاد المرتبطة بالطبقة الاجتماعية والعلاقات السياسية وبُنى القوة.
لفت (هامرزلي 2006، ص 5) الانتباه إلى أنّ ضيق أفق كثير من البحوث الإثنوغرافية الحديثة من حيث مدّة العمل الميداني قد يدفعها إلى معالجة الواقع بعيون تفتقر إلى الحس التاريخي، فتُهمل الجذور والسياقات الزمنية الأوسع للمؤسسة موضوع البحث. وهنا تبرز إشكالية العيّنة: كيف للباحث أن يضمن أنّ الفترة الزمنية المقتطعة التي يدرسها تجسّد بالفعل أنماط الثقافة على امتدادها الطويل؟ ومن هذا الطرح ينبثق سؤال آخر حول حدود إمكان التعميم ومدى مشروعيته.
أقرّ (توبيـن وزملاؤه) عام 1989 بأنّ أشرطة الفيديو التي سجّلوها، شأنها شأن غيرها من السرديات الإثنوغرافية، "تجمّد الأشخاص والمؤسسات في لحظة زمنية محدّدة وتعزلهم عن سياقاتهم الأوسع"، بحيث تبقى رواياتهم، على الرغم من أنّها بُنيت على رؤى مشاركين من داخل الثقافة ومن خارجها، عرضة لخطر أن تبدو وكأنها بلا زمن أو سياق. وقد أدرك الباحثون هذه المخاطر منذ البداية، فحرصوا على إدخال ما أسموه "إحساسًا بالزمن والمكان والطبقة الاجتماعية" (1989، ص 10) في دراستهم الأولى. ومن زاوية السياق التاريخي، وضعوا بحثهم في الصين بعد خمس سنوات من فرض سياسة الطفل الواحد، وهي فترة كان فيها المربّون والآباء يواجهون سؤالًا ملحًا حول الكيفية المثلى لتنشئة جيل جديد ينمو من دون إخوة. وبالمنهج نفسه راعوا الخصوصية المكانية والجغرافية للمدارس التي درسوها، كما أخذوا في الحسبان البعد الطبقي. أما قضايا النوع الاجتماعي فقد نوقشت بدرجة أقل وضوحًا، مثل ما ورد حول أدوار الأمهات الأميركيات داخل المنزل وخارجه (1989، ص 179–182)، بينما ظلّ حضور قضايا العِرق والإثنية أضعف بكثير. وكما سبقت الإشارة، أعاد (توبيـن) وزملاؤه عام 2009 تكرار دراستهم الأولى وتوسيعها، بغية فهم رياض الأطفال في سياقاتها التاريخية إلى جانب سياقاتها الثقافية.
وقد أوضح (توبيـن وزملاؤه) أنهم "حرصوا على منح الأولوية لتلك السياقات التي يعتبرها أبناء الثقافة أنفسهم الأجدر بالاهتمام" (1989، ص 10). وهذه المقاربة تحمل في طياتها وجهي عملة؛ فهي نقطة قوة لأنها تعكس تقديرًا صادقًا لصوت المشاركين من داخل الثقافة، لكنها أيضًا نقطة ضعف لأن هؤلاء قد يُضفون على واقعهم قراءات ذات نزعة وظيفية محافظة، ينظرون من خلالها إلى الفاعلين والمؤسسات باعتبارهم جميعًا يعملون في تناغم لصالح المجتمع ككل، وكأن الترتيبات الاجتماعية مُوجَّهة بالأساس نحو تحقيق الخير العام. غير أنّ هذه الرؤية قد تحجب زوايا أخرى أكثر نقدًا. ففي جنوب أفريقيا مثلًا، لو استُطلعت آراء قطاعات واسعة من البيض حول الترتيبات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في عهد الفصل العنصري، لربما جاءت إجاباتهم متشبّعة بخطاب وظيفي محافظ يرى أنّ تلك المؤسسات قد وفّرت "تطوّرًا منفصلًا" سلميًا للجماعات العرقية، في سياق إرث تاريخي مثقل بثلاثة قرون من الاستعمار. وبذلك قد يفوّت الباحثون على أنفسهم الاستماع إلى أصوات أخرى تتبنى منظورًا نقديًا، ترى فيه أنّ البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية صُمّمت أساسًا لخدمة مصالح الفئات المهيمنة، وأنّ العلاقات داخل المجتمع تقوم على صراع حول موارد محدودة أكثر مما تقوم على تعاون من أجل الخير المشترك.
أؤكد هنا أنّ الباحث لا يمكنه أن يشرع في دراسة مجتمع أو ثقافة جديدة دون أن يتأثر بما يحمله من خلفيات نظرية ومعتقدات شخصية. فما يظهر له وما يُستبعد من ملاحظاته لا يتحدد بالصدفة، بل يتشكل وفقًا لهذه المنظورات الكامنة. ولهذا فإنّ الدعوة إلى الملاحظة "اللا–نظرية"، التي يرددها بعض المنهجيات الإثنوغرافية، في نظري دعوى زائفة. ولا أجد أفضل من الاستشهاد بما أبرزه (برغر) في كتابه طرائق الرؤية (1972، ص 8): "إن الطريقة التي نرى بها الأشياء تتأثر بما نعرفه أو بما نعتقده".
لا يكفي أن يركّز الباحث على ما يعتبره أبناء كل ثقافة "الأكثر أهمية"، كما ذكر (توبيـن وآخرون 1989، ص 10)، بل يتوجّب عليه أن ينفذ أعمق من ذلك، وأن يعترف بما يختبئ وراء بحثه من مقاصد مضمرة، وخصوصًا ما يتصل منها بالبعد الأخلاقي وبالأغراض القيمية الأشمل. وهنا يبرز سؤال جوهري: لماذا أُجري هذا البحث أصلًا؟ ما الدوافع التي حرّكت الباحث نحوه؟ وما القيم التي طبعت عمله وأثّرت في نتائجه؟ ومن هذا المنطلق أستند إلى رؤية (هابرماس) التي صاغها في كتابه المعرفة والمصالح الإنسانية (1971)، حيث بيّن (ص 197) أنّ "المعرفة لا يمكن اختزالها في أداةٍ يتكيف بها الكائن مع بيئة متحوّلة، ولا هي فعل عقلٍ خالصٍ ينعزل عن سياق الحياة لينغمس في التأمل". فالمسألة عنده لا تقف عند حدود الإبستمولوجيا، بل تتعلق بما سمّاه "المصالح المعرفية"، وهي مصالح أوسع من أن تُردّ إلى نزوات الأفراد أو أجندات الجماعات السياسية، إذ تشكّل في عمقها الأساس الذي تقوم عليه المعرفة ذاتها. وقد ميّز (هابرماس) (1971، ص 308) بين ثلاثة أنماط جوهرية لهذه المصالح: المصلحة التقنية، والمصلحة العملية، والمصلحة التحررية، ولكل منها حقل معرفي يقابله.
يقوم منهج العلوم التجريبية التحليلية على مصلحة معرفية تقنية، وينطلق منهج العلوم التاريخية التأويلية من مصلحة معرفية عملية، بينما يرتكز منهج العلوم النقدية على المصلحة المعرفية التحررية.
أوضح (هابرماس) أنّ العلوم التجريبية التحليلية والعلوم التاريخية التأويلية، التي يصفها أيضًا بالعلوم المنهجية للفعل الاجتماعي مثل الاقتصاد وعلم الاجتماع والعلوم السياسية (1971، ص 310)، تسعى إلى بلوغ معرفة قانونية تهدف إلى الكشف عن القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية. ومع ذلك، شدّد (هابرماس) على أنّ هذا الهدف، رغم أهميته، لا يحيط بكامل طبيعة المعرفة ولا يكشف عن أبعادها الإنسانية الأعمق (1971، ص 310):
لن تظل العلوم الاجتماعية النقدية مكتفية بهذا الحد، بل تسعى إلى تجاوز هذه الغاية لتحدّد متى تُمسك العبارات النظرية بالانتظامات الثابتة للفعل الاجتماعي، والأهم من ذلك أن تكشف متى تُجسّد علاقات تبعية متحجّرة بفعل الأيديولوجيا رغم أنّها قابلة، من حيث المبدأ، للتحوّل.
ظهر في المناقشة السابقة أنّ كثيرًا مما طُرح قد انبنى ضمنيًا على مقولات التفاعلية الرمزية، وهو ما قد يوجّه القارئ للاعتقاد بأنّ ميدان التربية المقارنة يمكن أن يُدرج في إطار العلوم التاريخية التأويلية التي تقوم على اهتمام عملي يتمحور حول فهم التفاعلات الإنسانية وتفسيرها في ضوء سياقاتها الاجتماعية والثقافية. غير أنّني أرى أنّ هذا التصنيف يظل قاصرًا عن الإحاطة بعمق هذا الميدان، وأدافع عن تصور آخر يعتبر التربية المقارنة علمًا اجتماعيًا نقديًا يستند إلى اهتمام تحرري يتجاوز مجرد التفسير العملي ليطرح أسئلة أعمق حول طبيعة توزيع السلطة في المجتمعات، وما يرتبط بها من ثروة اقتصادية وهيمنة سياسية ورأسمال ثقافي ورمزي، فضلًا عن المكانة الاجتماعية والامتيازات التي تُعاد إنتاجها عبر النظم التعليمية. ومن هذا المنطلق فإنّ القيمة الحقيقية للتربية المقارنة تكمن في دورها في خدمة قضايا التنمية التعليمية وتعزيز العدالة التربوية، وهو المجال الذي أجمع عدد من الباحثين البارزين، وفي مقدمتهم (سترومكويست 2005)، على أنّه ميدان التأثير الأبرز والأكثر رسوخًا في إسهامات هذا التخصص.
إذا نظرنا إلى المسألة نظرًا إبستمولوجيًا أوليًا اتضح لنا أنّ الباحثين في الإثنوغرافيا يخطئون حين يتوهمون أنّ بمقدورهم مراقبة ممارسات مجتمع آخر أو ثقافته مراقبة خالصة من أي افتراضات مسبقة، ثم الانطلاق من هذا المراقبة العيانية لبناء استنتاجات استقرائية حول المعتقدات الكامنة، أو الأنماط المنظمة، أو الآليات المولّدة للمعنى التي يُظن أنّها تقف وراء تلك الممارسات. فمثل هذا التصوّر يبدو في جوهره ساذجًا، لأنّ النظر والعمل لا ينفصلان عن الأطر النظرية التي تشكّل وعي الباحث وتوجّه زاوية رؤيته. وإذا أخذنا بجدية ما طرحه (هابرماس) من أنّ المعرفة ليست محايدة ولا تُنتَج في فراغ، بل تتأسس دومًا على مصالح معرفية وقيمية وأخلاقية، فإنّ مسؤولية الباحث في العلوم الاجتماعية تقتضي منه أن يتوقف عند الغايات والدوافع التي تهيمن على عمله، وأن يسائل نفسه: ما الذي يدفعني لإجراء هذا البحث؟ ما القيم التي أستند إليها؟ وما المصالح التي أترجمها في صياغة أسئلتي وفي تفسير نتائجي؟ ومن هذا المنظور أرى أنّ التربية المقارنة تبلغ ذروتها الأخلاقية والمنهجية حين ينطلق الباحث منذ اللحظة الأولى لتشكيل مشروعه من وعي نقدي بالمحاور التي يتوزع على أساسها التعليم وغيره من الخيرات الاجتماعية، فيقوم بتفكيك موضوع دراسته على هذه المحاور، ويكشف عن أشكال التفاوت في توزيعها. وعند هذه النقطة يتضح كيف تلتقي هذه الرؤية مع ما خلص إليه (برنستاين 1976، ص 198–199) من أنّ المصلحة المعرفية التحررية تمثل الركيزة الإبستمولوجية لفهم (هابرماس) للنقد، إذ تجعل البحث الاجتماعي النقدي أداة لا لمجرد الوصف أو التفسير، بل لفضح علاقات التبعية الجامدة التي تبدو وكأنها حتميات لا تقبل التغيير، مع أنّها في حقيقتها قابلة للتحوّل. وتغدو المقارنة عبر الثقافات، حين تُبنى على هذا الأساس، مسعى يتجاوز حدود التحليل الأكاديمي ليصبح مشروعًا موجّهًا نحو العدالة التعليمية، ساعيًا إلى تفكيك بُنى السلطة التي تتحكم في توزيع الثروة والفرص والمكانة الاجتماعية، وإلى الدفع باتجاه أنماط أوسع من المساواة والإنصاف في الميدان التربوي.